أقلام وأراءالاستيطان

صلاح مخلوف: عنف المستوطنين في الضفة الغربية: السلاح الخفي لنظام الأبارتهايد الإسرائيلي

صلاح مخلوف 22-10-2025: عنف المستوطنين في الضفة الغربية: السلاح الخفي لنظام الأبارتهايد الإسرائيلي

 المقدّمة:

يُعَدّ عنفُ المستوطنين في الضفة الغربية أحد أكثر مظاهر الاحتلال الإسرائيلي فجاجةً وتكثيفًا للسياسة الاستعمارية. فهو لا يُمثّل حالاتٍ فرديةً أو سلوكًا متطرفًا من جماعاتٍ هامشية، بل يُجسّد ركيزةً أساسيةً في منظومةٍ استعماريةٍ متكاملة تهدف إلى السيطرة على الأرض وإخضاع السكان الفلسطينيين عبر أدواتٍ مادية ورمزية متشابكة. ومع مرور العقود، تحوّل هذا العنف من سلوكٍ عنيفٍ منفلت إلى استراتيجيةٍ ممنهجةٍ ترعاها الدولة وتغذيها مؤسساتها الرسمية، في إطار مشروعٍ استيطانيٍّ يسعى إلى إعادة تشكيل الجغرافيا الفلسطينية لصالح “يهودية المكان” وإقصاء الفلسطينيّين منها تدريجيًّا.

أولًا: الاستيطان وعنف السيطرة على الأرض

منذ احتلال الضفة الغربية عام 1967، شرعت إسرائيل في نهب مساحاتٍ شاسعةٍ من الأراضي الفلسطينية تجاوزت مليوني دونم، تحت ذرائع متعدّدة كإعلانها “أراضي دولة” أو “مناطق إطلاق نار” أو “محميات طبيعية”. غير أنّ الغاية الحقيقية وراء هذه التصنيفات القانونية الملتوية كانت تهيئة المجال الجغرافي لتوسيع الاستيطان وتقطيع أوصال الوجود الفلسطيني.

تُظهر الوقائع أنّ الاستيطان لم يكن نشاطًا مدنيًّا معزولًا، بل مشروعًا سياسيًّا منظَّمًا، إذ وفّرت الدولة الحماية القانونية واللوجستية للمستوطنين، وشقّت الطرق لخدمتهم، ومدّت لهم شبكات المياه والكهرباء، ومنحتهم امتيازات اقتصادية. بهذا الشكل، تحوّلت عملية الاستيلاء على الأرض إلى سياسة رسمية تُدار عبر مؤسسات الدولة وجيشها وقضائها.

ثانيًا: عنف المستوطنين كامتداد لعنف الكيان

تتظاهر إسرائيل بتفريقٍ شكليٍّ بين عنفٍ رسمي تمارسه الدولة ضمن “القانون”، وآخر “شعبي” يقوم به المستوطنون بشكلٍ منفلت. إلا أنّ هذا الفصل ما هو إلا خداعٌ لغويٌّ يهدف لتبرئة الكيان من مسؤولية العنف، بينما الواقع يُظهر تكاملهما التام.

فالجيش يقف موقف المتفرّج أثناء اعتداءات المستوطنين، بل يوجّه سلاحه نحو الضحايا الفلسطينيين في كثير من الأحيان. وتتحوّل القرى الفلسطينية إلى ساحات مغلقة يُمنع أهلها من دخول أراضيهم الزراعية بحجة “المناطق العسكرية المغلقة”، بينما المستوطنون يتجولون بحرية ويواصلون الاعتداء والحرق والتخريب.

تؤكد البيانات الحقوقية أنّ جهاز إنفاذ القانون الإسرائيلي يتواطأ بوضوح، إذ أُغلقت أكثر من 90% من ملفات العنف دون توجيه اتهامات، ما يعكس وجود سياسة منهجية للإفلات من العقاب.

ثالثًا: عنف المستوطنين كأداة في نظام الأبارتهايد

يُعَدّ هذا العنف جزءًا لا يتجزّأ من بنية الأبارتهايد الإسرائيلي، القائم على التفوّق العرقي وإعادة توزيع الموارد على أساسٍ قوميٍّ ودينيٍّ. فالأرض في هذا النظام تُعتبر موردًا مخصصًا حصريًا لليهود، بينما يُدفع الفلسطينيون تدريجيًّا إلى معازل مغلقة ومكتظة تُفقدهم القدرة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية الطبيعية.

وعبر تكرار الاعتداءات اليومية — من إحراق الحقول واقتلاع الأشجار إلى سرقة المحاصيل ومهاجمة الرعاة — يتشكّل رعبٌ ممنهجٌ يُجبر الفلسطينيين على الانسحاب الصامت من أراضيهم، مما ينتج “جدرانًا شفافة” تحدّ من تحركهم دون أن تُرى بالعين، لكنها تُمارس أثرها القمعي بفعالية أكبر من الجدار المادي.

بهذه الطريقة، يتحوّل عنف المستوطنين إلى أداة جغرافية لإعادة رسم الحدود الديموغرافية والسياسية في الضفة، حيث يسبق فعل المستوطنين تدخل الجيش، أو يأتي متزامنًا معه في تناغمٍ تامٍّ بين الرسمي وغير الرسمي، بين المعلن والمستتر.

رابعًا: الآثار الاجتماعية والاقتصادية للعنف

تُخلّف هذه الممارسات آثارًا مدمّرة على التجمعات الفلسطينية، إذ تُقوّض أنماط المعيشة التقليدية القائمة على الزراعة والرعي، وتُفكّك البُنى الاقتصادية للمجتمعات الريفية. تحت وطأة الخوف المتواصل، تتراجع الزراعة كمصدر رزق، ويُهجَر كثير من الأراضي التي لم تعد مجدية أو آمنة.

النتيجة المباشرة هي تحويل الفلسطينيين من فاعلين منتجين إلى جماعاتٍ محاصرةٍ ومُفقَرة، وتآكل الأمن الغذائي، وتراجع التماسك الاجتماعي، بما يخدم الرؤية الإسرائيلية في إفراغ الأرض من سكانها الأصليين دون ضجيج.

خامسا: المطلوب فلسطينيًّا في مواجهة عنف المستوطنين

يتطلّب الواقع الراهن استجابة فلسطينيّة تتجاوز ردّات الفعل الآنية إلى مقاربة استراتيجية شاملة تربط بين المقاومة الميدانية، والعمل القانوني الدولي، والتحرّك الدبلوماسي والإعلامي.

أولًا، لا بدّ من توثيقٍ مؤسَّسي منظَّم لكل انتهاكات المستوطنين وعنفهم باعتباره جزءًا من منظومة الأبارتهايد، تمهيدًا لتقديم ملفاتٍ قانونية متكاملة أمام المحكمة الجنائية الدولية وغيرها من الهيئات الأممية.

ثانيًا:  ينبغي تفعيل الدبلوماسية الرقمية والشعبية لفضح العلاقة البنيوية بين الكيان والمستوطنين أمام الرأي العام العالمي، وكشف زيف الادعاء بأنّ العنف نابع من “أفراد متطرّفين” لا من نظامٍ استعماريٍّ متكامل.

ثالثًا: من الضروري تعزيز صمود المجتمعات الفلسطينية في المناطق المهدّدة عبر مشاريع تنموية، ودعم الزراعة والرعي، وتشكيل لجان حماية شعبية بالتنسيق مع منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية.

وأخيرًا، يتطلّب الأمر وحدةً وطنيةً فلسطينيةً حقيقية، تُعيد تعريف المواجهة باعتبارها دفاعًا عن الوجود  وتبني رؤية نضالية موحَّدة تُوازن بين الفعل الميداني والسياسي والإعلامي، لأنّ مواجهة العنف البنيوي تحتاج إلى استراتيجية بنيوية مضادّة تقوم على التنظيم، والتماسك، والاستمرارية.

المراجع :

https://www.btselem.org/arabic/settler_violence

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى