أقلام وأراء

رياض قهوجي: المصالح الاقتصاديّة تغيّر شكل التّحالفات والعلاقات الإقليميّة وتربك القيادات اللبنانيّة

رياض قهوجي 22-6-2023: المصالح الاقتصاديّة تغيّر شكل التّحالفات والعلاقات الإقليميّة وتربك القيادات اللبنانيّة

تشهد الساحة الدولية تغيرات متسارعة بفعل حرب أوكرانيا وتصاعد حدة التنافس بين الصين والولايات المتحدة الأميركية. وترخي هذه التغيرات بظلالها على التحالفات بين الدول وموازين القوى في مناطق عدة، ومن بينها الشرق الأوسط. وأهم مميزات التحالفات المستجدة أنها لم تعد شاملة ولم تعد لها معايير أو هوية واضحة. فلم يعد التقارب الطائفي أو المذهبي أو العرقي أو الثقافي بين أعضاء التحالف معياراً أساسياً لتشكيله أو الانضمام إليه، أو حتى من أهدافه. فالمصالح باتت متداخلة، ولتجنب الانتماء إلى أحد المعسكرين المتصارعين – الصيني والأميركي – تتجه معظم الدول لتشكيل تحالفات أو الدخول في بعضها تمكنها من زيادة أمنها من نواح متعددة: عسكرياً واقتصادياً وسياسياً.

الدول التي تبحث عن تحالفات مبنية على أمور عقائدية وثقافية ستجد صعوبة في حماية مصالحها في هذه الفترة. فمعظم الدول الصغرى والوسطى تريد أن تنظر إلى النظام العالمي الحالي على أنه بلا قطب مسيطر يحتم عليها الالتفاف حوله والاعتماد عليه حصراً لحماية مصالحها. فهدف تحالفاتها وسياساتها الخارجية اليوم هو تعزيز اقتصادها عبر الاستثمار بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والطاقة المتجددة والنفط والفضاء والذكاء الاصطناعي. حتى تلك التي تطور صناعاتها الدفاعية، فهي تبقيها ضمن إطار يخدم الأهداف المدنية أيضاً. وتسعى الدول لتأمين سلسلة الإمداد وتأمين حاجياتها وتأمين صادراتها عبر الدخول في تحالفات لبناء طرق مواصلات برية وبحرية وجوية.

معظم دول الخليج العربي وقوى أخرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا باتت تدرس خياراتها وتقرر تحالفاتها، بناءً على ما يخدم أمنها الاقتصادي بالدرجة الأولى، ويعزز أمنها العسكري والسياسي بالدرجة الثانية. حتى أن هذا بات هدف سياساتها الخارجية. وهذا يفسر التغييرات والتحالفات المستجدة التي شهدتها المنطقة خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة. فتحالف الإمارات وأميركا وإسرائيل والهند والمعروف باسم I2-U2 هدفه تأمين خط مواصلات بحري يربط آسيا بأوروبا. والإمارات التي تربطها علاقات ممتازة مع الصين لم تتردد بالدخول في تحالف تسعى عبره أميركا لإيجاد خط منافس لطريق الحرير الصيني. فهي تحالفات على القطعة، وفي هذه الحالة يخدم هذا التحالف قطاع الشحن البحري الذي للإمارات مكانة قوية فيه إقليمياً وعالمياً.

حتى العلاقات بين الدول التي كانت حتى الأمس القريب لا تربطها ببعضها بعضاً أي علاقة دبلوماسية، شهدت تغيراً لأسباب اقتصادية محضة. فالاتفاقيات الإبراهيمية كانت لها أهداف عديدة من جانب الدول العربية الموقعة عليها، وعلى رأس هذه الأهداف تعزيز اقتصادها والحصول على التكنولوجيا المتطورة التي تملكها إسرائيل في مجالات الاتصال والدفاع والأمن السيبراني والطائرات المسيّرة. وبحسب الصحف الإسرائيلية، فإن ربع صادرات إسرائيل من السلاح في عام 2022 ذهبت إلى دول عربية. هذا في وقت لم تغير هذه الدول من مواقفها السياسية في ما يخص القضية الفلسطينية.

ويأتي قرار إنهاء القطيعة مع إيران وإعادة العلاقات الدبلوماسية معها من جانب الإمارات العربية المتحدة، ولاحقاً السعودية في هذا السياق أيضاً. فإيران تعاني عزلة دولية وعالمية نتيجة العقوبات الأميركية والغربية عليها، وبالتالي فإن تغيير سياساتها مع جيرانها سيخدم مصالحها الاقتصادية كثيراً، وينهي عزلتها الإقليمية. أما من ناحية جيرانها العرب فهم يريدون تخفيض التوتر مع إيران لحل المشكلات المتعلقة بأمن الملاحة في مياه الخليج وحرب اليمن. كما أن هذه الدولة ترى الحماسة المستمرة لواشنطن لتوقيع اتفاق جديد مع طهران حول برنامج إيران النووي، والذي سيؤدي إلى رفع العقوبات وتحويل المليارات من أموال إيران المجمدة في المصارف الدولية إلى خزينتها. وهذا سيجعل إيران شريكاً اقتصادياً مهماً لجيرانها الذين يمتلكون صناعات وتكنولوجيا تحتاجها إيران التي تشاركهم أيضاً العضوية في أوبك.

ويعتقد بعض المراقبين أن تطبيع الدول العربية العلاقات مع النظام السوري يأتي في هذا السياق أيضاً، إذ ترى بعض دول الخليج فرصاً للاستثمار الاقتصادي في سوريا، بخاصة في مشاريع إعادة الإعمار. وتراهن هذه الدول على أن مسألة رفع العقوبات عن سوريا هي مسألة وقت، بخاصة إذا ما قام النظام بإجراء إصلاحات مطلوبة منه ستؤدي إما لخروج آمن لبشار الأسد من الحكم أو لتغيير موقف بعض القوى الغربية – وتحديداً الأوروبية – منه. كما أن قرار تركيا إعادة النظر في سياساتها وتطبيع العلاقات مع الدول العربية كان لأهداف اقتصادية محضة. وتشهد العلاقات بين دول الخليج وتركيا تقدماً كبيراً مع دخول استثمارات بمليارات الدولارات لدعم الاقتصاد التركي وفي الوقت عينه تخدم المصالح الاقتصادية لدول الخليج.

الدول التي لا تزال قياداتها تنظر إلى العلاقات والتحالفات مع الخارج من منظور عقائدي أو ديني أو عرقي، ستجد صعوبة في المرحلة الراهنة في التعامل مع الواقع المستجد والاستفادة منه. لينان هو إحدى هذه الدول التي ترتبط قياداته الطائفية والمذهبية مع قوى دولية وإقليمية باتت لها أهداف وسياسات خارجية على أسس جديدة يشكل الاقتصاد العنصر الأساسي فيها. فالقوى المسيحية تنتظر تحرك الأم الحنون – فرنسا – فيما ينتظر المسلمون السنة إشارات من السعودية أو مصر أو قطر. أما القوى الشيعية، وعلى رأسها “حزب الله”، فهي تملك فائضاً للقوة يعطيها هامشاً للتحرك داخلياً أكثر من غيرها، وتملك هامشاً أكبر للمناورة، لكن من دون الابتعاد كثيراً من قرارات طهران. وبالتالي، تجد القيادات اللبنانية صعوبة في قراءة مواقف مرجعياتها الخارجية، لأن هذه المرجعيات لم تعد في تحالفات مذهبية أو عرقية أو ثقافية، بل باتت مصالحها الاقتصادية هي البوصلة التي تحدد سياساتها الخارجية.

المقومات الاقتصادية الأساسية التي يملكها لبنان اليوم، وتهم القوى الخارجية، هي في قطاع النقل من موانئه المطلة على المتوسط وحقول الغاز والنفط المتوقعة في مياهه والطاقة الشمسية والمياه والسياحة. هذه المقومات وفي مقدمتها الطاقة تشكل الرابط بين القوى المعنية بوضع لبنان اليوم، السعودية وقطر ومصر وفرنسا والولايات المتحدة. وقد تكون لأميركا اهتمامات أوسع من ذلك متعلقة بأمن إسرائيل والتنافس مع روسيا والصين، إلا أن اهتمامات الأطراف الأخرى تتركز على البعد الاقتصادي أكثر من المصالح السياسية والأمنية الأخرى.

يجب على القيادات اللبنانية إدراك ذلك وإعادة النظر في مقارباتها وسياساتها في التعامل مع مرجعياتها في الخارج وفي شكل الحكومة اللبنانية المقبلة وأهدافها. فالصراع السني-الشيعي بات خلفنا، وهناك ثقة أكبر بالنفس لدى القيادات العربية، وفي مقدمتها السعودية، في تعاملها مع القوى الأخرى في المنطقة، وبالتالي لم يعد البعد الثقافي أو الإثني والعقائدي مؤثراً كما كان في الماضي.

يتم الحديث في هذه الدول عن لبنان على أنه دولة فاشلة، وأن معظم قادته فاسدون، وأن التغيير يجب أن يأتي من الداخل. وهذا التغيير سيحدث عندما يدرك قادته أنهم والشعب اللبناني لن يستطيعوا أن يتمتعوا بخيرات النفط وثروات البلد ما لم يغيروا في خطاباتهم وسياساتهم ويركزوا على الأمور الاقتصادية بعيداً من خلافاتهم المذهبية والمناطقية التي توتر الوضع الأمني والسياسي. فمن دون استقرار أمني-سياسي لن يكون هناك أي نشاط اقتصادي فاعل وتحديداً في قطاع الطاقة.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى