#أقلام وأراء

د. أنور رجب: وحدة الساحات بين الغرفة المشتركة وتجزئة المقاومة قراءة نقدية

د. أنور رجب 4-6-2023: وحدة الساحات بين الغرفة المشتركة وتجزئة المقاومة قراءة نقدية

بالرغم من انتهاء جولة المواجهة الثالثة بين حركة الجهاد الإسلامي وجيش الاحتلال، إلا أن حالة الجدل والصخب والإرباك والارتباك التي صاحبتها وتداعيات نتائجها سواء على الصعيد الإسرائيلي أو على الصعيد الفلسطيني الداخلي وما يسمى “فصائل المقاومة” تحديداً ما زالت قائمة وإن خفت وتيرتها. وبعد أن عدنا إلى نفس الصيغة المعتادة والمألوفة بعد كل جولة من جولات الحرب، وفي ظل أننا كفلسطينيين نترقب جولة أخرى معها أو مع غيرها من الفصائل فلا ضير أن نناقش بصراحة وجرأة مجريات ونتائج تلك الجولة ارتباطاً بالجهات الفاعلة والمؤثرة في أحداثها ومجرياتها، وما يرتبط بها من مصطلحات تشكل جوهر الاستراتيجية القتالية للفصائل في إدارة الحرب القائمة وما يتخللها من جولات تصعيد تكاد نتائجها ومجرياتها تكون متطابقة، ومن هذه المصطلحات “فصائل المقاومة، الغرفة المشتركة، وحدة الساحات”، ونجتهد في مقالتنا هذه لإضافة مصطلح جديد هو “تجزئة المقاومة” ارتباطاً بما حدث خلال الجولة الأخيرة وما قبلها.

يشير مصطلح “فصائل المقاومة” في مضمونه إلى رؤية مجموعة من الفصائل الفلسطينية ترى في المقاومة المسلحة حصراً في سياق المواجهة المستمرة مع الاحتلال الخيار الأمثل دون غيره من النماذج والخيارات المتعددة لمفهوم المقاومة في إطاره العام. ولم يعد خافياً أن هذا المصلح قد تم إنتاجه من قبل حركة حماس كغيره من المصطلحات واليافطات التي أنتجتها بغرض تمييز نفسها وتحقيق أهداف وغايات حزبية وسياسية، وفي مقدمتها خلق أجسام موازية تخضع لسطوتها ونفوذها لتكريس واقع جديد يخدم هدفها الرئيسي بمنافسة ومزاحمة منظمة التحرير الفلسطينية من جهة وسعيها لتقويض وإضعاف السلطة الوطنية من جهة أخرى، ولعل التدقيق في أسماء ومسميات بعض الفصائل التي صنعتها حماس وتُدرجها ضمن دائرة “فصائل المقاومة” والتي لا تمتلك من مقومات تؤهلها لتكون ضمن هذه الدائرة سوى الاسم فقط على شاكلة “حركة الأحرار وحركة المقاومة الشعبية وغيرهما من الفصائل الكرتونية”، يقودنا إلى النتيجة نفسها “تكبير الكوم”.

وقد سعت حماس وتحت يافطة “فصائل المقاومة” ومن خلال ماكينتها الإعلامية لاحتكار مفهوم المقاومة واعتبرت نفسها صاحبة الوصاية والحق الحصري في الولاية عليه، وذلك في مقابل ما تعتبره خيار التسوية والمفاوضات الذي تُدرجه حماس وتصنفه كخيار انهزامي تفريطي. إذن نحن أمام خيارين متضادين بين المقاومة والتفريط – وفق نهج حماس وسياساتها – وهو ما تسعى “حماس” لترسيخه في الوعي الجمعي الفلسطيني في إطار استراتيجيتها المشار إليها آنفاً، وفي سبيل ذلك تستخدم كافة العناوين والشعارات الوطنية كعباءة تتدثر بها وفي مقدمتها الدين والمقاومة.

المصطلح أو المُنتج الآخر هو الغرفة المشتركة، وتبلورت فكرتها بعد جولة الحرب في 2014، وتضم الأجنحة العسكرية للفصائل، وهي في مضمونها وأهدافها مرتبطة بمصطلح “فصائل المقاومة”، إذ تسعى حماس ومن خلال هذه الغرفة إلى فرض معادلتها في إدارة المواجهة العسكرية مع الاحتلال بما يخدم رؤيتها الحزبية والسياسية من خلال وضع أسس ومعايير تحكم وتضبط سلوك وأداء “فصائل المقاومة”، وتضمن في نفس الوقت عدم المساس بالتفاهمات التي عقدتها مع الاحتلال الإسرائيلي، والمرتبطة باستحقاقات منظومة حكم الأمر الواقع التي تدير بها حماس قطاع غزة. ومن البديهي أن تضم الغرفة المشتركة أجنحة عسكرية متفاوتة في قدراتها وإمكانياتها العسكرية ومواردها المالية، وبعضها يرتهن لحماس في تأمين تلك القدرات والموارد وبالتالي الالتزام بضوابطها ومعاييرها، وتأتي سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في المرتبة الثانية بعد كتائب القسام من حيث القدرات البشرية والعسكرية، واستقلالية إلى حد كبير بالموارد المالية واللوجستية، وما تحظى به من رعاية إيرانية خاصة، والأهم من ذلك كله ما تتبناه من فهم مختلف واستراتيجية مختلفة عن حماس في تبنيها وتطبيقها لمفهوم المقاومة، وهو ما قاد إلى إرباك حسابات حركة حماس وفرض عليها اتخاذ موقف المتفرج والشامت من جهة والوسيط الضاغط من جهة أخرى عندما شب الجهاد عن طوق الضوابط والمعايير التي وضعتها حماس للغرفة المشتركة.

أما مصطلح “وحدة الساحات” والذي ظهر خلال جولة الحرب في مايو 2021، حين جسد الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده وحدة حقيقية في الميدان في التصدي ومواجهة سياسات الاحتلال التهويدية في القدس وحملات التطهير العرقي لسكانها، والتي لم تكن صنيعة أحد ولا ماركة مسجلة باسم هذه الفصيل أو ذاك، وإنما استجابة طبيعية وغريزية للفلسطيني الذي ينتفض بعنفوان عندما يتعلق الأمر بالقدس ومقدساتها، ويختلف شكل ومستوى هذه الاستجابة وفقاً للظروف والمعطيات التي تفرضها الوقائع والأحداث في تلك اللحظة. وقد عملت حركة الجهاد لتكريس هذا المصطلح كنهج واستراتيجية، حيث استخدمته لأول مرة عندما أطلقت على الجولة الثانية التي خاضتها منفردة في أغسطس 2022 اسم “وحدات الساحات”، كما خصصت مساحة كبيرة في إعلامها وتصريحات قيادييها لهذا المصطلح لتكريسه ضمن قاموس المصطلحات التي يتم تداولها ارتباطاً بمفهوم المقاومة.

وبالرغم من الاستخدام الخجول لهذا المصطلح من قبل حماس، إلا أنها وعبر بعض قيادييها وناطقيها ومحلليها تسعى لاستبداله بمفهوم “تكامل الساحات” والذي يمنحها هامشاً لإفراغ مفهوم “وحدة الساحات” من مضمونه وجوهره المتعلق بمسألة “التزامن”، بمعنى أن تشارك جميع الساحات “غزة، والضفة، والقدس، والـ48، والشتات” دون فصل بينها في أي جولة من جولات المواجهة، في حين يترك مفهوم “تكامل الساحات” الباب موارباً لاستثناءات لهذه الساحة أو تلك والمقصود هنا قطاع غزة أو بشكل أدق منظومة حكم حماس في القطاع، وهو ما حدث واقعاً في الجولة الأخيرة.

أما بالنسبة لمصطلح “تجزئة المقاومة”، فيمكن اشتقاقه من سياسة واستراتيجية الاحتلال الإسرائيلي في تفكيك وتفتيت كل مظاهر وصور وتجليات الوحدة الفلسطينية على جميع الصعد والمستويات ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وهو ما سنناقشه في الجزء الثاني من مقالتنا هذه، وكيف ولماذا نجح الاحتلال الإسرائيلي في “تجزئة المقاومة” والعوامل المساعدة والظروف التي قادته لفرض معادلته على “فصائل المقاومة” بقيادة حركة حماس.

من المتعارف عليه أن سياسة “فرق تسد” تحظى بمكانة وأولوية متقدمة في استراتيجية القوى الاستعمارية لضمان سيطرتها على الشعوب ونهب ثرواتها، وفي حالتنا الفلسطينية تعتبر هذه السياسة ركنا أساسيا في استراتيجية الاحتلال الاستعماري الصهيوني، حيث يستخدم كافة أشكال وأساليب التفرقة والقسمة وزرع الفتنة بين أبناء الشعب الفلسطيني عبر إثارة النعرات المناطقية والجغرافية والعشائرية تارة ومحاولة خلق انقسامات وطنية وسياسية ودينية تارة أخرى، وللحقيقة والتاريخ فقد فشلت هذه السياسة في أن تؤتي أكلها، لكن وللأسف إلى حين.

مع بداية ظهور فرع جماعة الإخوان المسلمين بداية الثمانينيات من القرن الماضي في فلسطين، وبما تحمله هذه الجماعة من منظومة فكرية وتربوية قائمة على تمجيد الذات وإقصاء الآخر وازدرائه، وتبنيها منهجاً ونهجاً وضعها في موقع التضاد مع الحالة الوطنية الجامعة بكل أبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية والتحررية. وقد عززت وعمقت من هذه المنظومة بعد أن أصّلت لها من خلال عباءة الدين والشعار الإخواني “الإسلام هو الحل”، حين اختطت لنفسها ديناً موازياً يتبنى الفهم المتشدد تجاه الآخر ولا يُقر ولا يعترف بالفهم الديني ولا بالممارسات والشعائر الدينية السائدة، واعتبرت أن الاسلام الحقيقي دخل فلسطين مع ظهور الجماعة. ليس هذا وحسب فقد تنكرت وأنكرت في حينه على فصائل العمل الوطني تبنيها للمقاومة المسلحة، وبالمناسبة: كانت هذه المسألة السبب الرئيس في خروج الشهيد فتحي الشقاقي من عباءة الإخوان وتأسيس حركة الجهاد الإسلامي.

مسار تجزئة المقاومة :وفي سياق المسار نفسه، وفي سبيل ترسيخ وتوطيد سيطرتها على قطاع غزة والتمكين لمشروعها الموازي، شرعت حماس بتشكيل أجسام موازية ذات علاقة بمنظومة الحكم والإدارة من جهة، وضبط المقاومة وفصائلها والتحكم في آلياتها وأدواتها من جهة أخرى، وبلا شك فقد نجحت حماس إلى حين في فرض معادلتها ذات العلاقة بمفهوم المقاومة وتطبيقاته الميدانية، ولكن ونتيجة لقيام حماس بمحاولة فرض شروط ومعايير جديدة على جوهر معادلة المقاومة في مضمونها تشكل استجابة لاستحقاقات الإبقاء على منظومة حكم حماس في القطاع واستقرارها خدمة لمشروعها الموازي، وذلك حين عقدت اتفاقيات التهدئة والتفاهمات مع الاحتلال برعاية قطرية وشروط إسرائيلية إبّان “مسيرات العودة وكسر الحصار”، والتي اقتصرت على مسائل ذات علاقة بتحسين مستوى حياة المواطنين في قطاع غزة وفق ضوابط ومعايير إسرائيلية تمنع وتمنح بموجبها تلك التسهيلات وفقاً لمدى التزام حماس بشروطها، في حين لم تكن “الإنجازات” التي تحققت بفعل تلك التفاهمات تلبي الحد الأدنى من مطالب وأهداف وشعارات “مسيرات العودة وكسر الحصار” مقارنة بحجم التضحيات التي بُذلت، ولاحقاً تعززت تلك التفاهمات بعد جولة مايو 2021، وبات الحفاظ عليها على رأس أولويات قيادة حماس حتى لو كان ذلك على حساب “وحدة المقاومة” التي تدعيها.

كانت نتائج “مسيرات العودة وكسر الحصار” وما أسفرت عنه من تفاهمات بداية التصدع فيما يسمى “وحدة المقاومة” حين عبرت حركة الجهاد الإسلامي من خلال سلوك سرايا القدس في الميدان عن رفضها غير المعلن لتلك التفاهمات، وتجسد ذلك عبر عمليات إطلاق الصواريخ على مستوطنات غلاف غزة، وبرز في هذا الإطار اسم القيادي في سرايا القدس بهاء أبو العطا الذي تم اغتياله في 12-11-2019، وبالتزامن مع اغتياله كانت هناك محاولة اغتيال لقائد الجناح العسكري للحركة أكرم العجوري والتي نجا منها واستشهد فيها ابنه معاذ.

“الإنجاز الاستراتيجي” هكذا وصفت المؤسستان الأمنية والعسكرية نكوص حماس وخذلانها لحركة الجهاد الإسلامي وتركها وحيدة في الجولة التي خاضتها في حينه رداً على عملية اغتيال أبو العطا، وقد بررت موقفها بالقول إن: “أبو العطا انتهك وقف إطلاق النار مع الاحتلال الإسرائيلي، معتبرة أن هذا السلوك من شأنه أن يشوش على حالة الهدوء والاستقرار ويربك حسابات المقاومة الاستراتيجية”، وهو ما حدا بالأمين العام لحركة الجهاد زياد النخالة للتصريح بأن: “حركة الجهاد تتحمل مسؤولية قرار الرد، وتدير قواعد الاشتباك بشكل منفرد”. وقد تكرر هذا المشهد في الجولة الثانية “وحدة الساحات”، وفي آخر جولة “ثأر الأحرار”. وبالرغم من سعي حماس المحموم للتعمية على نكوصها وخذلانها لمفهوم المقاومة بشكل عام ولحركة الجهاد بشكل خاص، إلا أن ورقة التوت التي كثفت من استخدامها في خطابها الإعلامي “الغرفة المشتركة” لم تنجح في ستر عورة موقفها، حتى صمت الجهاد الخجول هذه المرة ومسايرته لها في توظيف يافطة “الغرفة المشتركة” لم يساعدها في ذلك أيضاً، فالحقيقة أكبر من أن يحجبها غربال حماس وإعلامها، وقادم الأيام سيكشف الكثير.

أولا: فشل حماس في فرض رؤيتها ومعاييرها وشروطها على الغرفة المشتركة في تكريس فهم مختلف للمقاومة، وهو ما يحمل بين ثناياه تشكيك في نوايا حماس ورفض من قبل “فصائل المقاومة المؤثرة” لأن تكون شاهد زور وترسا في عجلة مشروع حماس السياسي.

ثانياً: وهو الأخطر وسواء رضينا أم أبينا، فما جرى ويجري يؤكد نجاح الاحتلال الإسرائيلي في فرض معادلته في “تجزئة المقاومة”، وليست تصريحات قادة الاحتلال أثناء الجولة الأخيرة بأنهم يستهدفون الجهاد الإسلامي فقط إلا تعبيراً ودليلاً على ذلك، وبقاء حماس على الحياد وممارسة دور الوسيط والضغط على قادة سرايا القدس وابتزازهم بوسائل يعلمها قادة الجهاد أكثر من غيرهم ليس إلا تأكيدا على أن “تجزئة المقاومة” أصبحت حقيقة واقعة لا مجال لنكرانها، مهما حاولت حماس وقياديوها وإعلامها لترميم صورتها ومحاولة تبرير موقفها أو تجميله بعد انتهاء المعركة.

ثالثا: لقد اثبتت حركة الجهاد وبالرغم من الخسائر القاسية التي تعرضت لها منظومتها العسكرية والبشرية، أنها فاعل مهم في معادلة الصراع مع الاحتلال، وكذلك في المعادلة الداخلية وأن إمكانية تجاوزها بات أمراً مشكوكاً فيه، وهذا أمر بدأ يؤرق حماس أكثر من غيرها. وعليه فمن المتوقع أن الجهاد ستواجه الكثير من العقبات والمعيقات من قبل حركة حماس في سعيها لإعادة ترميم قدراتها وتعويض خسائرها، التي لن تتدخر جهدا في الإبقاء على حركة الجهاد ضعيفة لا سيما بعد أن أثبتت التجربة أن الحركة قد تكون عقبة أمام طموحات ومشروع حماس السياسي أو على الأقل تقوم بالتشويش عليه.

رابعا: أن حركة حماس وفي سبيل تثبيت وتحقيق مشروعها الموازي واستعدائها واستعلائها على الآخر حتى ما تسميهم “شركاء الدم والقرار”، لا يضيرها أن تتنكر لكل الشعارات واليافطات والعناوين التي ترفعها وتنقلب عليها في حال تعارضت مع مشروعها السياسي. وكما كانت حماس وبما تتبناه من أفكار وسياسات ومشروع عابر للوطنية الفلسطينية بمثابة أداة الاحتلال في حدوث النكبة الثانية للشعب الفلسطيني “الانقلاب والانقسام”، كانت الأداة أيضاً في تكريس مفهوم “تجزئة المقاومة” واقعاً معاشاً لا مجال لنكرانه.

وختاماً فإن هذه القراء لا تعني أن استراتيجية حركة الجهاد ذات العلاقة بمفهوم المقاومة محصنة من النقد، وهو ما يستدعي أن تعيد الحركة حساباتها وقراءتها لمجمل الحالة الفلسطينية، ومراعاة التأثير السلبي لجولات القتال المتكررة على معنويات وقدرات شعبنا على التحمل والصمود خاصة في قطاع غزة الذي يئن تحت وطأة الفقر والظلم والقهر بفعل ممارسة وسلوك حكومة الأمر الواقع التي تديرها حركة حماس، لا سيما في ظل صمت جميع الفصائل وهو ما يجعلها تتحمل قدرا من المسؤولية عن الأوضاع الكارثية التي يعيشها القطاع، فتعزيز صمود المواطن في أرضه والتمسك بوطنه والحفاظ على كرامته هو أيضاً شكل من أشكال مقاومة الاحتلال بل وأكثرها أولوية.

 

*باحث في معهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى