أقلام وأراء

خالد عكاشة: تفاعلات الصدمة الإسرائيلية

خالد عكاشة * 11-3-2024: تفاعلات الصدمة الإسرائيلية

بكافة المقاييس؛ شكل ما جرى يوم السابع من أكتوبر 2023 صدمة كاملة لدولة إسرائيل، وللمجتمع الإسرائيلي، رغم ما يحاول أن يبديه من تماسك خلال إدارته لردة الفعل على ما شهده هذا اليوم الفارق. في عقلانية مزيفه لا تخلو من تدليس واسع للداخل والخارج، تسوق النخبة الحاكمة على المستوى السياسي والعسكري أن لحظة المحاسبة للمسؤولين عما جرى، آتية لا ريب بعد انتهاء الحرب على غزة وتحقيق الأهداف المخطط لها، كي يبدو إرجاء لحظة المراجعة شكل من أشكال الرصانة، التي تكذبها كثير من شواهد الإخفاق السياسي والعسكري على السواء.

رد الفعل الإسرائيلي المبالغ فيه لحد التهور الاستراتيجي، وحده يمكن أن يفسر حجم الصدمة التي تلقتها، ولازالت تعاني منها بعد 150 يوما من عمر الحرب على قطاع غزة، فهي تحاول أن تثبت لنفسها وللغير قدرتها على سحق وإبادة ما يقارب 2 مليون فلسطيني، وأن تهدم وتسوي بالأرض كافة أشكال الحياة في مدن وقرى ومخيمات، بل والفضاءات الضيقة المحدودة لتلك المساحة الجغرافية العنيدة، التي تجرأت ـ ونجحت ـ في إحداث هذا التغير في الميزان الأمني المستقر. الأهداف المعلنة لتلك الحرب الإسرائيلية؛ تعكس هي الأخرى قدر كبير من التشوش والاهتزاز، فالطريق للقضاء على البنية العسكرية لـ”حماس” بدا نظريا في بداية الحرب، ووصل بعد 150 يوم إلى حصاد كارثي (30 ألف ضحية) فضلا عن حجم التدمير المادي، ولازال هذا الهدف حاضرا كأولوية لم تتراجع رغم فداحة ما جرى. الجانب الفلسطيني يدفع فاتورة باهظة لاشك في ذلك، لكن تداعياتها على إسرائيل ـ الدولة والشعب ـ لن تكون أقل في مستقبل لن يتأخر طويلا. الهدف الخاص بتحرير المحتجزين الإسرائيليين من خلال العملية العسكرية، أثبتت الأسابيع الطويلة أنه لا يختلف كثيرا عن الهدف الأول، بل وجاء التغطية على فشل تحقيقه بمزيد من التخبط، والغوص في سراب المضي خلفه.

ملف تحرير المحتجزين الإسرائيليين، وارتباطه سياسيا بالهدنة وجهود الوساطة، كشف التعاطي الإسرائيلي الرسمي معه حجم التردي للقادة اليمينيين بالحكومة، رئيس الحكومة يستخدم لقاءات وعبارات التخدير أمام شاشات الإعلام، ومع العائلات التي نفذ صبرها. لكن الواقع يعبر عن رغبة حقيقية لدى بنيامين نتنياهو والقادة العسكريين، على انتزاع تلك الورقة من يد حركة حماس، حتى وان اضطرت لحرق هذه الورقة والتخلي عن المحتجزين عسكريين أو مدنيين. فضلا أن هذا سلوك إسرائيلي جديد تماما باعتباره يمس عقيدة الدولة والمواطنة اليهودية، إلا أنه يكشف جوانب مخفية من فقدان البوصلة الرشيدة لإدارة رد الفعل، فعندما تبين أن استرجاع المحتجزين قد يدفع باتجاه إيقاف القتال ـ ولو مؤقتا ـ ، سرعان ما تبدت الرغبة في افشال الصفقة برمتها والتضحية بالمحتجزين من أجل ضمانة استمرار الحرب. المراقبون من داخل إسرائيل وخارجها؛ يقدمون تحليلا يخص هذه الإشكالية، باعتبارها مأزق رئيس الحكومة وحده كون مستقبله السياسي بات مهددا ومرهونا باستمرار الحرب. لكن الصدمة الحقيقية أن الأمر يتجاوز بنيامين نتنياهو ويمتد، ليشمل الغالبية الكاسحة من القادة السياسيين والعسكريين والشريحة الأكبر من الجمهور الإسرائيلي، جميعهم تحت وقع صدمتهم الخاصة في 7 أكتوبر باتوا أقرب التصاقا بجنون القوة والنيران، ولا يروا أمامهم سوى الهروب من علاج الدمار بمزيد من الدمار والعنف.

لتقدير حجم الصدمة الإسرائيلية، يمكن بسهولة مقارنة يوم الثامن من أكتوبر الماضي بما كانت تعيشه إسرائيل قبل يوم واحد من 7 أكتوبر، فحتى اليوم السادس من هذا الشهر عام 2023 كانت الدولة والشعب الإسرائيلي يعيشون في حالة مختلفة كليا. القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين ليست على أولوية أية أجندة دولية أو إقليمية، والمجتمع الإسرائيلي ينزاح بهدوء وثبات تجاه اليمين المتطرف دون أي مضايقة، فالعالم والإقليم منشغل بالحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها الاقتصادية، وامتدادها لحالة الاستقطاب بين الأطراف الدولية الكبرى. فيما إسرائيل تركن إلى نجاحها في إتمام اتفاقات السلام الإبراهيمي، وبدأت ترتب وتتجهز لإنجاز اتفاق مماثل مع المملكة السعودية حتى وإن كلفها ذلك دفع بعض الأثمان الإضافية، وكان هذا الأخير هو محل الجدل الإسرائيلي الداخلي الذي رأى أنه في حال نجاح تلك الخطوة، يكون قد حقق أكبر تكامل إقليمي حلمت به الدولة الإسرائيلية منذ تاريخ انشاءها. بعد 150 يوم من عمر الحرب؛ يبدو البون شاسعا بين المشهدين ما بين السادس والثامن من أكتوبر، واللافت أنه تحت تأثير الصدمة أيضا، تظن إسرائيل أنها بأجندة رد الفعل التي انتهجتها قادرة على نحو ما استعادة ما كان عليه الحال قبل اندلاع تلك الحرب.

التفاعلات الواقعية لما جرى في إسرائيل يمكن رصده على نحو مغاير، فبعد عقود من الانكار الكامل لإمكانية الوصول إلى حل سياسي مع الفلسطينيين، خرجت أصوات عدة لأكاديميين ولقادة عسكريين وساسة سابقين، يطرحون مسألة “حل الدولتين” كمسار حتمي لتحقيق الأمن الإسرائيلي، وضمان لعدم تكرار هجوم السابع من أكتوبر وتأمينا لسكان مناطق ومستوطنات “غلاف غزة” على المدى الطويل. قد تختلف رؤية ما يطرح إسرائيليا مع ما يطرح عربيا أو دوليا، ولكن الطرح وحده له دلالة وسيتنامى ويتبلور في المدى المتوسط بمجرد انتهاء الحرب، وانطلاق الأسئلة الحتمية الدولية والإقليمية المتعلقة باليوم التالي. الجناح الإسرائيلي الذي ظل يدمر ويحاصر السلطة الفلسطينية طوال سنوات مضت، وساهم بصورة رئيسية في ترسيخ الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، سيتراجع لصالح أجنحة إسرائيلية أخرى ستقبل الانصياع لضغوط ولأمر واقع يخص ضرورة التعامل مع سلطة فلسطينية موحدة، تمتلك الشرعية الإقليمية والدولية ويمكنها ببعض الاسناد من أطراف جاهزة للعب هذا الدور، من الانخراط في عملية سياسية مع إسرائيل بشرط إدارتها لكامل الشأن الفلسطيني في عملية سلام تفضي إلى نيل الحقوق. في النهاية ستفرض قيود جدية؛ على رغبة الحكومة الإسرائيلية الحالية للذهاب جغرافيا أبعد من قطاع غزة، فالأطراف الدولية ومنها مؤيدي إسرائيل يدركون جيدا، أنها لا تعدوا كونها مغامرة هروب للأمام تطيل عمر الأزمة فحسب، لا يوجد مسوغ لها من أي نوع لا سياسي ولا أمني ولا عسكري.

* المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى