أقلام وأراء

د. جمال عبدالجواد: بداية جديدة لفلسطين

د. جمال عبدالجواد 23-10-2023: بداية جديدة لفلسطين

بعد عملية «طوفان الأقصى» سعت وسائل إعلام غربية لدفع متحدثين فلسطينيين لإدانة الهجوم. لم يعط المتحدثون الفلسطينيون والعرب للمذيعين الغربيين ما أرادوه، فتجنبوا إدانة «طوفان الأقصى»، لكنهم أيضا تجنبوا الإشادة بالعملية الفدائية أو إظهار رضاهم عنها. لست مع «طوفان الأقصى» لكنى لا أدينه» هذا هو ملخص الموقف الوسطى الذى تبناه متحدثون ركزوا كلامهم على جذور الصراع وكيف وصلنا إلى اللحظة الراهنة.

فى مشهد موازتقدمت روسيا بمشروع قرار لمجلس الأمن لوقف إطلاق النار فى غزة، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية للمحاصرين فى القطاع. لم يحصل المشروع الروسى على موافقة المجلس لأن الكتلة الأكبر من أعضاء المجلس امتنعت عن التصويت على مشروع القرار. فبينما أيدت خمس دول المشروع، ورفضته أربع، امتنعت ست دول عن التصويت، بما فى ذلك دول معروفة بالتعاطف مع القضية الفلسطينية، مثل البرازيل وإكوادور ومالطا؛ وكذلك ألبانيا العضو فى منظمة التعاون الإسلامي. موقف الدول الممتنعة عن التصويت هو أيضا موقف وسطى، يرى الحقيقة موزعة بين أكثر من رواية.

القضية من وجهة نظرنا شديدة الوضوح، وليس هناك ما يبرر التردد والمراوحة، فنحن إزاء شعب تم حرمانه من حقوقه وإخضاعه للاحتلال والحصار لعدة عقود، فيما وصلت كل محاولات التسوية السياسية إلى طريق مسدود، ولم يبق أمام الشعب المقهور سوى المقاومة لتحقيق أمانيه الوطنية المشروعة. غير أن هناك كثيرين يرون نفس المشهد الذى نراه، لكنهم لا يستنتجون نفس الأشياء التى نستنتجها منه. دعك من المتحيزين المزمنين المتزمتين، مثل الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، فاللافت للنظر هو الموقف المتردد لحكومات معروف عنها الاعتدال والتحرر من اللوبيات الصهيونية والضغوط التى تكبل الحكومات الغربية.

وجود كتلة كبيرة من الممتنعين عن التصويت يبين الصعوبة التى تواجه كثيرين وهم يحاولون اتخاذ موقف إزاء الأحداث المتدحرجة منذ هجوم «طوفان الأقصى». ينطبق هذا على الحكومات كما ينطبق على إعلاميين ومثقفين وأكاديميين وكثيرين من عموم الناس، الذين لا يستطيعون تأييد «طوفان الأقصى»، لكنهم لا يستطيعون إدانته أيضا؛ والذين يرفضون رد الفعل الإسرائيلى بما فيه من عقاب جماعى وعدوان وحشى ضد المدنيين فى قطاع غزة، رغم تفهمهم للصدمة التى سببها الطوفان لإسرائيل. إنها نفس المعضلة التى تواجه المعتدلين عندما ينقسم العالم إلى فسطاطين متحاربين. من حق الشعب تحت الاحتلال مقاومه جلاديه بكل أساليب المقاومة السلمية والمسلحة. هجوم «طوفان الأقصى» هو جزء من مقاومة الاحتلال. لقد ألحق «طوفان الأقصى» إهانة بالغة بالصلف والعنجهية الإسرائيلية، وأعاد لنا بعض الشعور بالكرامة، بعد أن تعمدت إسرائيل إهانتنا وإظهار الاستهانة بنا من خلال الطريقة الاستعلائية التى كثيرا ما تعاملت بها مع الفلسطينيين والعرب. لكن على الجانب الآخر فإن أغلب القتلى والأسرى الإسرائيليين هم من المدنيين، وفيهم نساء وعجائز، وقد استخدمت إسرائيل هذه الواقعة للتعمية على واقع الاحتلال الممتد بغير أفق منذ عقود طويلة، فوسمت عملية «طوفان الأقصى» بالإرهاب، وروجت رواية المظلومية الإسرائيلية عبر آلتها الإعلامية، وقامت بشيطنة حماس والفلسطينيين، فبدت الصورة مقلوبة لدى كثيرين فى العالم. الدرس هنا هو أن للمقاومة أن تضرب فى كل اتجاه، لكن عليها تجنب الضحايا المدنيين، حتى لو قامت إسرائيل بمهاجمة مدنيين فلسطينيين، وهو ما تفعله طوال الوقت، فمن صالح الفلسطينيين التمسك بموقف أخلاقى منسجم، فيما يتركون لإسرائيل مهمة تلطيخ سمعتها بالاعتداءات على المدنيين والأطفال والمشافي.

تم تخطيط وتنفيذ «طوفان الأقصى» بأعلى قدر من الإتقان والاحتراف والابتكار، فاستخدم المقاومون الموارد القليلة المتاحة بطريقة خلاقة، حولت أبسط الأشياء إلى وسائل قتال فعالة فاجأت إسرائيل. إنه شيء يدعو للإعجاب بالفعل أن يتمكن المقاومون بمواردهم القليلة من هز عرش إسرائيل.قابلت الشعوب العربية «طوفان الأقصى» بحماس بالغ، فمنذ زمن بعيد لم يستطع أحد معاقبة إسرائيل على انفلاتها. ردة فعل الجماهير العربية بينت أن المشاعر العروبية والإسلامية هى قوة يحسب لها حساب، وأنه من الخطأ التصرف كما لو كانت قضية فلسطين قد انتهت، وأن الحكومات قد تحررت من واجب نصرة فلسطين. أعاد «طوفان الأقصى» وضع فلسطين على أجندة العالم السياسية، ويمكن لهذا أن يمثل بداية جديدة لفلسطين لو تمسكنا بالفرصة.

ارتفعت موجة الحماسة عالية، وتجمع الغضب الذى أنتجته المجزرة التى تنفذها إسرائيل فى غزة، وارتفع وسط هذا الزخم سقف المطالب والتوقعات، فكانت المفارقة أنه بينما يعصرنا الألم بسبب الجحيم المصبوب على أهلنا فى غزة، وبينما تجاهد الحكومات من أجل إدخال المساعدات للمدنيين المحاصرين، يروج بعض المبشرين لشعارات تعلن اقتراب نهاية إسرائيل، وأن تحرير فلسطين كلها ممكن، وأن عملية تحرير فلسطين قد بدأت بالفعل! يبدو أننى عشت أطول مما ينبغى، فقد سمعت هذا الكلام عدة مرات من قبل.

«طوفان الأقصى» هى عملية متقنة مرغت أنف الجيش والاستخبارات الإسرائيلية فى التراب. غير أن ميزان القوى العسكرى والاقتصادى والعلمى والتكنولوجى فى المنطقة لم يتغير كثيرا. صحيح أن الدماء الساخنة تتفجر فى رءوسنا، وتجمع فينا الكثير من الحماسة والشعور بالعزة والغضب، لكن هذا لا يكفى لتغيير ميزان القوة. بعد هزيمة يونيو شخص الرائع أحمد بهاء الدين أزمتنا فى الفجوة الحضارية، وليس فى نقص الحماسة والغضب الذى كان لدينا الكثير منه. مازال تشخيص أحمد بهاء الدين صالحا، ومازالت الفجوة الحضارية تنتظر من يردمها، فهل نبدأ الآن من أجل الأقصى وفلسطين؟

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى