أقلام وأراء

غسان زقطان: مأساة السؤال حول الاعتذار في برلين عن عملية “ميونيخ”!

غسان زقطان 20-8-2022م
في ليلة الخامس من أيلول (سبتمبر) عام 1972 استطاع ثمانية من الفلسطينيين تسلّق السياج والدخول الى القرية الأولمبية في مدينة ميونيخ الألمانية حيث كانت تجري دورة الألعاب الصيفية. كانوا بملابس رياضية ويحملون حقائب تبدو حقائب رياضيين، عند السياج، التقوا بمجموعة من الرياضيين الأميركيين العائدين الى القرية بعد سهرة في المدينة وبعد أن أغلقت أبواب القرية، حيث تعاونوا على تسلق السياج وتبادلوا حمل الحقائب من فوق الأسلاك.
كان الهدف من تسلل مجموعة الكوماندوس تلك احتجاز البعثة الرياضية الإسرائيلية المشاركة في الألعاب ومبادلتهم بـ236 أسيراً معظمهم من العرب إضافة الى الياباني أوكاموتو من الجيش الأحمر الياباني وعضوين من منظمة “بايدرماينهوف” الألمانية الراديكالية. كان ذلك العام قد شهد حملة اغتيالات واسعة لكوادر فلسطينية معظمهم لا علاقة لهم بالعمل العسكري مثل غسان كنفاني الذي اغتيل في بيروت مع ابنة شقيقته، كما شهد الجنوب اللبناني في شباط (فبراير) 1972 غارات إسرائيلية متتابعة على قواعد منظمة التحرير الفلسطينية تركت دماراً واسعاً في القرى اللبنانية.
وكما أوضح أهارون كلاين في كتابه “حساب مفتوح” الذي صدر في العام 2006، رفضت رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك، غولدا مائير، فكرة التبادل حتى لو أدى الأمر الى مقتل الرهائن، ونسّق بناء على ذلك ضباط من الأمن الإسرائيلي مع الأمن الألماني ونصبوا كميناً للمختطفين في قاعدة عسكرية تابعة لحلف شمال الأطلسي. كان الكمين كارثياً تماماً حيث قتل الرياضيون التسعة برصاص القناصة كذلك خمسة من المختطفين وضابط وطيار ألماني واحترقت طائرة وتضررت ثانية، كما اعتقل ثلاثة من المختطفين أطلق سراحهم لاحقاً بعد اختطاف طائرة لشركة لوفتهانزا واستبدالهم برهائن ألمان.
يخوض منذ ذلك الحين أهالي الرياضيين القتلى مفاوضات طويلة مع السلطات الألمانية حول التعويضات، ومن المتوقع أن يقوم الرئيس الألماني بزيارة إسرائيل خلال الأيام القليلة المقبلة في الذكرى الخمسين للعملية والاجتماع مع عائلات القتلى.
أُطلق على العملية “اقرث وكفر برعم”، ولكنها ستعرف في ما بعد بـ”ميونيخ”، وهما قريتان مهجرتان في شرق الجليل معظم سكانهما من الطائفة المسيحية المارونية الفلسطينية، تم تهجيرهم في العام 1948 لدواعٍ عسكرية على أن يعودوا خلال أسبوعين، ومنذ تشرين الأول (أكتوبر) 1948 وحتى الآن يحاول سكان القريتين العودة الى أراضيهم التي توزعت بين المستوطنات بعد نسف بيوتهم باستثناء كنيستين، وذلك عبر القضاء والمحاكم والتسويات ومن خلال المسيرات والصلوات. آخر هذه الدعوات جاءت بمبادرة من أبرشية حيفا والأراضي المقدسة المارونية وأبرشية عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل للروم الملكيين الكاثوليك لإقامة يوم صلاة من أجل عودة أبناء القريتين في العشرين من آب (أغسطس) الجاري.
في برلين هذا الأسبوع وُجه سؤال للرئيس الفلسطيني محمود عباس إذا كان ينوي الاعتذار عن العملية… إجابة الرئيس الفلسطيني كانت “أن هناك خمسين جريمة ومحرقة ارتكبتها اسرائيل بحق الفلسطينيين وما زالت”. سيغضب المستشار الألماني وسيعتبر ذلك تقليلاً من شأن المحرقة (الهولوكست)، مذكراً بحساسية الألمان لهذه المقارنة، وستدين وسائل إعلام ألمانية التصريح المفاجئ، ويدين الأميركيون المقارنة وتنفجر هستيريا سياسية في إسرائيل في ما يشبه اجماعاً على اعتبار عباس ناكراً للمحرقة والدعوة الى مقاطعته، وسيضطر غانتس أمام الدعوات للتوقف عن اللقاء بالرئيس الفلسطيني والى تبرير لقاءاته مع عباس.
التوضيح الذي صدر عن الرئاسة الفلسطينية في مواجهة الحملة وأجنحتها أكد اعتبار الهولوكست أبشع جرائم القرن الماضي، ولكنه واصل التأكيد على جرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين، كذلك جاء تصريح رئيس الوزراء محمد اشتية الذي ذهب في المنحى نفسه.
لا يبدو أن أبو مازن في وارد الاعتذار عن عملية ميونيخ، ولكن إجابته فتحت أسئلة كثيرة، واخترقت أحد الطواطم التي تخفي إسرائيل خلفها جرائم لم تتوقف منذ ما قبل إنشائها، وهي جرائم يمكن الإشارة اليها بوضوح في لبنان ومصر وفلسطين، من مدرسة بحر البقر الى قانا وما بينهما وما بعدهما حيث يتراكم جدول طويل من الجرائم في فلسطين.
ولكن السؤال الغريب للصحافي الألماني يعكس وعياً استشراقياً لا يرى في المنطقة سوى إسرائيل، ولا يبصر في مسيرة الضحايا التي تتدفق في المنطقة سوى الضحايا الإسرائيليين، بينما وهو صحافي على بعد أيام من مجزرة إسرائيلية في غزة راح ضحيتها خمسة أطفال إضافة الى أربعين آخرين هي الأخيرة في جدول من المجازر المروعة يتجاوز الخمسين التي ذكرها أبو مازن، ويطالب الفلسطيني بالاعتذار عن مقتل 11 رياضياً إسرائيلياً في ميونيخ قبل خمسين سنة.
السؤال هنا هو المركزي في الحدث وليس الجواب، السؤال هو المفصل الإشكالي وليس الإجابة التي جرى توضيحها، والسؤال أيضاً بحاجة الى توضيح واعتذار.
سؤال قادم من إنكار المأساة الفلسطينية ومحاولة طيها في التجاهل، يولد في الجريمة وينطق باسمها. سؤال هو إجابة بائسة بحد ذاته على: ماذا عن الضحايا الفلسطينيين أيضاً؟ هل سمعت أصواتهم؟
لا شك في أن المحرقة ستبقى تذكيراً قاسياً بما قد يصل اليه الإنسان من وحشية، لا جدال في ذلك، ولكن محاولة استثمارها وتوظيفها للتغطية على جرائم إنسانية جديدة، تجاهل مصائر الآخرين وضحاياهم ومآسيهم التي لم تتوقف، وحماية القاتل الجديد وتمرير جرائمه تحت سحابة من الجهل والتعامي، هو ما ينطبق عليه “التقليل من شأنها”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى