أقلام وأراء

د. حسن أبو طالب: ماكرون فى بكين ضغوط غير مثمرة

د. حسن أبو طالب 11-4-2023م: ماكرون فى بكين ضغوط غير مثمرة

لا يزال الموقف الصينى من الحرب الأوكرانية محل أخذ ورد بين بكين وكل من أوروبا والولايات المتحدة؟ الطرفان الأخيران هما فى الأصل طرف واحد، لكنهما يلعبان اللعبة المعروفة بتوزيع الأدوار، أحدهما طيب ومنفتح والآخر قاس وصلب، والهدف هو جذب الصين بعيدا عن روسيا، وإقناعها بأن تكون طرفا ضاغطا على موسكو والرئيس بوتين لصالح الموقف الغربى. تصريحات الرئيس ماكرون التى دعا فيها الرئيس الصينى تشى بينج لإعادة روسيا إلى رشدها مقرونة بتصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين حذرت فيها بكين من دعم موسكو بالأسلحة نظير تنشيط العلاقات الصينية الاوروبية اقتصاديا، تصب فى جانب الطرف الطيب الذى يتفهم أهمية الصين وقدرتها على القيام بخطوات مهمة لوقف الحرب والبحث عن سلام فى أوكرانيا.

الطرف الآخر الصلب يتمثل فى السلوك الامريكى الضاغط على الصين بسياسة المحاور مع كبريات الدول الآسيوية، وتكثيف الضغوط بشأن تايوان، حيث استقبلت واشنطن ما يعرف برئيسة تايوان فى اليوم ذاته الذى كان فيه الرئيس ماكرون فى بكين. فى اليوم ذاته أيضا صدر تقرير منسوب للاستخبارات الأمريكية يؤكد القلق من تنامى العلاقات بين روسيا والصين وجهودهما المشتركة لبناء نظام دولى تعددى يخصم من النفوذ الأمريكى عالميا. من أروقة بكين ومركز صنع القرار فيها، فهى تدرك جيدا تلك اللعبة الأوروبية الأمريكية، باعتبارها تستهدف الصين على المدى المتوسط إذا ما قررت الانحياز التام حاليا مع الغرب ضد روسيا، كما تستهدف الصين على المدى البعيد إذا ما تمت هزيمة روسيا استراتيجيا وإلحاق الضرر التام بوحدة أراضيها، لاسيما فى ضوء عملية توسع حلف الناتو الذى بات بعد انضمام فنلندا ذا حدود مشتركة مع روسيا، تزيد على الالف كم، ما يعنى زيادة الضغط على الامن القومى الروسى، الذى بدوره سيبحث عن وسائل عسكرية وغير عسكرية للرد على هذا التهديد. وتدرك بكين أيضا أن المغريات الاقتصادية الأوروبية لا تُقارن أبدا بمصالح الصين الاستراتيجية فى إعادة بناء النظام الدولى، وهو القاسم المشترك الأعلى مع موسكو.

البعيدون عن بكين وعن خبرة عملية يدركون بدورهم أن الغرب لا يلتزم بأى تعهدات ذات طابع بعيد المدى، ويسهل عليه التنصل منها ووضع معايير جديدة يعمل لفرضها على الأطراف الأخرى بمن فى ذلك من يوصفون بالحلفاء، هو ما حدث عيانا بيانا مع روسيا بشأن التنصل من التعهد القديم بعدم توسع الناتو فى اتجاه الحدود الروسية. وهو ما يحدث أيضا بالنسبة للصين ذاتها بشأن ما يعرف بسياسة الصين واحدة، والتى تعنى ضمنا وصراحة الاعتراف بأن تايوان جزء من الدولة الصينية الأم، وان تمتنع الدول عن تغذية الاتجاهات الانفصالية لدى قطاع من التايوانيين، الأمر الذى تتعمد واشنطن تغذيته نكاية فى الصين، وتدفع دولا تدور فى فلكها للقيام بخطوات مختلفة لتثبيت هوية تايوانية مستقلة تتصادم جملة وتفصيلا مع إعلانات الالتزام بسياسة الصين واحدة، ما يضع أى تعهدات غربية لبكين فى خانة الشك وفقدان الثقة.

المؤكد أن الصين حريصة على علاقاتها الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبى كما مع الولايات المتحدة، والتى تمثل مدخلا مهما ولا غنى عنه فى تنمية الاقتصاد فى الداخل وعلى الصعيد العالمى معا، كما انها حريصة على علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا النووية والمُهددة بتوسع الناتو الذى لا يتوقف، ومن أولوياتها التى لا تنازل عنها إعادة توحيد تايوان سلميا إن أمكن، وغير ذلك إن استدعى الأمر ولم يكن هناك بديل آخر. يرافق ذلك حرص صينى على القيام بأدوار لتشجيع السلام والاستقرار والحوار بين الأطراف المتشابكة والمتصارعة لاسباب مختلفة،حال استعدادهم للحوار والتنازلات المتبادلة. وما قام به الرئيس الصينى لإنهاء التوتر السعودى الإيرانى، والمساهمة فى بناء نظام أمن إقليمى خليجى يناقض المعايير التى سعت إليها واشنطن وتل أبيب، هو مثال حى على التطلعات الصينية فى ممارسة أدوار عالمية تتعلق بالأمن الإقليمى والدولى على السواء. وما يعرف بمبادرة سلام صينية التى طرحت قبل شهرين، هو تثبيت لهذا التطلع الصينى لممارسة دور دولى ضخم. بيد أن النجاح فى الحالة الأوكرانية يتطلب من طرفى النزاع، ليس فقط قبول مبدأ الوساطة الصينية، بل الالتزام بقبول التنازلات المتبادلة، وتهيئة الأجواء المناسبة للتفاوض، التى أكدها الرئيس شى جين بينج للرئيس ماكرون، والتى تعنى عمليا وقف الناتو مساعداته العسكرية الهائلة لأوكرانيا. والواضح أن الاستعداد الروسى للتفاوض غير قائم بسبب السلوك الأمريكى الأوروبى المُحفز على استمرار الحرب إلى حد هزيمة روسيا استراتيجيا. وما الوعد بأن يتصل الرئيس الصينى بالرئيس الأوكرانى فى الوقت المناسب إلا مؤشر بأن الرعاية الصينية لمفاوضات روسية أوكرانية ما زالت بعيدة. ويبدو أنها فى انتظار النتائج الميدانية التى يُعول عليها الغرب بقيادة واشنطن لما يوصف بهجوم الربيع الأوكرانى المضاد، والذى يستهدف إلحاق هزيمة كبرى بالقوات الروسية، ويتم دعمه بقدرات تسليحية مهمة من قبيل مدرعات ودبابات ألمانية وبريطانية وفرنسية وطائرات قتالية روسية وأمريكية. فى الوقت ذاته تقوم موسكو بالمناورات المختلفة لإفشال ذلك الهجوم المضاد المتوقع.

نعم، لقد أكدت زيارة الرئيس الفرنسى لبكين بأن الصين لاعب دولى مهم فيما يتعلق بأمن أوروبا ذاتها، كما يتعلق بأمن العالم أيضا. لكن رسالته الضاغطة على بكين لم تأت بثمارها المرجوة. وغالبا لن تأتى ما دام الغرب يتصور أنه الأكثر ذكاء وحنكة فى التلاعب بالحقائق، وانه الوحيد المالك للعصا والجزرة معا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى