أقلام وأراء

عمار الجندي: جائحة الجفاف: حرائق في أوروبا وإرهاب في غيرها؟

عمار الجندي 17-8-2022م

تعاني أوروبا من أزمة جفاف لم تشهد مثلها منذ 500 عام، تركتها تواجه بحراً من المتاعب يضع اقتصادها ومستقبل أهلها ونباتها وحيواناتها على كف عفريت، ويزيد من نقص إمدادت الغذاء الذي تسببت بجزء منه سلفاً أزمة أوكرانيا وكوفيد -19. وإذ تجري الدماء في شرايين القارة بتثاقل، تمارس درجات الحرارة المجنونة سياسة الارض المحروقة هنا وهناك.
تعبت الكاميرات من التقاط صور الأنهار التي باتت مجرد وديان رملية باهتة كأنها لم تعرف الماء في حياتها، والأشجار التي يبست، والأسماك والطيور التي ودعت الحياة عطشى. وملّت الصحف نشر قصص البؤس والخيبة وتسليط الضوء على تقاعس شركات معنية ومسؤولين والتحذير من مستقبل أشد حلكة قد تنطوي فصوله على تعزيز مخاطر الإرهاب.
وأوروبا التي طالما فرّقتها السياسة، تداعت لإطفاء النار التي التهمت غابات الصنوبر على مسافة 40 كلم في جنوب غربي فرنسا وإجلاء 10 آلاف من السكان. والمؤلم أن فرنسا لم تتعافَ بعد من حرائق تموز (يوليو) الماضي، أكثر الأشهر جفافاً فيها منذ 1961، والتي أتت على 14 الف هكتار. وعن حرائق إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وبريطانيا وألمانيا… حدث ولا حرج.
وتعاني أنهار أوروبا التي كانت يوماً عملاقة ما تعانيه. نهر لوار، الأطول في فرنسا، لم يعد يتدفق هادراً بل صار بوسع المرء أن يسير على رمال مجراه العارية. ونظيره بو، أكبر الأنهار الإيطالية الذي كان يجري بخيلاء على امتداد 652  كيلومتراً، خسر عشر مياهه وانخفض مترين عن مستواه المعتاد. وانخفض ارتفاع مياه الراين الذي تحمل مياهه قرابة 80 في المئة من الشحن الداخلي في ألمانيا إلى 40 سم في بعض المناطق. كما ضاقت السبل بالدانوب ولم تعد مراكب النقل والسياح تمخر عبابه، لا سيما في جزئه الهنغاري، فيما تعمل صربيا وبلغاريا ورومانيا على تجريف مجراه الذي انخفض معدل المياه فيه. وفي إنكلترا، جفّ مصدر نهر التيمز الأساسي وانتقل بصورة غير مسبوقة قرابة 8 كيلومترات من موقعه الأصلي في مقاطعة غلوسترشاير.
وترافقت أزمة الجفاف بشح حاد في مياه الشرب، إذ باتت 100 بلدية في أنحاء فرنسا محرومة من مياه الشرب. ولم يعد إعلان حالة الجفاف رسمياً ومنع استخدام خراطيم المياه استثناءً، بل صار القاعدة في شمال إيطاليا وانكلترا والبرتغال وإسبانيا التي صار ثلثا مساحتها الإجمالية عرضة للتصحر بسبب الأزمة.
وإذا لم يعد لدى أوروبا ما يكفي من مياه الشرب التي لا تزيد نسبتها على 9 في المئة من المخزون العام، فما مصير الزراعة والقطاعات المتفرعة منها التي تستهلك عموماً نحو 60 في المئة من مياه القارة؟ يبست ورود وأشجار وادي نهر اللوفر الذي كان يوماً “حديقة فرنسا”، وطويت صفحة الأجبان الفرنسية التقليدية التي كانت تنتجها منطقة أوفيرن من قرون عديدة، وسيتراجع انتاج فرنسا من القمح ومن الذرة، وهي من كبريات الدول المصدرة لهما في العالم. وتتصدر صناعة الألبان ومشتقاتها ضحايا أزمة الجفاف في سويسرا. أما إسبانيا التي تصدّر للعالم نصف ما يستهلكه من زيت الزيتون، فسينخفض محصولها من الزيتون بـ 20 في المئة عنه في السنوات الخمس الأخيرة. ولم تترك الأزمة إيطاليا بسلام بل قضت على 40 في المئة من الزاراعات في شمالها، وهو شطرها الميسور، المشهور بجمال طبيعته، وبعنصرية قادته السياسيين، مثل ماتيو سالفنيني زعيم حزب “الرابطة” المشغول حتى الآن بمهاجمة الهجرة والمهاجرين، ربما لأنهم يمنعون المطر عن بلاده!
لكنّ ثمة أموالاً ضخمة تنفق في دول مثل إسبانيا وفرنسا وألمانيا لتخفيف وطأة أزمة الجفاف وأخواتها. مع ذلك فالإنسان الأعزل، يواجه وحده كوابيسها، فيما ينشغل المسؤولون عنه بصراعاتهم السياسية، كما في بريطانيا وإيطالياً، أو بإجازاتهم كبوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني المنتهية ولايته، الذي ذهب في عطلة ثانية خلال الشهر الأخير له في الحكم. 
إلا أن هذا الواقع المرير، ليس وليد اللحظة، كما أن صفحته لن تُطوى بين ليلة وضحاها. فقد اعتبر تقرير اصدرته منظمة الأمم المتحدة في حزيران (يونيو) الماضي أن قلة المياه ستكون “الجائحة التالية” لناحية عواقبها التي يمكن أن تقارن بكوفيد-19. وما يرجح كفة هذه المقولة، هو أن زوال شبح الموت البطيء عطشاً لن يتلاشى بمجرد هطول أمطار كافية تبعث الخصب من جديد في الأرض. فالمشكلة باقية ما بقيت جذورها العميقة، وأهمها تزايد عدد السكان المطرّد وتوزع مصادر المياه بشكل غير منتظم. 
غير أن التغير المناخي هو السبب الرئيس بامتياز لشحّ المياه. كان الأمل أن اتفاقية باريس للمناخ (2015) التي هدفت بشكل اساسي الى ضبط الانبعاثات الغازية لمنع ارتفاع درجات الحرارة العالمية أكثر من 1.5 درجة مئوية فوق مستوى ما قبل العصر الصناعي كي لا تصبح الفيضانات والعواصف والجفاف شائعة والزراعة صعبة على نحو يهدد الامن الغذائي العالمي. لكن هذا لايكاد يُقارن بما سيحصل إذا وصلت درجة الحرارة العالمية إلى 2.00 درجة مئوية (فوق معدلها السابق على العصر الصناعي)، فذلك سيكون “كارثة” حقيقية، على حد تعبير علماء البيئة. 
والعالم لم يتفق بعد على اتباع استراتيجية مناخية موحدة من شأنها أن تزيح كابوس درجة الحرارة التي تزيد على 1.5 درجة مئوية، كما تجلى في انسحاب الولايات المتحدة في ظل الرئيس دونالد ترامب من اتفاقية باريس للمناخ، وفي الخاتمة المخيبة لمؤتمر “كوب 26” لتغير المناخ في غلاسكو.
ثمة جانب آخر لتغير المناخ، لا يحظى بالاهتمام الذي يستحقه. فالتعامل مع هذا القضية سياسي بالدرجة الأولى، وله نتائج سياسية بامتياز. وإذا استطاعت أوروبا أن توحد جهودها، أقله الآن لمواجهة حرائق فرنسا، على الرغم من خلافاتها حول كيفية معالجة الأزمة، وتسابقها مع بريطانيا مثلاً على الموارد السمكية، فهناك الكثير من دول العالم التي يهدد فيها التنافس على المصادر الطبيعية لا سيما المياه، بصراعات دموية، في مقدمها الشرق الأوسط، حيث الاصبع دائماً على الزناد من دون الحاجة إلى دافع إضافي.
وقد لا يقف الأمر عند حدّ نشوب حروب، أو إلحاق أضرار جسيمة بالصحة العامة، بل ربما يتخطاه الى صراعات تدور بين فواعل من غير الدول، أو بمشاركة هذه الفواعل. وبالفعل نبّه البنتاغون في تقرير له، أعلنه تشاك هاغل وزير الدفاع الأسبق في 2014  إلى أن تغير المناخ “يضاعف التهديدات” ويشكل خطراً على الأمن القومي فيزعزع استقرار الحكومات ويرفع درجة التوتر في العالم كما يساهم في إذكاء الإرهاب والإيديولوجيات المتطرفة التي يستند إليها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى