#شؤون مكافحة الاٍرهاب

داعش ليبيا، وتعدّد نقاط الاستفهام حول تسييره وولاءاته ؟

علي عبد اللطيف اللافي ٧-٨-٢٠١٨

كيف ظهر التنظيم في ليبيا أو بالأحرى من وضع بصماته تحديدًا؟  ولماذا تم تفعيل داعش مجددًا في الأشهر والأسابيع الأخيرة حيث تعددت عملياته حتى أنّه أصدر تسجيلا بصريًا بالتوازي مع عمليات موازية للتنظيم في تونس والجزائر وكل المنطقة المغاربية؟ وكيف تطوّر التنظيم/ الفرع بين سنتي 2015 و2018، وما هو مستقبله في ظلّ تطورات ملفّ الأزمة وبخاصة في ظلّ تواصل الصراع السياسي وعدم وضوع متى سيتم إنجازه الاستحقاقات الانتخابية في صورة إقرار دستور؟

 الظهور الأول لتنظيم الدولة في ليبيا ومساراته سنة 2015

 الظهور الأولي لتنظيم داعش في ليبيا وطبيعة ارتباطاته 

  • شكّل الظهور العلني لداعش في ليبيا عبر فيديو مرعب سنة 2015 حيث أظهر يومها عملية إعدام وذبح 21 قبطيا مصريا في مدينة سرت بطريقة أقل ما يقال عنها أنها “هتشكوكية”، وهو ما عُدّ يومها إعلانًا رسميا لظهوره، وتبين للجميع أن الهدف هو تغيير خارطة الصراع بين القوى المتفرقة في ليبيا، حيث كان الهدف واضحًا وجليًا وهو التمهيد لإسقاط حكومة الإنقاذ في طرابلس أو دفع المجتمع الدولي للتدخل المباشر، ولكن كيف تطور وجود التنظيم الإرهابي في ليبيا مرحليا؟
  • يمكن الجزم بأنّ أول ارتباط بين بعض الجهاديين الليبيين وبين تنظيم الدولة من خلال استحضار معلومات سابقة تقول: إن الكثير منهم توجّهوا إلى العراق في سنة 2003 للجهاد ضد غزو التحالف الدولي للعراق، فقد انضم العديد منهم إلى مجموعات قتالية مختلفة، على غرار مجموعة الزرقاوي التي كانت نواة أولى لداعش. ([1])
  • يعود الارتباط الثاني إلى التاريخ الذي انتشرت فيه داعش في سوريا، فقد توجّه العديد من الليبيين إلى سوريا للقتال ضدّ نظام الأسد تحت ألوية كتائب وتنظيمات مختلفة أبرزها “تنظيم الدولة الإسلامية” و”لواء الأمة” و”جبهة النصرة” و”كتيبة عمر المختار”، وقد برز بعضهم في المعارك القتالية، فضلا عن التنسيق وجمع التبرعات بغضّ النظر عن هوية الجهة المحركة والمتحكمة في التسفير والأجندات والتوجيه…
  • تباينت مواقف التنظيمات الجهادية من إعلان تنظيم داعش رجوع دولة الخلافة ومبايعة البغدادي، وهو أمر مرتقب، إلا أن الأمر لم يعُد كذلك بعد رفض تنظيم القاعدة الإعلان، ولم تكن ليبيا خارج السياق، إذ تباينت المواقف، وأعلن البعض انضمامه وإن كانت نسبتهم قليلة جدًا نتاج صدور ورقات تنظيمية وفقهية في الاتجاهين لعدد من المجموعات والتنظيمات…
  • كان واضحًا أنّ موضة داعش قد دخلت ليبيا منذ بداية إعلان الخلافة، فقد أعلن الكثير من الشباب تأييدهم للبغدادي يومها، لكن لم يكن هناك موقف رسمي إلا حينما أعلنت مجموعة من الشباب الجهادي تنظيم حدثٍ كبير في درنة ليُعلنوا فيه مبايعتهم لتنظيم الدولة، بل نظّم البعض عرضًا عسكريًا يومذاك رغم رفض تنظيمات جهادية كثيرة للعرض واعتراضها عليه، ووصل التباين لاحقًا إلى المعارك المسلّحة بين الطرفين بل أن بقية الجهاديين الليبيين في درنة قد طردوا تنظيم داعش، والذي سهلت فيما بعد طريقة وصوله الى سرت…
  • الأكيد أن تنظيم أنصار الشريعة في مدينة بنغازي (والذي أعلن حل نفسه منتصف سنة 2017)، لم يبايع البغدادي خليفة، أي أنه لم يصبح تابعا لتنظيم الدولة رسميًا، لكن من المؤكّد أيضا أن هناك الكثير منهم يؤيدون داعش ويؤمنون بها وإن كان تأثيرهم ضعيفًا، وعددهم قليلا جدا قد التحقوا بـ”داعش” ليبيا في مدينة بنغازي نتاج توجيهات من داخل أطر اختراق التنظيمات الجهادية التابعة للقاعدة…
  • يعرف كل المتابعين أن أغلب الجهاديين موجودون في شرق ليبيا لا في غربها، إلا أن إعلان مجموعة تحت مسمى أنصار الشريعة في مدينة سرت الليبية سنة 2012، طرح سؤالًا مهمّا يومها وهو إن لم يكن تنظيم داعش مُركبًا أو مُخترقا كيف له أن يقوم بعمليات نهب وسرقة لبعض المصارف داخل سرت؟ وزاد الأمر ريبة تصريحات “أحمد قذاف الدم” التي أطلقها في تلك الفترة حيث شكر فيها شباب تنظيم داعش، كما انتشر خلال الأسابيع السابقة لعمليات الإعدام حديث في ليبيا مفاده أن أنصار المنظومة القديمة يُريدون كسر شوكة مدينة مصراته أي روح الجهة الغربية المدافعة عن ثورة فبراير ومكتسباتها حسب رأيهم، وهو ما بينته يومها صفحات محسوبة على أنصار النظام السابق في مصر وتونس ومالطا…

 

مواقف أطراف الصراع سنة 2015 من ظهور داعش

بالنسبة لعملية الكرامة، فإن وجود الإرهاب في ليبيا أمر محسوم منذ أول يوم، بل إن حفتر ادعى أن عمليته تقوم من أجل محاربة الإرهاب، وجمع كل خصومه تحت هذه الصفة، والتقى مع حلفائه في الخارج وتلقى دعمهم بناء على ذلك، حتى أنه لا يجد غضاضة في الربط بين خصومه وداعش، وهو الأساس الذي تلقى لأجله الدعم من مصر منذ أول يوم، فقد صرّح اللواء صقر الجروشي (رئيس أركان القوات الجوية) في مقطع فيديو بُث يوم 17 فبراير 2015 بأن مصر مدّت قوات الكرامة بــــ 400 حاوية من الذخيرة، كما أن التنسيق الذي حدث بين قوات الكرامة والجيش المصري في الضربات الجوية التي قيل إنها وُجّهت إلى معاقل داعش في درنة في اليوم اللاحق لإعلان داعش إعدامها للأقباط المصريين، وهو ما طرح أسئلة عدة، خاصّة وسط التشكيك في طريقة الإعدام ومكانها وتوقيتها وأهدافها…

  • رغم الأدلّة الواضحة، يمكن القول: إن “فجر ليبيا” (حسب قياداتها هي حركة تصحيحية وليست تنظيمًا كما ادعت بعض وسائل الإعلام العربية) تراخت في البداية لأسباب عدّة، بل إن عقلها السياسي لم يستوعب طبيعة التطورات التي حدثت للتيار الجهادي في المنطقة ووقوعها تحديدا ـ أي التيارات الجهادية الليبية ـ تحت منطق التوظيف ضدّ الثورات، وتحولها إلى أداة في يد قُوى إقليمية ودولية لحرق ثورات الربيع العربي عمومًا، وقد رفضت حكومة عمر الحاسي في البداية التصريح الصريح بوجود الإرهاب في ليبيا بشكل عام، وبوجود داعش بشكل خاص، ورغم ما سُمي بعملية “فندق كورنتيا” التي أعلنت داعش مسؤوليتها عنها، وكذلك عملية “حقل المبروك النفطي” التي اتهمت فيها فجر ليبيا بالتقرير الرسمي الذي أعده مدير الحقل بشأنها، لكن بعد فيديو اعدام الـــ21 قبطيا مصريا سارعت حكومة طرابلس إلى التنديد والتصريح بوجود الإرهاب في سرت، بل سارعت عدد من الكتائب الموالية لفجر ليبيا في مدينة مصراتة إلى سرت لإعادة السيطرة عليها وفكها من عملية احتلال داعش للمصالح الرسمية التي بها.. .

       وهو ما حدث فعليًا، فوجدت حكومة الغويل (الذي عوض عمر حاسي على رأس حكومة الإنقاذ) نفسها أمام مطبات جديدة؛ فقد انتقل التنظيم الدموي إلى القيام بعمليات قريبة من مصراتة، وتوضحت أهدافه المعلنة، وهي الـتأثير على جلسات الحوار الصعبة في مدينة الصخيرات المغربية يومها، ومن أجل تمكين أنصار الثورة المضادة الليبية وحلفائهم من دخول طرابلس وشقّ وحدة القرار في مدينة مصراتة نتاج طبيعة الخسائر المتكبدة على الأرض والاستهداف المستمر لأبنائها تحديدا في الجبهات …

“داعش ليبيا”، هل هو “تنظيم للإيجار”؟

        تطوّر الجدل السياسي في أثناء المفاوضات في المغرب بحيث أسقطت خيار التحيل الإقليمي على أنصار ثورة فبراير بل أن قدرة المفاوضين خيبت آمال قوى إقليمية  نتاج قدرة المفاوضين مجاراة نسق تطورات الأحداث وتعقيدات الحوار تحت مسؤولية البعثة الأممية ورغم الانحياز الكامل من قِبل ليون لطرف على حساب آخر محليا وإقليميًا (وهو ما بينته دلائل مادية لاحقا بعد تعويضه بالمبعوث الأممي الثالث الألماني “كوبلر”)، ورغم التباين الداخلي في الجهة الغربية تجاه المسودة الرابعة، وتوازى ذلك مع معارك خاضتها داعش في درنة ضد ثورا درنة، والمشكل أنه في اللحظة التي حُوصر فيها داعش هناك وطورد خارج أسوار درنة تم قصف خصومه ومحاربيه من طرف قوات “الكرامة”، وهو ما آثار عددًا من التساؤلات  ونقاط الاستفهام عند المتابعين في الداخل والخارج الليبي …

     وبالتوازي مع ذلك وبعد أن عجزت قوات الكرامة عن الدخول إلى مدينة بنغازي يومها والحسم الميداني الواضح، نتاج صمود قوات “وسام بن حميد” وثوار بنغازي القريبين من فجر ليبيا، ظهرت أجندات قتالية، وبرز انتشار قوي لداعش في سرت وسيطرته على المطار وأماكن استراتيجية في المدينة وسط حضور لوجستي لهم في أطرافها، بل أن الأغرب أنه كُلما تطورت المفاوضات نحو أمل التوصل إلى اتفاق نهائي في تشكيل حكومة التوافق الوطني، زادت داعش من حضورها الميداني في سيرت، وتعمدت ارتكاب جرائم فظيعة على الأرض، وإن فعلها مرتبط برفض مطالب داخل الحوار أو إنقاذ طرف منهزم ميدانيا في الشرق، وهو ما اضطر أحد نواب الحكومة في طبرق للدفاع عن أجنداتها في وقت سابق بشكل صريح   …

      ورغم ذلك فإن جميع الأطراف مسؤولة عمليا عمّا جدّ في سرت يومها، إذ لم تستوعب تلك الأطراف هَول ما صمتت عنه وتجاهلته وسط رغبة في توظيف ما يقع في سرت لمصلحتها، ولكن المتابعين انتبهوا، وكأن الهدف الواقعي هو جر مدينة مصراتة وكتائب حكومة طرابلس إلى معارك ميدانية أو توريطها هناك وتخفيف العبء عن خصومهم وساهم تنظيم داعش وطرفي الصراع في تحويل بنغازي إلى مدينة منكوبة تسود فيها روائح الجثث والمواد الغذائية المعفنة في حاويات الموانئ ولا تجد أثرا للحياة فيها، وسط هجرة مستمرة للعائلات والأفراد…

        وبدا لكل المتابعين يومها أن الهدف مما يقع في سرت هو رغبة البعض في إعادة الأمور إلى مربعات سابقة وسط الحديث عن رغبة أطراف قريبة من أنصار المنظومة القديمة ووقع يومها الترويج لأول مرة لمطلب تولي سيف القذافي شؤون البلاد وتبين أن البعض يردد مقولات طرف إقليمي من أجل فرض أجنداته في الحكومة المنتظرة وتولية قريبين منهم في الحكومة الجديدة…

 وبقي السؤال يومها من دعم من؟ ولمصلحة من؟ وضد من تحديدا؟ فإذا كان الهدف هو محاربة داعش في سرت يومها فهل ستنتهي المهمّة هناك، أم لها ما بعدها؟   

 تطورات التنظيم سنة 2016 بين التنامي والتصفية العسكرية

 عوامل التنامي التنظيمي سنة 2016

         بعد إمضاء اتفاق الصخيرات بين طرفي الصراع في 17 ديسمبر/كانون الأول 2015، لاح للمتابعين أن تنظيم داعش في ليبيا قد تطوّر كثيرًا ليلعب لاحقا دور المُربك ضدّ الوفاق بين الليبيين وأساسًا ضدّ حكومة السراج والتي تطلّب وجودها وبداياتها الفعلية أسابيع عديدة وهي مدّة كان التنظيم فيها قد أرسى دعائم وجوده في مدينة سرت وتبين لاحقا أن التنظيم الفرع لم يعُد  مجرد مُقاتلين يُسيطرون على وسط سرت وبعض أحياء في مُدن الغرب الليبي خاصة أنهم مرفوضون سياسيا واجتماعيا في شرق البلاد كما في غربها وجنوبها أي أن عقل التنظيم وعقل مُسيَريه قد وظَف وبشكل دقيق الوضع الليبي المعقد لوجستيا و سياسيا وأمنيا، وتبين من خلال فعله الاجرامي ومواقفه أنه تنظيم يتشابك فيه الفكري بالسياسي وبالدعم الخفي لعدد من الدول عبر مسارات صيغت منذ منتصف 2014 أي منذ بداية الصراع الدامي بين “الكرامة” و”فجر ليبيا”، وتبين أن بعض الدُول تُسيطر على مفاصل الفرع الداعشي العُليا عبر دعم مادي ولوجستي مُعقد وتتشابك فيه قوى اقليمية وتنظيمات وقوى قبائلية، والسؤال الذي طرح يومها بإلحاح، هو كيف استطاع الفرع توفير الموارد وكيف تطورت قُدراته في أسابيع على كل المستويات؟ بل وكيف تمت عمليات تفعيل نشاطاته الإرهابية والميدانية فضلا عن الحديث المتواتر عن امدادات عسكرية ومالية، حتى أنه تم نقل روايات وأحاديث عن طائرات تسقط دعما وعتادا من الجو في أكثر من مرة في سرت وعلاقات مريبة للإرهابي “الدباشي” واتباعه

 في صبراطة الليبية، بل أن تساؤلا طرحت بعد ذلك حول مقتله بسنتين في ظروف غامضة …  

       لابد من التذكير أن التنظيم قد أعلن منذ 2015 تحويل سرت إلى إمارة “داعشية” والتي أصبحت في مدة قصيرة قبلة لمجاميع من المتطرفين المناوئين للحكومة المترتبة على اتفاق الصخيرات فضلا عن ذلك بدأت مع بداية 2016 جماعات أخرى في الغرب الليبي، مدعومة إقليميا ودوليا، ترى في «داعش» شوكة يمكن من خلالها إرباك أي استقرار ممكن في ليبيا وأخذت قوة التنظيم تكبر يوما بعد يوم، والمساعدات التي تصل إلى الدواعش في سرت وبنغازي تتزايد مما حتم قرار ضرورة تصفية وجوده لأن تواصله سيهدد كيان ليبيا كدولة وفي تأزيم الوضع السياسي والاجتماعي المتأزم بطبيعته في منتصف سنة 2016 وهنا كما لابد من التأكيد أيضا أن مناطق انتشاره ونشاطاته في ليبيا سنتي 2015 و2016 تشير الى أن حركته ونشاطه ليس عبثيا، فــ “سرت” و “صبراطة” و”درنة” هي مناطق ذات خصوصية وفاعلية كبيرة… 

        وعمليا يظهر أن أنشطة التنظيم في ليبيا ودعمه الخفي من طرف قوى محلية ليبية ومن طرف الأذرع الإقليمية الخادمة لسياسات دولية معلومة، قد بنيت على مؤثرات عدة من بينها:

  • أولى عوامل الدعم الغامض للتنظيم هي ارباك حكومة الوفاق والحد من استقلال القرار الوطني فقد بقي التنظيم سيفا مسلطا عليها وهو ما حدا لاحقا بالسراج بالافتخار عبر الإعلان عن تصفية وجود التنظيم بسرت أواخر 2016 بعد بطولات قوات “البنيان المرصوص” التي رفضت التقيد بالزمن وبترتيبات مقترحة فوقيًا لتصفية عناصر داعش ليبيا في سرت…
  • من خلال دراسة هوية القياديين على غرار المفتي “السينغالي” أو جنسيات أمراء داعش في ليبيا يتبين أن نسبة الليبيين ضعيفة جدًا وهو ما أكده خبراء ومختصين أجانب في أكثر من مناسبة حتى أن التنظيم لم يرأسه منذ تواجده الفعلي ومنذ سنوات أي إرهابي ليبي حيث ترأسه سعودي فـــبحريني فتونسيين على فترتين مختلفتين فسعودي، وهو أمر يؤكد الطبيعة القيصرية والخلفيات الإقليمية والدولية من وراء الدعم الخفي للتنظيم في ليبيا وفي افريقيا مستقبلا من حيث التخطيط الاستراتيجي للداعمين والمسيرين الفعليين…
  • تواجد التنظيم ودعمه القوي وقدرته على التواجد بسهولة ويُسر في سرت وصبراطة وقيامه بعمليات في مصراتة وطرابلس سنتي 2015 و2016 تؤكد أنه مرتبط بسيرورة تفكير المنظومة القديمة وأساطين الدولة العميقة في دول الربيع العربي فهو يتحرك كلما تم الاقتراب من الحل السياسي وأنه يستهدف في العمق قوى الثورة والتحرر والتغيير والقوى الوطنية التي لا ترتبط بوظائف الوكالة لقوى إقليمية ودولية …

 تصفية الوجود التنظيمي للفرع الليبي لداعش وترتباته      

      أكدّ أحد الدبلوماسيين الأجانب في ليبيا لسلطات بلاده منذ بداية 2012 أنّ “المجتمع الليبي عصي على الاختراق”، وبالتالي ما حدث أنه تمّ بناء فكرة أن الليبيين لا يتماهون من حيث تكوينهم الفكري والثقافي والسياسي مع الإرهاب والدليل كما أشرنا أعلاه هي نسبة المنتمين الليبيين للتنظيمات الإرهابية وخاصة لداعش، ضعيفة بشهادة الخبراء والمختصين الغربيين فضلا عن تعدّد العوامل الثقافية التي تؤكد التسامح والاعتدال كما أن طبيعة المجتمع تغلب عليها مؤثرات “القبلية” و”الغلبة” و”الغنيمة” وبالتالي ركزت قيادات التنظيمات الإرهابية ومن ورائها مُسيَريها الفعليين على العامل الجغرافي وعوامل غياب دولة مركزية قوية بعد 2013 نتاج التجاذب السياسي والبرلماني والفكري وطبيعة الحدود غير المؤمنّة جنوب البلاد مما أوجد سهولة الدعم الخفي للإرهابيين لوجستيا وماديا واجتماعيا حتى أن التقديرات الغربية أشارت سنة 2016  إلى أن عدد عناصر «داعش» في سرت تراوح بين 4 آلاف و6 آلاف وتبين من خلال التحقيقات أن نسبة عالية منهم أوتي بهم من جنوب الصحراء…

       وبدأت أعداد أعضاء التنظيم في التناقص منذ بداية جوان/يونيو 2016 حيث أن قرار الحرب المعلن في وسائل الإعلام من طرف حكومة الوفاق أدى إلى هروب عدد كبير من المدينة سالمين، وانتقالهم إلى مواقع أخرى يبدو أنه جرى تهيئتها لاستمرار التنظيم في إثارة الفوضى في البلد مستقبلا وفي كل المنطقة المغاربية… 

      ورغم المحاذير الغربية وتردّد قوات الكرامة في تصفية داعش ليبيا في مدينة سرت فإن قوات “البنيان المرصوص” قد قامت بمهمّة وطنية وتاريخية لصالح المجتمع الليبي وفي صالح كل المنطقة وتمت العملية بمنهجية سريعة خالفت كل التوقعات وتم حصار داعش في المدينة في رمضان 2016 وتم تعقب كل خلاياها مما حدا بالتنظيم الى الانقسام الى ثلاث كتل:

  • قسم قاتَلَ وهم عناصر الكتلة الأولى حتى النهاية وقد قدّروا بثلث الأعضاء…
  • قسم فرّ وهم عناصر الكتلة الثانية في مسارين، الأول بحري، والثاني في اتجاه الصحراء، وفق مسارين الأول: التحصن بالصحراء لإعادة إحياء التنظيم لاحقا ولو عبر أسلوب الذئاب المنفردة، أما المسار الثاني: المتبع فهو الذي اتبعه الداعشيون بأن خُيروا النجاة والترتيب للتمركز في أماكن بعضها موجّه في بعض بلدان الساحل والصحراء…
  • عناصر الكتلة الثالثة خُيروا في التسلل واختراق المجتمع في المدن القريبة وعلى الأغلب تم الاتجاه نحو المدن الغربية الأقرب وعناصرها وهم بالأساس التونسيين والليبيين….

       ومما يمكن التأكيد عليه بعد تصفية داعش في سرت وبغض النظر عن الاختلاف في تقدير من يقف إقليميا وراء صناعة فرعها في ليبيا ومن يُسيَره، قد أثبتت تعدّد العوامل في تنامي الوجود التنظيمي له من خلال الوثائق المتداول وطبيعة العلاقات الإدارية والتنظيمية بين عناصره، كما أثبتت أيضا تعدّد الأطراف المُسيَرة لعدد من القيادات الرئيسة وخاصة تلك التي تتحكَم في مفاصل التنظيم الرئيسة وشبكاته داخل وخارج مدينة سرت، كما تبين للجميع أن الشبكات السرية لأي تنظيم إرهابي لا يُمكن التحكم فيها لاحقا كما لا يُمكن توقع مكامن أهدافها أو مراميها وخاصة في مراحل الهوس (تبين ذلك أثناء مرحلة تتبع العناصر الفارة في الاحياء الشاطئية في سرت)، وثبت للمراقبين الغربيين بعد ذلك أنّه لا يُمكن حتى لبعض الأجهزة العالمية أن تجعل فروع كُلَ التنظيمات الإرهابية وعناصرها قيد منطق التحريك المُتحكم فيه حيث أثبتت طبيعة معارك البنيان المرصوص مع الداعشيين أن التطورات التي عرفها فرع التنظيم الداعشي كتنظيم إرهابي يجعل توقع ردود فعله وتفاصيلها أمرا نسبيا، فضلا عن تضارب المصالح بين عدد من أجهزة الاستخبارات العالمية أو حتى فروع الأجهزة داخل أي بلد، بل ويجعل العمليات الدموية لما يعرف بالذئاب المنفردة أو بعض أذرعها من الممكن أن يضرب في أي مكان وبطرق لا يمكن تصورها ولا يمكن احتوائها بالشكل الذي قد يربك تحقيق أهداف مرسومة من المُشغلين أو بعض عُقول تلك التنظيمات وبحثا عن البطولات والمخارج في إطار الهوس والبحث عن بدائل موضوعية…[2]

        وميدانيا وأثناء معركة تصفية وجود “داعش” في سرت تم تداول وجهات نظر مختلفة بين قيادات قوات البنيان المرصوص (التابعة للمجلس الرئاسي)، ووقع طرح سؤال: هل نُواصل حصار من تبقى من داعش في سرت، أم تفتح لها الطريق للخروج من المدينة، ثم اصطياد هذه العناصر بعد ذلك في الصحراء؟ وخشيت بعض القيادات المهاجمة للدواعش من ظهور مراكز للدواعش في مدن أخرى مما يعني استمرار الفوضى في ليبيا…

     واقترح البعض يومها أن يتم ترك ممرات للخروج وبعد ذلك، يتم تتبعهم بالطيران ثم تتم محاصرتهم في مكان بعيد، وكان سبب ذلك المقترح أن ذلك أفضل من أن يكون القتال في وسط سرت، لكن ذلك الخيار وقع تجنبه خشية من انتقال الدواعش إلى أماكن أخرى داخل ليبيا…

     وبالفعل ضعف التنظيم وتضاءل وجوده خلال الربع الأخير من سنة 2016 ولكن طبيعته الأمنية والاستخباراتية وتداخله مع أجندات إقليمية ودولية ستجعله يعود بصور أخرى ولكنها أقل خطرًا مما أجبر أجهزة عالمية على تغيير استراتيجيتها في توظيف التنظيمات الإرهابية لا في ليبيا فقط بل في كل المنطقة بل إن تصفية داعش ليبيا سبب فعليا في إرباك ترتيبات إقليمية وخاصة شرق أوسطية ….

التنظيم سنة 2017 أو التواري المضبُوط

 

 ترتبات الانهيار الميداني أمام قوات البنيان المرصوص   

       بإعلان رئيس المجلس الرئاسي في طرابلس فائز السراج عن نهاية عمليات البنيان المرصوص في ديسمبر 2016 ضعف التنظيم/الفرع، وتضاءل وجوده بشكل ملحوظ في بداية سنة 2017، ولكن طبيعة التنظيم الأمنية والاستخباراتية جعلته يُعود بصور أخرى وعبر تكتيكات جديدة منذ شهر فيفري 2017، وتبين أن مسارات التنظيم لا في ليبيا فقط بل في كل المنطقة قد تغيرت عبر البحث  عن اشكال جديدة وعبر التفكير في دول ومناطق أخرى نتاج تغيير أجهزة عالمية لاستراتيجيتها في توظيف التنظيمات الإرهابية ذلك أن تصفية داعش ليبيا كان سببا في ارباك ترتيبات إقليمية ودولية، وبالتالي أصبح الحديث عن التنظيم طوال شهري أبريل وماي 2017 شبه منعدم باستثناء عمليات منفردة، ومقابل ذلك حضر فعل التيار المدخلي بعد غياب دام لأشهر عديدة نتاج توصيات إقليمية…   

 تغير مسارات التنظيم ومآلاتها على الفرع الليبي

          منذ نهاية 2016 ونتاج التطورات في سوريا والعراق وليبيا وجد تنظيم الدولة نفسه أمام مطبات تحالفاته وفعله الإرهابي ورغم أنه شغل كل العالم وأربك حسابات الدول والمنظمات الدولية والإقليمية، وجد نفسه في نهاية 2016 وبداية 2017 يبحث عن مناطق بديلة لاستعادة نفوذه، وهو يومئذ أمام مسارات رئيسية ممكنة:

  • المفاضلة بين دول تضم ولايات تابعة له ومن بينها طبعا افتكاك معاقل القاعدة أو الصراع معها، وفي الأسابيع الأولى من سنة 2017 كانت دول مثل تونس وليبيا والجزائر ومصر ونيجيريا والنيجر مقاصد رئيسية للتنظيم الإرهابي والقصد هنا نية الاختيار وليس بالضرورة القدرة على تحقيق ذلك ميدانيا …  
  • البحث عن مناطق جديدة لم يتوجه إليها من قبل، تتوفر فيها فعليا المقومات المساعِدة لاستعادة نفوذه من جديد، وسيكون دعم قوى دولية للتنظيم محددا رئيسيا في اختيار بعض الدول الافريقية ليتجه اليها التنظيم، ذلك أن تحقيق مرامي تلك القوى وخياراتها الاستراتيجية سياسيا واقتصاديا وثقافيا من أسباب تجعلها تدعم توطين التنظيمات الإرهابية في افريقيا وطبعا ليبيا هي أولى تلك الدول بغض النظر ان تكون الجهة الغربية او الجنوب ….
  • البقاء في العراق وسوريا ولكن في الأطراف تحديدا على أن تكون الدول الافريقية أهداف له في المستقبل وطبعا سيكون كل من الغربي والجنوب الليبيين أول الأهداف….[3]

     وكان خيار المفاضلة والممكن في هذه الخيارات الثلاث مبني على أن التنظيم خسر “سرت” بعد أن خطّط لتكون ليبيا وسرت بالذات، قاعدته الرئيسية في منطقة شمال إفريقيا مستغلا الحرب بالوكالة بين الفرقاء الليبيين، وبرغم توافر المعطيات الجغرافية والسكانية والسياسية بداية سنة 2017 المناسبة لانتقال التنظيم ومؤسساته المركزية المتبقية إلى ليبيا، فإن الخسائر التي تكبَدها التنظيم في صائفة 2016 لم تكن في صالحه، و يُمكن الجزم بتبخَر أحلامه رغم عمل بعض الأطراف الخارجية والداخلية على محاولة توطينه في الجنوب الليبي وأيضا توطينه من جديد بمُدن الجهة الغربية على غرار “رقدالين” و “صبراطة”، ومعلوم أنه قد تم في تلك الأشهر الحديث أن الأمير السعودي قد خلفه منذ 28 سبتمبر 2016 شخص يسمى بــ “أبي جلال الدين التونسي”، وبغض النظر عن اسم الأمير أو جنسيته فإن بدا وضاحا ان التنظيم وان بدا مرتبكا بعض الضربات التي وجهات اليه أكثر من مناسبة فان استراتيجيتها غير المعلنة في ليبيا هي البحث عن تمركزات جديدة …

 التمركزات الجديدة للتنظيم/الفرع

           بدا واضحا أن القضاء على داعش في سرت كان عملًا كبيًرا بناء على النجاح في تقويض أركانه ولكن القضِاء عليه ليس تاماً، ففي صائفة سنة 2017 أكدت المصادر الأمنية التابعة لـ “البنيان المرصوص”، أن “فلول داعش لا تزال تنتقل جنوب وجنوب غرب وشرق مدينة سرت بحرية تامة، مستفيدة من الامتداد الصحراوي وأحزمة جبلية في المنطقة كستار لتنقلاتها، كما أن مناطق في الجنوب الليبي تعد معقلا جديدا لداعش، ربما لتنظيم صفوفها مجددا”…

كما اتهم يومذاك العقيد محمد شرف الدين (جهاز الاستخبارات العسكرية في سرت) “قوات حفتر بربط صلات مع بقايا داعش جنوب وجنوب شرق سرت”، حيث أكد أنه “لا يفصل بين معسكرات قوات حفتر وداعش سوى بضع كيلومترات، لماذا لا يستهدفهم ولديه الطيران؟ بالإضافة لتفوق قواته على الأرض على قوات داعش”، وقد بينت عمليات الرصد والتوثيق في بداية أغسطس /أوت 2017 أن داعش ينتقل بين مشروع اللوذ ومنطقة العامرية جنوب شرق سرت وهي مناطق تقع تحت سيطرة قوات حفتر…

ومن بين الأماكن التي تمركز فيها التنظيم يومذاك أي في صائفة 2017 الطريق الذي يربط منطقة بني وليد (230 كيلومتراً جنوب شرقي العاصمة) بالجفرة (وسط الجنوب)، كما أن المسج الجوي أثبت أن جماعة لداعش يصل عددها مائة عنصر تتخفى في منطقة المكمكم، وهي منطقة صعبة التضاريس، وفيها لفائف من سلاسل الجبال توفر لهم الحماية، وقد أجبرت ضربة جوية أمريكية داعش وعناصره بالهروب إلى منطقة نسمة، التي تقع تحت سيطرة حفتر، قبل أن ترجع لذات الموقع مجددا…

التحقيقات تكشف وقائع جرائم التنظيم/الفرع بين سنتي 2015 و2017

             في أوت 2017، كشف رئيس التحقيقات في مكتب النائب العام المكلف “الصديق الصور”، وقائع الجرائم التي ارتكبها تنظيم “داعش” الارهابي في ليبيا وأسماء عناصره التي نفذّت تلك الجرائم، وأماكن تواجدهم، حيث ذكر رئيس التحقيقات في مكتب النائب العام أن أكثر من 200 واقعة معلوم لديهم من ارتكبها، ولفت إلى أنه من خلال التحقيقات تمت معرفة مصير الإثيوبيين ضمن مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين، أوقفتهم “داعش” في يونيو 2015، وقاموا بقتلهم وسبي نسائهم…

      وأوضح  رئيس التحقيقات أنه تم تحديد أماكن دفن الأقباط المصريين الذين تم ذبحهم في فبراير 2015، مؤكدا أن عملية الذبح جرت خلف فندق المهاري في سرت، وأشار إلى أن تنظيم داعش قام باختطاف أشخاص يحملون الجنسية النمساوية في عام 2015، كانوا في الحقول النفطية لدى مهاجمة التنظيم الإرهابي حقل الطفل والغاني، حيث تم اقتيادهم إلى مدينة درنة وقتلهم هناك، وتم تحديد أماكن دفنه، كما تحدث عن مقتل سبعة صحفيين في 2014، وعن مقتل عضو المؤتمر الوطني العام فريحة البركاوي والنائب العام السابق “عبدالعزيز الحصادي” في درنة، لافتا إلى أن عناصر تنظيم داعش أوقفوا الصحفيين التونسيين….

وأكد رئيس التحقيقات في مكتب النائب العام المكلف أن أكثر مسارات الهجرة لتسلل عناصر تنظيم داعش إلى ليبيا كانت من السودان والجزائر، وتونس، ومصر، والنيجر، لافتا إلى أن هناك بؤرًا تجند عناصر التنظيم من سيناء المصرية كـ “عبد الله السيناوي”، وأفاد الصور أن أكثر الجنسيات التي انضمت تحت لواء تنظيم داعش، كانت التونسية والمصرية والسودانية إلى جانب الجنسيات الأخرى….  

 التمركز في الجنوب الليبي وتوظيف موقعه الجغرا سياسي 

         طبيعة التطوّرات بين بداية سنة 2015 ومنتصف 2017، تُؤكد أن التنظيم الإرهابي خسر في المحصلة أبرز معاقله في ليبيا، وأن عناصره القيادية التي لم يتم تصفيتها تسللت إلى الجنوب بينما اتجه عشرات من أعضائه الى المناطق النائية، وقد أكد مسؤول التنسيق بين غرفة “البنيان المرصوص” وحكومة الوفاق يومها “فتحي باشاغا” أن “درجة الخطر اقتربت من مدن بن وليد والجفرة وسرت” حسب رايه وعمليا أكدت المصادر الأمنية يومها أنه تم رصد نقاط تجمع للتنظيم الارهابي بالقرب من الحدود الليبية التونسية وجنوب مدينة سرت، بل أن “بشاغا” أكد يومها ( سبتمبر 2017) أن تنظيم داعش استطاع أن يجد الدعم مرة أخرى بعد تسلله إلى الصحراء الليبية والجنوب و”يتحرك حاليا بحرية في الصحراء الليبية وبات يشكل خطرا على ليبيا”….

      كما أكد مدير مكتب التحقيقات في مكتب النائب العام الليبي “الصديق الصور”، أن مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية كوّنوا جيشًا في الصحراء يتألف من ثلاث كتائب على الأقل بعد أن فقدوا السيطرة على معقلهم في سرت العام الماضي…

      وذكر الصور في مؤتمر صحفي بطرابلس أن أغلب مقاتلي التنظيم جاؤوا من السودان ومروا بمدينة أجدابيا التي تبعد 350 كيلومترا تقريبا إلى الشرق من سرت، وقال المسؤول الليبي يومها (سبتمبر 2017)ـ إن “بعض المتشددين المصابين اعتقلوا وتم التحفظ على مضبوطات بعد الضربات الأولى”، وأضاف أن “المحققين علموا أن (تنظيم) الدولة الإسلامية أسس جيشا في الصحراء بقيادة المتشدد الليبي المهدي سالم دنقو الملقب بـــ”أبو بركات”،  وقد اكتسب الفارون الذين لجأوا لمعسكرات في الصحراء جرأة في الأسابيع الماضية، وأقاموا بين الحين والآخر نقاط تفتيش على الطرق إلى الجنوب وإلى الشرق من سرت، وأعلنوا مسؤوليتهم عن هجومين دمويين على قوات محلية. …

        والخلاصة أن سنة 2017 عرفت ضعف التنظيم/الفرع الإرهابي باعتباره جسما إرهابيا ولكن عناصره الباقية على قيد الحياة اختارت مسارات عدة واساسا التواجد في الجنوب أو كذئاب منفردة (أفرادا أو خلايا صغيرة مشكلة بطرق عنقودية) والمؤكد أن أجهزة دولية قد تصرفت بناء على أهدافها المستقبلية عبر الاستفادة من تفكيك التنظيم ومن التفكك والانقسام في البلد، ولكن بقي السؤال حول حقيقة وتفاصيل ترك ممرات آمنة لبعض عناصر التنظيم وهي لا شك العناصر المرتبطة بأذرع إقليمية أو أجهزة دولية مرتبطة بها….

     والمؤكد أيضا ان داعش ليبيا تحول في نهاية 2017 الى مجموعات في أماكن متعددة ونائية ولكنها مدعمة وخاضعة لمُسيريها وفقا لأهداف ستنجز سنة 2018 أو ما بعدها في ليبيا وكل المنطقة المغاربية ولا يعلمها فعليا إلا المُشغلين أو الموظفين الرئيسيين لداعش وبعض قياداتها ….

 التنظيم سنة 2018 وأفقه المستقبلي

            مع نهاية 2017 تبين أن تنظيم داعش في ليبيا ما هو الا أداة موظفة وسط واقع سياسي واقتصادي واجتماعي يسمح بذلك التوظيف أو وجود القابلية لذلك نتاج تواصل الصراع السياسي والتنامي المطرد للتجاذب الايديولوجي وتراجع الخدمات الاجتماعية مما عمّق آلام الناس فضلا عن تنامي المطامح الإقليمية والدولية حول ليبيا وثرواتها وحول عطايا إعادة الاعمار وفرص الاستثمار المستقبلية وغنائم الثروات الباطنية المهولة والمتعددة، فكيف تبين للجميع أن التنظيم مُسيَر ومتحكم فيه، وما هي المرامي الاستراتيجية لتسييره واختراقه وابقائه في وضعية الغموض والالتباس وما هو أفقه المستقبلي في الأراضي الليبية؟        

 

 من يُسيَر التنظيم/الفرع، وهل فعلا يمكن التحكم فيه؟

        رغم اختلاف القراءات حول من يقف وراء صناعة تنظيم داعش الإرهابي ومن يُسيَره، وبغض النظر عن تعدد العوامل، أو تعدد الأطراف المُسيَرة لعدد من القيادات الرئيسية له وخاصة تلك التي تتحكَم في مفاصل التنظيم الرئيسية وفروعه  الإقليمية إلا أنه وبناء على قراءات تراكم الاحداث في ليبيا منذ 2014 وباستقراء طبيعة العمليات الإرهابية المنسوبة للتنظيم وبجغرافية تطوره وانتقاله من مدينة لأخرى بداية من سنة 2015 إضافة الى اضطراب التنامي العددي والتنظيمي له في القرى والمدن الليبية، يتبين أن قوى إقليمية ترى في التنظيم/الفرع فرصا لتحقيق أهدافها بناء على أنها فعلا تتحكم في مفاصله الرئيسية وأنها فعلا وجهت عملياته بإحكام وخاصة سنتي 2015 و2016، إلا أن التنظيم تحول الى خلايا غير مترابطة من حيث الوحدة والتقارب الفكري والتنظيمي وبدا واضحا منذ بداية 2018 أن التنظيم له من يُساعده ويُغذَيه من أجل إعادة بناء شبكاته وفي الوقت نفسه يستهدف بالقصف في مناسبات عدة ويتم ذلك بناء على نسقية اختلاف بين قوى إقليمية ودولية حول تطورات الاحداث في ليبيا نتاج وجود محورين اقليميين ورؤيتين دوليتين للملف الليبي وكيفية التعاطي مع مفرداته وتفاصيله سياسيا وعسكريا…

     وبدا واضحا للمتابعين أن بعض الإرهابيين والخلايا بدت تحاول العودة واستهداف الجميع وهي ما نسيته الأطراف الراعية للتنظيم، ذلك أن الشبكات السرية والإرهابية لا يُمكن التحكم فيها حتى وإن تم بناؤها على القياس كما لا يُمكن توقع مكامن أهدافها أو مراميها وبخاصة في مراحل الهوس، وحتى وإن اعتقدت بعض أجهزة عالمية انها يمكن أن تجعل كُلَ التنظيمات الإرهابية وعناصرها قيد منطق التحريك المُتحكم فيه فان طبيعة التطورات التي عرفها تنظيم “داعش” في ليبيا كفرع إرهابي مؤمن بإدارة التوحش ميدانيا يجعل توقع ردات فعله من حيث الشكل والزمن أمرا نسبيا وخاصة عندما تخضع لحبك عددًا من الأجهزة العالمية أو حتى فروع الأجهزة داخل أي طرف إقليمي مناوئ لليبيا أو له مطامح شتى فيها، بل أن ذلك يجعل العمليات الدموية لما يعرف بالذئاب المنفردة أو بعض اذرعها من الممكن أن يضرب في أي مكان من العالم تحقيقا لأهداف مرسومة من المُشغلين او بعض عُقول تلك التنظيمات وبحثا عن البطولات والمخارج في اطار الهوس والبحث عن بدائل موضوعية…[4]

جانفي/جويلية 2018: التواري وبعض عمليات وإصدار مرئي

              رغم قيامه ببعض العمليات الإرهابية الخاطفة ورصد لبعض تحركاته بين جانفي وافريل 2018، فان التنظيم قد غلب على فعله التنظيمي أسلوب التواري بهدف تجنب الضرابات في الجهتين الشرقية والغربية بينما حضرت رغبة بناء خلايا في الجنوب الليبي….  

في بداية جولية/يوليو الماضي أصدر تنظيم “داعش” الإرهابي، إصداراً مرئياً جديداً، تحت عنوان “موقف الموت”، تناول فيه عبر شريط مُصوَر مدته 26 دقيقة، العمليات الإرهابية التي شاركت فيها عناصره في مدن شرق ليبيا، والتي يسميها “ولاية برقة”…

وجاء الاصدار مباشرة بعد إعلانه يوم 06 جوليلة/يوليو عن مسؤوليته اختطاف ضابطين من القوات الجوية شرق مدينة ودان، اضافة الى إمكانية مسؤوليته عن اختطاف عمال فلبيين،

     وعمليا جاء الإصدار بمثابة إعلان “حضوره”، وفيه أكثر من رسالة أولها إلى أنصاره والثانية إلى المتعاطفين معه، والثالثة إلى الجيش في الشرق الليبي وقوات البنيان المرصوص في الغرب و الى كل الجهات والأمنية التابعة للحكومتين وطرفي الصراع، وفي قراءة لذلك الإصدار الذي ركز فيه يومها على عملياته في المنطقة الشرقية وعلى النفط، يمكن الخروج منها بأنه يريد القول، أنه رغم ما تعرض له، فهو موجود في المشهد الليبي وأنه يمثل تهديدا جديا، إضافة إلى ما يمكن أن يحمله الشريط من تهديد للنفط لحرمان الغرب منه والتهديد المبطن بإيقاف تدفق النفط، هذا ان لم يكن الإصدار قد أتى في اطار توظيف طرف أو أطراف دولية له لمهام ووظائف غير ظاهرة حاليا، وقد تضمن الإصدار سرد تاريخي إضافة الى عرض مجموعة من العمليات الإرهابية التي نفذتها عناصر التنظيم على غرار الهجوم الإرهابي بسيارة مفخخة في 22 ماي/آيار الماضي، أسفر عن سقوط عسكريين اثنين وإصابة ثلاثة آخرين، في منطقة البوابة 60 إضافة الى الهجوم على مركز شرطة القنان بأجدابيا، والذي تم في 2 جوان/يونيو 2018….[5] 

عوامل التحول في بداية جويلية/يوليو 2018

         من الواضح أن الإصدار المرئي لم يكن اعتباطيا من حيث الزمن والطريقة والمضمون بل أن تقارير مختصة في الظاهرة الإرهابية قد أكدت أن تنظيم داعش الإرهابي يُحضّر لعودة نشاطه في ثوب جديد وعبر آليات وطرق مستحدثة على غرار الارهاب السبراني….

  • العامل الأول: ويتمثل في طبيعة المآلات السابقة للتنظيم في كل من سوريا وفي العراق وفي مدينة سرت الليبية أين أراد أن تكون تمركزاته الرئيسية حيث أنه يبحث عن ميادين رئيسية إضافة لحاجة قياداته ومسيريه للموارد على غرار النفط والأراضي الخصبة والأماكن الاستراتيجية في التجارة مما يعني أنه سيبحث مستقبلا عن هجومات خاطفة ونوعية أي اقل الخسائر وحد أدنى من الخسائر….
  • العامل الثاني: أن داعش ليبيا كتنظيم مُركب وغامض البنية والتسيير سيحاول استنفار خلاياه النائمة والتكثيف من عمليات الذئاب المنفردة بحثا منه على إطالة أمد ألا استقرار الأمني والعسكري وحتى السياسي والاجتماعي في ليبيا…
  • العامل الثالث: البحث عن التعاون مع بعض فروع القاعدة الأقرب اليه أو هي بطبيعتها متشابكة معه من حيث العناصر والأهداف وأساليب التحرك الميداني إضافة الى بعض خلايا “بوكو حرام” في الساحل الافريقي….
  • العامل الرابع: التطورات التكنولوجية الرهيبة في السنوات الأخيرة والمتزامنة مع تراجع الفعل التنظيمي والميداني لداعش في سوريا والعراق وفي سرت منذ نهاية 2016 سيجعل الفرع/التنظيم يحضّر لاستراتيجية تقوم على تفعيل الارهاب الالكتروني وإعادة محاولة صنع أسلحة كيمياوية بعد فشل محاولات سابقة في أوروبا وفي المشرق العربي….

 حول مستقبل تنظيم داعش في ليبيا

          لا شك أن تنظيم داعش قد وضع ليبيا منذ 2015 ضمن حساباته التكتيكية، و ها هو الآن يضع كل الشمال الافريقي نصب عينيه في مخططاته الجديدة والاستراتيجية طويلة المدى، بل هو بدأ فعليا يخرج إلى العلن مع تزايد تحركاته (واستهدافه لليد العاملة الأجنبية في ليبيا وتعدد عملياته الأخيرة في الجزائر وتونس)، كما تعددت أنشطته في ليبيا منذ أسابيع على غرار تكثيفه للتجنيد الالكتروني وافتكاك كوتة عددية  من المتواجدين في الجبال عبر تأسيس تنظيم “أجناد الخلافة” في كل من تونس والجزائر أو بعث تنظيمات صغيرة أخرى على غرار “كتيبة الفرقان” أو “جيش العسرة” إضافة للذئاب المنفردة وعددا من الانغماسيين في أغلب البلدان المغاربية والشمال افريقية وإن بصيغ واشكال مختلفة…

      والثابت أن التنظيم قد ضعُف لوجستيا في ليبيا بعد اهترائه في سوريا والعراق خلال السنوات الثلاث الماضية، إلا أنه لن يتخلى عن طموحه القديم في السيطرة على بعض مناطق شمال القارة السمراء وأساسا في ليبيا بسبب تواصل الانقسام السياسي والعسكري وتغذية أطراف إقليمية للتجاذب الأيديولوجي وتعدد المصالح الدولية والإقليمية في البلد باعتباره عمق رئيسي للقارة السمراء …

    ومما لا شك فيه أن العقل القيادي في “داعش” يُفكر بمنطق أنه ستُتاح له إمكانية تحقيق إطلالة على المتوسط، خاصة وأن قيادة التنظيم والمخططين له، لم ولن ينسوا فشل سيطرته على الساحل اللبناني في الشمال السوري…  

     وإن تم طرد أغلب قيادات داعش في اتجاه الصحراء فإن بعض فُلوله لا زالت متواجدة في الجنوب الليبي بصيغ مختلفة عبر الحلم باستكمال مسلسل السيطرة على منابع النفط ومصادر الطاقة في الشرق الأوسط، وسيكون ذلك عبر استهداف الموارد المتوفرة في ليبيا وتحينا لفرصة توظيف الانقسامات سواء الحالية أو الممكنة الحدوث مستقبلا وبسبب مخزون النفط والغاز وهو ما يشكل مطمعا لـــ”داعش” وأسياده المُسيرين والحقيقيين وهم المخترقين لقيادته المسيرة له بل ومن يختارونها عمليا ….

وفي الخلاصة فان مستقبل داعش يبقى مُرتبط بالأدوار التي قد تسندها أطراف له على غرار أن يكون سيفا مُسلَطا على الحكومة المُرتقبة إن تم انجاز الاستحقاقات الانتخابية أو حتى على حكومة الوفاق الحالية،  وستُحدد عوامل عدة مختلفة مزيد ملاحقة العناصر الفارة والخلايا النائمة في الصحراء الليبية أو تغذية أطراف إقليمية للتنظيم عبر دفعه مثلا لتأسيس “إمارة” في الجنوب تكون أهدافها ومراميها مزيد من أنهاك ليبيا كدولة مترامية الأطراف إضافة الى دفع الليبيين الى مزيد من اليأس والقنوط مما يسهل ضرب أمال التوحد والوحدة والقوة وروح البذل والعطاء وبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة ….

ويمكن التأكيد أن داعش كتنظيم إرهابي يستعد لمرحلة جديدة لعل أهم ملامحها الرئيسة هي أنه استوفى شُروط تواجده كتنظيم رئيسي من بين التنظيمات الإرهابية الأخرى وخاصة في ليبيا، وعمليا ستظهر في ليبيا وخاصة في الجنوب تنظيمات أخرى والتي من الطبيعي أن تكون أكثر خطورة وأكثر براغماتية ووحشية وخادمة للاستراتيجيات وخطط المُشغلين والمُمولين من أجل تركيع كل العالم لغايات قوى رئيسية ولأهداف رسمتها بعض شركاتها العابرة للقارات والهادمة للقيم وللحداثة ذاتها …

المصدر : مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية 

-المراجع-

[1]  أنظر مقال الكاتب “داعش ليبيا تنظيم مخترق أم تابع”، موقع “المغاربي للدراسات والتحاليل” (www.almagharebi.net)   نشر بتاريخ 22 أوت/أغسطس 2015

[2]  أنظر مقال للكاتب في موقع افريقيا 2050 تحت عنوان ” مستقبل تنظيم داعش في افريقيا في أفق سنة 2018″…

[3]   أنظر مقال للكاتب بموقع قناة الزيتونة حول المسارات المستقبلية لداعش في أفريقيا” مقال منشور بتاريخ 21 جانفي 2018 …

[4]  قراءة تحليلية للكاتب تحت عنوان “داعش وتعدد الأطراف المسيرة له” ضمن ملف صحيفة رؤية ليبية “داعش ليبيا تنظيم تابع ومسير أم مخترق” العدد 06 بتاريخ 08 يليو/جويلية 2018 

[5]  ملف صحيفة رؤية ليبية حول داعش ليبيا (مصدر سابق) ، تقرير اخباري “داعش يستعرض سابق عملياته في ليبيا ويعد لموجة أخرى من العمليات الإرهابية”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى