شوؤن دولية

عبد الله عبد السلام: ماذا بعد تولي ليز تراس رئاسة الحكومة البريطانية؟

عبد الله عبد السلام * 11-9-2022l

خلال الحملة الانتخابية التى نظمها حزب المحافظين البريطانى الحاكم لاختيار زعيم له وبالتبعية رئيس للوزراء خلفاً لبوريس جونسون الذى أعلن استقالته فى 7 يوليو الماضى (2022)، سيطرت القضايا الداخلية على النقاش بالنظر للأزمة الاقتصادية الحادة التى تواجهها البلاد نتيجة تداعيات وباء كورونا ثم الحرب الروسية على أوكرانيا. وتوارت للظل تقريباً قضايا السياسة الخارجية باستثناء بعض التصريحات النادرة من مرشحى السباق الذى انتهى الإثنين 5 سبتمبر الجاري بفوز ليز تراس وزيرة الخارجية بزعامة الحزب ورئاسة الحكومة.

تراس، التى تسلمت مقاليد السلطة الثلاثاء 6 سبتمبر الحالى، سيتعين عليها أن تنخرط سريعاً فى التعامل مع العالم، لأن أحد الحلول الرئيسية للأزمة الاقتصادية الداخلية يكمن فى التوصل لاتفاقيات تضمن تخفيف النقص الراهن فى كميات الغاز، والذى تسبب فى ارتفاع قياسى لتكاليف المعيشة تشكو منها ملايين الأسر البريطانية، كما يكمن فى الضغط على الدول المنتجة- باستثناء روسيا- لخفض أسعار البترول.

السياسة الخارجية ضرورة ملحة إذن لصانع القرار البريطانى رغم انشغاله الشديد بالمشاكل الداخلية. فى هذا السياق، قد يكون من المفيد التعرف على رؤية رئيسة الوزراء الجديدة للقضايا الملحة فى العالم والخيارات المتاحة أمامها ومدى قدرتها على تحقيق إنجازات تساعدها داخلياً. 

السمة البارزة للسياسة الخارجية التى اتبعتها ليز تراس خلال شغلها منصب وزير الخارجية (من 15 سبتمبر 2021 وحتى توليها رئاسة الحكومة)، هى التركيز على توقيع أكبر عدد من الاتفاقيات التجارية بين بريطانيا ودول العالم لتعويض خروج البلاد من الاتحاد الأوروبى، وتصعيد لهجة الخطاب ضد الدول التى توجد مشاكل بينها وبين بريطانيا وعلى رأسها روسيا والصين والاتحاد الأوروبى. هذه السياسة تحظى بما يشبه الإجماع داخل دوائر حزب المحافظين، إلا أن تراس أضفت عليها لمساتها الخاصة. وقبل توليها الخارجية، شغلت تراس منصب وزيرة التجارة الدولية البريطانية (2019- 2021)، حيث قدمت للبرلمان قانون التجارة الذى وضع الإطار القانونى لإجراء صفقات تجارية مع دول العالم. كما رفعت الحظر على صادرات السلاح لدول معينة لإقناعها بتوقيع اتفاقات تجارية مع بريطانيا. أيضاً تم إبرام اتفاق تجارى مع اليابان (2021) لإعفاء 99% من صادرات بريطانيا لليابان من الرسوم التجارية. تبع ذلك توقيع اتفاقات مع دول عديدة بينها أستراليا ونيوزيلندا والنرويج وغيرها.

حوار “الصم والبكم”

لكن تراس احتلت صدارة الأنباء فى بلادها بتصريحاتها المثيرة للجدل حول روسيا والصين وأوروبا. وحتى قبل اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية فى 24 فبراير الماضى، انتهجت سياسة متشددة للغاية تجاه موسكو متهمة الرئيس الروسى فيلاديمير بوتين بالسلطوية وقمع حقوق الإنسان ودعمت جماعات المعارضة متهمة موسكو بالتدخل فى الشئون الداخلية لدول الغرب. لكن الحرب نقلت تشددها الذى هو امتداد لتشدد جونسون ضد روسيا، حيث كان الزعيم الغربى الأكثر انتقاداً لروسيا ودعماً لأوكرانيا التى زارها مرات عديدة تفوق أى زعيم آخر بعد الحرب.

أما تراس، فقد دخلت فى صدامات كلامية مع القادة الروس جعلتهم يعاملونها بطريقة غير دبلوماسية. وقبل اندلاع الحرب، سافرت تراس إلى موسكو مثل مسئولين غربيين كثيرين فى محاولة لمنع الحرب، لكن سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسى وصف محادثاته معها بأنها أشبه بحوار بين الصم والبكم، مما جعل تاتيانا ستانوفايا المحللة السياسة الروسية تقول: “يحلم الكرملين بالتعامل مع قادة أقوياء وأكفاء لكن تراس تمثل جيلاً جديداً من السياسيين الغربيين السطحيين الذين يأتون ويذهبون وهم غير قادرين على التفكير الاستراتيجى طويل المدى أو التعامل مع دول مثل روسيا”.

تدافع الزعيمة البريطانية الجديدة عن إمداد أوكرانيا بشتى الأسلحة الحديثة ليس فقط للدفاع عن نفسها بل لاسترداد الأراضى التى خسرتها وبينها شبه جزيرة القرم 2014، كما تضغط بشدة لفرض أقسى قدر ممكن من العقوبات على موسكو. وهى فى سبيل ذلك انتقدت دولاً غربية عديدة بينها ألمانيا لاعتقادها أنها لا تقف بقوة وحزم ضد روسيا. وقد وصفها كاتب بريطانى بأنها ترغب فى حلول على طريق تاتشر وريجان، أى الحلول الجذرية وليس الحلول الوسط المفيدة للطرفين.

أما بالنسبة للصين، فإن تراس وعدت خلال حملتها الانتخابية بالاعتراف علناً بأن ما يحدث ضد أقلية الإيجور المسلمة فى إقليم شينجيانج المتمتع بالحكم الذاتى إبادة جماعية انسجاماً مع الموقف الأمريكى. واستغلت تشدد الرأى العام البريطانى الذى وضع، فى استطلاع للرأى، الصين كتهديد يتساوى مع التهديد الروسى وتغير المناخ والإرهاب، لتستخدم تقريباً نفس اللغة التى تستخدمها عند انتقادها موسكو. وأشارت إلى أنها ستعمل على تحديث الاستراتيجية الدفاعية والأمنية البريطانية وكذلك التجارية مع آسيا، بما يؤدى إلى زيادة التعاون مع الحلفاء الذين يتشاركون نفس القيم السياسية والاقتصادية والديمقراطية والأيديولوجية.

تحولات محتملة

تحتل العلاقة مع الولايات المتحدة حيزاً مهماً من السياسة الخارجية البريطانية ومن تفكير ونشاط أى رئيس للوزراء. وهناك تصور يعتنقه سياسيون بريطانيون وقطاع مهم من الرأى العام بأن ما يربط بريطانيا بالولايات المتحدة من تاريخ وروابط وقيم مشتركة ولغة واحدة يجعل العلاقة بين البلدين تحمل صفة “العلاقة الخاصة”. ويرنو هؤلاء السياسيون بأبصارهم دائماً عبر الأطلنطى ويعتبرون واشنطن هى الصديق الأكبر لبلادهم وليس أوروبا. ولأن هذا هو التصور البريطانى الدائم سواء كان الحزب الحاكم هو المحافظين أو العمال، فليس من المتوقع حدوث تغيير نوعى فى العلاقة. كما أن الإدارة الأمريكية، فى ظل التحديات الهائلة التى تواجهها سواء من جانب روسيا أو الصين، ليست فى وارد التخلى عن هذه العلاقة أو إهمالها.

لكن ذلك لا يمنع من إمكانية حدوث بعض التباينات بين البلدين خاصة بشأن أيرلندا الشمالية، حيث تصر تراس على إلغاء البروتوكول الخاص بالإقليم، والذى يسهل التعامل المباشر بينه وبين الاتحاد الأوروبى عبر جمهورية أيرلندا، الأمر الذى اعتبره الوحدويون الذين يؤيدون بقاء الإقليم ضمن التاج البريطانى، انتقاصاً من السيادة البريطانية. إلا أن الإدارة الأمريكية حذرت مراراً من إلغاء البروتوكول، مع ملاحظة أن أيرلندا تحظى بعلاقة خاصة مع الولايات المتحدة بالنظر إلى أن عشرات الملايين من الأمريكيين ينحدرون من أصول أيرلندية، وبينهم الرئيس جو بايدن. كما أن من بين نواحى الخلافات رغبة بريطانيا فى توقيع اتفاق للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة تحظى فيه بمزايا استثنائية، إلا أن هناك إحجاماً أمريكياً خاصة من الديمقراطيين حتى الآن عن توقيع مثل هذا الاتفاق.

كل ذلك حدا برئيسة الوزراء الجديدة، إلى القول إنه “لا ينبغى لبريطانيا أن تقلق مثل فتاة مراهقة فى حفلة إذا لم تشعر أن علاقتها مع صديقها ليست جيدة بما فيه الكفاية”.

لهجة تراس التصعيدية تشمل أيضاً الاتحاد الأوروبى الذى توجه له انتقادات شديدة بشكل شبه دائم. ومن المفارقات أنها كانت من قبل لا تمانع فى بقاء لندن داخل الاتحاد فى علاقات أفضل مع أوروبا، وذلك عندما كانت عضوة فى حزب الأحرار الديمقراطيين، لكن انتقالها لحزب المحافظين نقلها من خانة المؤيد إلى المتشكك ثم المعارض. هذا التحول جعل روبرت سينيه أستاذ علم السياسة بجامعة لندن يصفها بـ”الحرباء التى تجرى وراء طموحها السياسى أكثر من قناعاتها السياسية”، ضارباً مثلاً بموقفها من البريكسيت (الخروج البريطانى من أوروبا)، والذى خضع لتغيرات عديدة فى سنوات قليلة لتكون فى النهاية أحد أشد المعارضين لأوروبا داخل الحكومة البريطانية. ورغبة منها فى التشبه برئيسة الوزراء السابقة مارجريت تاتشر التى كانت تنتقد بشدة المفوضية الأوروبية وأعضاءها خاصة فرنسا وألمانيا، ردت تراس على سؤال بشأن ما إذا كانت تعتبر الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون صديقاً أم عدواً؟، قائلة: “سنحكم عليه بالأفعال وليس بالأقوال”. وقد رد ماكرون عليها قائلاً: “ليس من الجيد أن تفقد اتجاهك. إذا سُئلت نفس السؤال، فلن أتردد لثانية فى التأكيد أن فرنسا صديقة للشعب البريطانى”.

الشرق الأوسط.. الأولوية للتجارة

ماذا عن السياسة البريطانية تجاه الشرق الأوسط؟. سياسياً تراجع الدور البريطانى كثيراً فى المنطقة سواء على المستوى الثنائى أو حتى قبيل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى نظراً لتراجع الدور الأوروبى نفسه واعتماده على المساحة التى توافق الولايات المتحدة على منحها. ورغم هذا التراجع، إلا أن فترة حكم جونسون شهدت انحيازاً شديداً لإسرائيل فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ومن المتوقع أن يتواصل هذا الانحياز بل ربما يزيد. والدليل على ذلك، أن تراس صرحت خلال لقاء لها مع مجموعة “أصدقاء إسرائيل” فى حزب المحافظين أنها ستدرس مسألة نقل السفارة البريطانية من تل أبيب إلى “القدس المحتلة”. وبالطبع سيظل الموقف البريطانى متشدداً تجاه الملف النووى الإيرانى وأقرب للموقف الأمريكى وليس الأوروبى.

ومع تضاؤل الجانب السياسى، فإن التركيز سيكون على التجارة والعلاقات الاقتصادية والاتفاق على صفقات، نظراً لتدهور الوضع الاقتصادى البريطانى. ويؤكد دبلوماسيون بريطانيون أنه سيتم إعطاء الأولوية للفرص التجارية والتعاون مع دول المنطقة وخاصة دول الخليج. وأشاروا إلى أن الجزائر تحتل حيزاً مهماً فى الاهتمام البريطانى من أجل التوصل لصفقات غاز وطاقة محتملة لتعويض انخفاض إمدادات الغاز الروسى إلى أوروبا وبريطانيا.

تبدو رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة شديدة الثقة بنفسها وبقدراتها على الحصول على مكاسب اقتصادية وتجارية لبريطانيا، ويتوقع أن تواصل هذا النهج ولكن بلغة تصعيدية ولهجة متشددة تعيد للأذهان اللغة التى كانت تستخدمها تاتشر فى ثمانينات القرن الماضى. كانت تاتشر مستندة على دور بريطانى مؤثر من بقايا الدور البريطانى الإمبراطورى. كما أن العلاقة السياسية الفريدة التى نسجتها تاتشر مع ريجان أعطتها تأثيراً ونفوذاً أكبر باعتباره رئيس القوة العظمى الأكبر آنذاك. لكن الوضع تغير حالياً، فالوضع الاقتصادى البريطانى هو الأسوأ منذ عشرات السنين، والنفوذ الدولى تراجع بشدة بعد البريكسيت وعدم قدرة لندن على تعويض القدرات التى كانت تتمتع بها باعتبارها عضواً رئيسياً فى الاتحاد الأوروبى إلى جانب ألمانيا وفرنسا. والعلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وبريطانيا لم تعد موجودة بالشكل الذى يتمناه الساسة البريطانيون. كما أن التحول الأمريكى من الاهتمام بأوروبا إلى التركيز على منطقة آسيا والمحيط الهادئ لمواجهة الصعود الصينى، قلل من الحديث عن هذه العلاقة.

ولذلك، يشكك محللون سياسيون فى إمكانية تحقيق الأهداف الاقتصادية الطموحة أو تعظيم الدور السياسى البريطانى دولياً. ويرى البروفيسور أناند مينون مدير مركز أبحاث المملكة المتحدة والأستاذ بجامعة كينجز كوليدج بلندن أنه يجب على أى رئيس للوزراء إدراك الحاجة للتوازن بين الصرامة ومواصلة التعامل مع الخارج. وعلى سبيل المثال، فإن قطع التجارة مع الصين ليست طريقة جيدة لأن التجارة معها جزء من حل أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة فى بريطانيا.

إجمالاً.. الوقت ليس فى صالح تراس لكى تثبت نجاح رؤيتها للعالم، فالمشاكل الاقتصادية هائلة وتراجع شعبية حزب المحافظين ودعوات المعارضة ستتصاعد لإجراء انتخابات مبكرة، لأن رئيسة الوزراء جرى انتخابها من جانب أعضاء حزب المحافظين (81 ألفاً فقط) وليس من الشعب. وخلال الشهور القليلة المقبلة سيتضح هل سيخدم استدعاء تراس طريقة تاتشر فى التعامل مع الخارج والانحياز للمتشددين الصقور، طموحاتها السياسية والأهم سيكون مفيداً لبريطانيا أم لا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى