أقلام وأراء

د. جمال عبدالجواد: عيد الثورة

د. جمال عبدالجواد 23/07/2023: عيد الثورة

يصعب أن تمر ذكرى ثورة 23 يوليو من دون إثارة نقاش وجدل حول هذا التطور الشديد الأهمية. حدث هذا سبعين مرة قبل ذلك، ولكن يبدو أن كل هذا النقاش والجدل لم يكن كافيا لاستنفاذ الطلب على الحديث عن يوليو، أو استنفاذ الأفكار التى يمكن للحدث المهم أن يثيرها.

تنتمى ثورة 23 يوليو إلى عصرها بامتياز. لقد ورثت البلاد الحديثة الاستقلال فى أغلبها نظم حكم ذات شكل ديمقراطى، وكان السؤال الأصعب هو ما إذا كانت هذه النظم سيمكنها الصمود والبقاء فى وجه تغيرات اجتماعية، وصعود قوى سياسية واجتماعية غاضبة، وظهور أفكار وأيديولوجيات جديدة. نحن نعرف الإجابة عن هذا السؤال بالفعل، فقد فشلت هذه الأنظمة فى الاختبار أمام أعيننا واحدا بعد الآخر، حتى أنه بين نهاية الحرب العالمية الثانية وعام 1980 كان 70% من بلاد أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط قد قامت فيها ثورات عسكرية أنهت نظم الحكم الموروثة عن الحقبة الاستعمارية. كان عقدا الخمسينيات والستينيات بشكل خاص عهدا ذهبييا للثورات العسكرية، وكان ميلاد ثورة يوليو فى لحظة مبكرة جدا فى هذه المرحلة، فكانت من بين الحركات الرائدة التى وضعت أسس النموذج الأهم فى سياسات العالم الثالث خلال العقود الثلاثة التالية.

رغم الطابع العام الواسع الانتشار للثورات العسكرية فى تلك الحقبة فإن كل بلد كانت له ظروفه الخاصة التى شكلت تجربته مع الثورة. كان حزب الوفد يقود الحركة الوطنية المصرية منذ ثورة 1919 من أجل تحقيق الاستقلال. كان الوفد ونخبة ثورة 1919 يكافحون الاستعمار، وهو ظاهرة قهر وإجبار مسلح، بأساليب قانونية، وفى هذا قدر كبير من التناقض. سيكون البلد محظوظا جدا لو أن الكفاح القانونى السلمى قاد إلى الاستقلال، فتطور مثل هذا كان له أن يترك أثرا إيجابيا رائعا على المستقبل، مثلما حدث فى الهند. غير أن شيئا من هذا لم يحدث معنا فى مصر، وبقى استقلال البلاد ناقصا، فتقوضت شرعية النظام والنخب والأحزاب التى فشلت فى تحقيق الهدف الأسمى للكفاح الوطنى.

لم يكن حزب الوفد يكتفى بمكافحة الاستعمار البريطانى بأساليب قانونية سلمية، لكنه أيضا كان يتنافس فى الانتخابات، ويصارع من أجل السلطة، ويمارس الحكم فى ظل السيطرة الاستعمارية. لقد خلقت هذه الخبرة الغنية المعقدة نوعا من الازدواج أو تناقض الهوية، وتدريجيا لم يصبح الناس متأكدين ما إذا كانوا إزاء مناضلين ضد الاستعمار، أم إزاء سياسيين يتنافسون على مغانم السلطة.

كان الوفد يوظف نوعين من الخطاب السياسى فى نفس الوقت، فبدا أحيانا كما لو كان يركب حصانين يركضان فى اتجاهين متعارضين. كان هناك خطاب قانونى دستورى، وكان هناك أيضا خطاب وطنى شعبوي. فى المرحلة المبكرة من تاريخه كان الوفد قادرا على التوفيق بين الخطاببين، لكن مع تعقد القضية الوطنية، وتعنت بريطانيا فى المفاوضات، وتعرض الوفد لضغوط شديدة من حركات متشددة راديكالية، إخوانية وشيوعية وفاشية، فقد الوفد قدرته على الجمع الخلاق بين المتناقضات، حتى جاء الضباط الأحرار وخلصوا الوفد والنظام كله من مشكلات التمزق وانفصام الشخصية، وتبنوا سياسة وشعارات شعبوية على طول الخط، داخليا ضد الديمقراطية والأحزاب، وخارجيا ليس فقط ضد الاحتلال الانجليزى ولكن ضد الاستعمار فى كل مكان.

كانت مشكلات النظام الملكى شبه الليبرالى تتفاقم، لكن سقوط النظام لم يكن حتميا، فلا شىء حتمى فى التاريخ والسياسة، والمصادفات تلعب دورا كبيرا فى تحديد مستقبل البلدان. فكل ظرف تاريخى محدد ينطوى على توازنات سياسية واجتماعية وأيديولوجية. إنه نسيج مركب مفتوح على عدد من الإمكانات، التى قد يتحقق أى منها وفقا لعوامل ظرفية أو لاختيارات الفاعلين، أو حتى المصادفات. لكنه ما أن تتحقق إحدى هذه الإمكانات فإنها تغلق السبل والممكنات الأخرى، وتدخل بالبلاد فى مساحة ممكنات جديدة، قد تكون أضيق أو أوسع من الممكنات التى كانت متاحة سابقا، ولكنها بالتأكيد مختلفة عنها. لقد أغلقت ثورة 23 يوليو ممكنات كانت متاحة فى العهد الليبرالى، وأدخلت البلاد فى مساحة ممكنات جديدة.

لهذا فإن النوستالجيا ليست طريقة مناسبة للتعامل مع الواقع. ربما صلحت النوستالجيا للمكايدة أو إثارة الغيظ، أو الحماس، لكنها لن تعيد عجلة التاريخ إلى الوراء. قراءة التاريخ ليست فرصة لتوزيع اللوم والعتاب، وما حدث يبقى متمتعا بشرعية التحقق، والأرجح أنه لم يكن مقدرا للأمور أن تحدث بأى شكل آخر، فحتى الصدف التاريخية والاختيارات التى قد تبدو لنا حرة، لن نجدها حرة تماما عندما نضعها فى سياقها الدقيق، بما فى ذلك السياق النفسى والثقافى.

نحن منقسمون حول تاريخنا، لكن ليس من المفيد تمزيق تاريخنا بين حقب مقبولة وأخرى مرفوضة، فكل هذه الحقب تنتمى لنا، ونحن ننتمى لها. الصين تقدم لنا نموذجا رائعا، فبينما انقلبت الصين على الهلاوس الاقتصادية للزعيم ماو، فإنها تثمن جدا الخبرة والدروس التى تعلمتها من سياساته الاقتصادية الشديدة الغرابة. كان هذا ممكنا لأن الحزب الذى أسسه الزعيم ماو مازال يحكم الصين، لكن الأهم من ذلك هو أن خلفاء ماو الإصلاحيين نجحوا فى تحويل الصين إلى معجزة وقصة نجاح ليس فيها شك. لا شىء ينجح قدر النجاح، وعندما ينجح خلفاء ناصر فى استكمال قصة نجاح بلادهم سيكون من الممكن رأب الصدع واجتياز التمزق، فنحول تاريخنا إلى سبب لوحدتنا لا انقسامنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى