أقلام وأراء

راغدة درغام: أين تقع دول الشّرق الأوسط اليوم في الأولويّات الجيوسياسيّة الأميركيّة؟

راغدة درغام: أين تقع دول الشّرق الأوسط اليوم في الأولويّات الجيوسياسيّة الأميركيّة؟ 23-10-2022

تفيد أجواء صنّاع القرار في العاصمة الأميركية بثقة الديموقراطيين والجمهوريين بقدرة أميركا على قيادة مميزة للنظام العالمي الآتي ما بعد حذف روسيا من التأثير فيه، نتيجة الحرب الأوكرانية والتحوّلات الجذرية في القارة الأوروبية بأبعادها العسكرية والسياسية وفي مجال الطاقة؛ قيادة لن تتمكن الصين من إحباطها. قيادة أميركية تتأبّط أوروبا، تتغازل مع دول بثقل الهند وأستراليا، تتحدّث لغة البراغماتية في الشرق الأوسط على ضوء المستجدات في منطقة الخليج والشرق الأوسط بمختلف أبعادها الإيرانية والسعودية والنفطية، لا سيّما بعدما بات واضحاً أن الاتفاقية النووية JCPOA مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية دخلت الموت السريري وليس هناك في الأفق أي مجال لإيقاظها.
رغم حدّة المنافسة بين الجمهوريين والديموقراطيين في المعركة الانتخابية النصفية الأسبوع المقبل، هناك طيّات توافق في الرأي على صعيد السياسة الخارجية، تمتد من النظرة إلى العلاقة التنافسية مع الصين إلى المشهد الجغرافي – السياسي العام الناتج من الحرب الأوكرانية، مروراً بالعلاقات مع الدول الخليجية العربية ومع إيران. جولة لقاءات مع كبار صنّاع القرار في واشنطن أفادت بالتالي:
على صعيد الأزمة بين الولايات المتحدة والسعودية بعد قرار تحالف “أوبك بلس” خفض ضخ النفط نحو مليوني برميل يومياً، واضح أن الطرفين اختارا التأنّي على التسرّع، واتخذا خطوات عمليّة حريصة على صيانة العلاقة الأميركية – السعودية.
صراحة الاختلاف على تفسير خطوة “أوبك بلس” كانت مفيدة للطرفين، ولكن إلى درجة محدودة. فالقيادتان الأميركية والسعودية وضعتا العلاقات الاستراتيجية الكبرى فوق الاختلاف على البعد السياسي الذي رافق الاختلاف على المبررات النفطية، وهو: استفادة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من قرار “أوبك بلس”، والانطباع بأن الدول الخليجية العربية اصطفّت مع بوتين في خضمّ المعركة الأميركية ضده. هذا الانطباع أثار الغضب في الكونغرس لدى الحزبين الجمهوري والديموقراطي، بدرجات مختلفة، ودفع إدارة بايدن إلى التحدّث عن “مراجعة” العلاقة الأميركية – السعودية.
ما فعلته إدارة بايدن في إطار احتواء الأزمة والعودة خطوتين إلى الوراء هو أنها لم تفعل شيئاً، بكلام آخر، لم تقم بمراجعة العلاقة. الحكومة السعودية من جهتها رطّبت الأجواء أيضاً بإدانتها في المحافل الدولية الغزو الروسي لأوكرانيا وبتقديم 400 مليون دولار إلى أوكرانيا، الأمر الذي أدّى بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى شكر السعودية عليه.
هذا التأنّي دفع الطرفين إلى الحديث الضروري عن علاقة أكثر مؤسساتية وأكثر شفافيه بينهما، يتعدّى الانفعالية كما يتخطّى الشكوك المتبادلة. أقطاب إدارة بايدن تحدّثت عن “اضطرارها” لاتخاذ مواقف تصعيدية، دفعها إليها توافق جمهوريين وديموقراطيين في الكونغرس على الغضب من “الانطباع” بأن السعودية تقف مع روسيا ضد الولايات المتحدة.
الانطباع والتوقيت أمران يقلقان إدارة بايدن التي تدرك أن المعركة الانتخابية الحادة قد تتأثّر إذا وقع الانطباع العلني والتوقيت ضد الحزب الديموقراطي. أما من جهة الفحوى، فتدرك إدارة بايدن أن مواقفها وردود فعلها “تعدّت” التفاهمات والمنطق، لا سيّما أنها لا تعارض قيام السعودية والإمارات بأدوار وراء الكواليس للتأثير في أداء بوتين لاحتواء مغامراته.
فعلياً وعملياً، مع حلول الأزمة الكبرى في شهر كانون الأول (ديسمبر)، موعد تفعيل القرار الأوروبي بمقاطعة كاملة للنفط والغاز الروسيين والذي لم تكن إدارة بايدن متحمّسة له، سيكون موعداً لإجراءات نفطية، سعودية وأميركية، في مسيرة إصلاح الإساءة للعلاقات بينهما. فما يهم الولايات المتحدة استراتيجياً هو ألا تفتح السعودية أبوابها لقاعدة صينية. أما مسائل كميات ضخ النفط، فإنها أكثر تكتيكية مما هي استراتيجية، رغم أهميتها.
بالنسبة إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، تفيد أجواء واشنطن بأن ورقة النعوة لجهود إحياء الاتفاقية النووية JCPOA جاهزة، ولا مجال اليوم لطهران لأن تضخ الحياة في الاتفاقية لو أرادت ذلك، بمعنى أنه فات القطار بعدما صعّدت إيران مواقفها. الأسباب عديدة، بينها التحالف الإيراني العسكري مع روسيا في أوكرانيا، والإجراءات التعسفية الإيرانية ضد الاحتجاجات الداخلية. وبحسب تعبير أحد المسؤولين، فإن إدارة بايدن لن تتمكّن من إحياء المفاوضات مع الإيرانيين “وسط إطلاق النار على فتيات في سن الخامسة عشرة”. بكلام آخر، إن العملية الحسابية اختلفت الآن، كما الرؤية إلى القدرات الإيرانية الداخلية والإقليمية والدولية.
خلافة مرشد الجمهورية، علي خامنئي، تشكّل عنصراً من العناصر الحيوية في العملية الحسابية سويّةً مع استمرار الاحتجاجات. تقويم الإدارة الأميركية هو أن الاحتجاجات والانتفاضة داخل إيران لن تهدّد النظام بحد ذاتها، لكن تلاقي الاحتجاجات والقمع والخلافة قد يفتح الباب على تغيير. هذا يشغل بال النظام في طهران، إلى جانب انشغال باله بسبب اضطراره لخوض المعركة العسكرية في الحرب الأوكرانية إلى جانب روسيا، وما يترتب على ذلك من كلفة على طهران.
فإيران اليوم تجد نفسها في تحالف مع خاسر في الحرب الاستراتيجية. الصين لا تريد أن تقترن بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، فيما روسيا أخرجها فلاديمير بوتين من المعادلة الاستراتيجية العالمية. النظام في طهران بات أكثر “ثوريّة” مما أراد أن يدّعي، وهو اليوم أقلّ تأثيراً في السياسة الأميركية نحوه مما كان في عز مفاوضات فيينا. فلقد أدّى رفض طهران مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية نشاطات إيران النووية إلى إفشال الصفقة مع واشنطن. وهكذا، يجد حكام إيران أنفسهم مطوّقين غير قادرين حتى على التصعيد “المدوزن” المدروس الذين أتقنوه في السابق. اليوم، أمام طهران قرار التصعيد ضد الكرد في سوريا والعراق، أو ضد المصالح الأميركية في العراق، وهذا أمر مكلف أكثر.
تقويم الديموقراطيين والجمهوريين يختلف في شأن النظرة إلى رئيس الوزراء العراقي الجديد محمد شيّاع السوداني، الذي يعتبره معظم الجمهوريين وبعض الديموقراطيين نسخة عن رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي المقرّب جداً من طهران. لكنّ هناك داخل الإدارة مسؤولين فاعلين في ملف العراق ممّن يقولون إن السوداني لا يشغل بالهم لأنه يتحدّث بلغة مقبولة، مثل “التوازن الإقليمي وضرورة الاستمرار بالانفتاح على الخليج”.
لكن السوداني يُقلق مسؤولين سابقين في الإدارة الجمهورية “بالذات لأنه طبق الأصل عن نوري المالكي”، بحسب تعبير أحدهم، “وهذا يعني أنه تحت إمرة طهران”.
الدور الإيراني في سوريا أيضاً يلاقي الاختلاف في التقويمين الديموقراطي والجمهوري. لكن إدارة بايدن، بحسب تأكيد أحد المسؤولين، تنوي البقاء في سوريا والعراق، وهي غير قلقة من إيكال روسيا إلى إيران مهام إدارة سوريا. رأي إدارة بايدن هو أن إسرائيل ستمنع إيران من التمادي في سوريا بمباركة أميركية. رأيها أن الرئيس السوري بشار الأسد ليس بصدد إعادة تأهيله أميركياً أو عربياً، وأن سوريا الأسد “لن تستعيد عضويتها في جامعة الدول العربية”.
أما بالنسبة إلى المساعي الأميركية الرامية إلى تأمين الكهرباء للبنان من مصر إلى الأردن إلى سوريا عبر الأنابيب، الأمر الذي يتطلّب استثناء الأسد من العقوبات الأميركية المفروضة بموجب قانون قيصر، فإن إدارة بايدن ماضية بالمشروع وهي تنفي أنه يعيد تأهيل الأسد قائلة “هذه مجرد أنابيب” وليست عملية تأهيل.
إنجاز ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل بموافقة “حزب الله” وبعدم عرقلة طهران للاتفاق، هو تطوّر مهم في رأي إدارة بايدن. بعض الجمهوريين ينتقد الاتفاق ويعتبره في غير مصلحة إسرائيل، وهو يشكّك في غايات طهران وراء السماح به. لكن المعنيين مباشرة بإنجاز هذا الاتفاق يشيرون إلى أن “حزب الله” صعّد كثيراً ضد إسرائيل وتوعّد باستهداف حقل كاريش للغاز، وعندما ردّت إسرائيل بخطط الرد العنيف عسكرياً ضد “حزب الله” إذا نفّذ توعّده، اضطر “حزب الله” إلى اتخاذ خطوة إلى الوراء. هذا إلى جانب عدم جاهزية إيران لخوض معركة عسكرية مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل.
ثم هناك عنصر إدراك قيادة “حزب الله” أن توريط لبنان في حرب مع إسرائيل وتعطيل استفادته من ثروة وطنية من الغاز والنفط سيحمّل “حزب الله” المزيد من الغضب والمسؤولية، لا سيّما في ظل الشكوك بدور له في تفجير المرفأ بتخزينه النيترات. هذا إلى جانب الاستفادة المالية التي تريح “حزب الله” وإيران في ظل عدم رفع العقوبات عن طهران، حتى وإن أتت بعد خمس سنوات، وهي الفترة الزمنية المتوقعة لاستخراج النفط والغاز. المهم، بالنسبة إلى إدارة بايدن، هو أن الاتفاق يأتي عملياً بين “حزب الله” وإسرائيل ليحيّد الحدود ويلغي منطق المقاومة.
الصورة الكبرى للتطورات الجيوسياسية هي أن هزيمة روسيا في حربها الأوكرانية ستعني أن دور روسيا في الشرق الأوسط سيزول، وأن الولايات المتحدة ستعود بقوّة إلى المنطقة، وأن إيران بلا روسيا لن تكون قوة كبرى إقليمياً. كيف ستتصرّف إيران الأضعف؟ واشنطن ليست قلقة من انتقامات إيرانية – نووية كانت أو إقليمية – بل إنها حسبت حساباتها.
واشنطن الواثقة بنفسها استراتيجياً تتخذ من الطاقة سياسة بالغة الأهمية لها، لأنها أولاً ستجعل أوروبا قارة تعتمد على الولايات المتحدة، وهو أمر ممتاز لتموضع أميركا قائداً عالمياً، وثانياً لأنها ستجعل من الولايات المتحدة الدولة الأكثر نفوذاً في العالم. وهذا بالتأكيد سينعكس على الشرق الأوسط وعلى العلاقات بين واشنطن والدول الحيوية في المنطقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى