أقلام وأراء

جواد بولس يكتب –  محكمة تجميد العدل العليا

 جواد بولس *- 8/10/2021

يوم الأربعاء الفائت، وصلت ساحة المحكمة العليا، على غير عادتي، مبكرا بعض الشيء. كانت أخريات الصباح ترحل مثقلة بتناهيد الشرق، وشمس أيلول تتهيأ لتتوسط سماء القدس. كنت مترددا كيف عليّ أن أواجه القضاة، وبينهم سيجلس قاضٍ مستوطن لا يخفي نوازعه السياسية، بل يعبّر عنها، متخفيا بمهنية زائفة، في عدة قرارات شارك في صياغتها، مخالفا رأي الأكثرية فيها تارة، أو مضيفا على رأيهم، من جعبته سهاما واخزة، تارة أخرى.

سرت في الساحة التي كانت، على غير العادة، خالية من الناس. كانت جدران البناية الرخامية ترتفع شاحبة وكأنها أسوار سجن عتيق. لوهلة حسبت المكان مهجورا، لولا حركة حارسين، من وحدة أمن المحاكم، جفلا حين دفعت زجاج باب المدخل الثقيل. ببرود واضح عرضت بطاقتي وتلوت على الحارس تفاصيل القضيتين المسجلتين باسمي، ثم قمت بشكل عفوي بعرض شارتي الخضراء التي تفيد بسلامتي من كورونا، من على شاشة هاتفي؛ فسرّ الشاب من جاهزيّتي ومن كوني مواطنا ملتزما. ثم سألني، متمما واجباته الأمنية، إن كنت أحمل سلاحا ؟ فمددت سبابتي باتجاه فمي فتابعها، بدهشة، ثم تبسم.

جلست على أحد المقاعد الخشبية وأمامي ينحني بهو المحكمة بقوس صخرية ضخمة، مستوحاة من شكل حائط الهيكل الكبير، كانت مضاءة من أشعة الشمس التي تسرّبت من نوافذ عالية، وتدلت كأثداء من السماء، ثم ارتمت على رخام الأرض، فصار أبيض كلون الدهشة. حدّقت في الفراغ الفاهي وتذكّرت أن البناية أقيمت على هضبة لتكون أعلى من بنايتيّ الحكومة والكنيست المجاورتين، برمزية معمارية لسيادة القانون والعدل، كما عبّر عنها الذين بادروا لإنشاء المبنى؛ فالدهاليز فيها مستقيمة كما يتوجب على الحق والقانون أن يكونا، أو كما جاء في سفر المزامير «بارّ أنت يا رب وأحكامك المستقيمة» وكذلك الدوائر استوحيت كرموز توراتية لعلاقتها بمفهوم العدالة وحتميتها في الموروث الديني اليهودي. كنت أقرأ عن حملة التحريض المستفزة ضد ترشيح قاضي المحكمة المركزية في تل أبيب، ابن مدينة يافا خالد كبوب، أمام لجنة تعيين القضاة ليصبح قاضيا في المحكمة العليا. لقد بدأ التحريض ضد ترشيح القاضي كبوب من قبل جمعية يمينية، قامت بإعادة نشر خبر قديم حول مشاركته، قبل عام تقريبا، في حفل أقيم في مدينة يافا وفيه كرّمت جمعيتان فلسطينيتان من القدس، اسم والد القاضي الذي كان يشغل منصبا رسميا، رئيس لجنة الأوقاف في المدينة حتى وفاته عام 2006. لن أسهب في تفاصيل هذه المسألة، رغم أهميتها، فهي جديرة، لما تثيره من أسئلة وتداعيات على عدة مستويات، بمقالة خاصة. قرأت آراء المحرضين وقرأت أيضا مواقف المدافعين؛ فانتابني غضب شديد، لأن العالم يلهث وراء الخبر الرخيص والتحريض، ويترك ما يجب أن يقضّ مضاجعهم بحق؛ فإذا كانت هنالك حاجة لمحاسبة أي جهة على خطابها، فهي بدون شك هذه «المحكمة العليا» التي يجب أن تحاسَب على قبولها بضم قضاة يستوطنون أراضي فلسطينية محتلة، ويخرقون القوانين، ويشاركون بارتكاب ما يجمع قانون الأمم على تعريفه كجريمة حرب واضحة.

قررت أن أكون صداميا مع القضاة؛ رغم شعوري بالإحباط والتعب؛ فهم، هكذا تذكّرتهم، لم يكونوا سعاة حق ولا دعاة إنصاف؛ وأنا لم أذق منهم ولا مرّة، خلال أربعين عاما، هي عمر وجعي أمامهم، طعم العدل، بل كانت الخسارة دوما من نصيبي، وكان القهر والحسرة حصة مَن جئت لأدافع عنهم. دخلت القاعة قبل موعدي.. كانت مندوبة نيابة الدولة تدافع عن قرار شرطة إسرائيل بإغلاق ملف شكوى قدمها مجلس قروي فلسطيني في محافظة نابلس، ضد جمعية دينية يهودية دعت من خلال إعلانات منشورة، إلى حملة تجنيد أموال من أجل البدء في بناء مستوطنة على أراض فلسطينية خاصة. لم يستوعب القضاة، هكذا فهمت من خلاصات ما سمعته بعجالة، موقف الشرطة الذي لم يكن مدعوما بأي مبرر أو مسوّغ قانوني، بعكس موقف جمعية «يش دين» (يوجد قانون) وهي الجهة الملتمسة باسم مجلس القرية الفلسطينية، التي دعّمت موقفها بجدارة قانونية، وبما تملكه من مصداقية مهنية أثبتتها تقاريرها في كشف موبقات الاحتلال ووكلائه من جمعيات استيطانية أو محاكم عسكرية وغيرها. كانت القاعة خالية إلا من مندوبتين عن جمعية «يش دين» وبعض أعضاء الجمعية الاستيطانية ومندوبة عن الشرطة. كان القضاة الثلاثة غاطسين في مقاعدهم وتلف وجوههم كمامات زرقاء، مثل كمامات سائر الحاضرين؛ فبدوا، من بعيد، كثلاثة كائنات خرافية في قصة من عالم الخيال. ملأ النعاس القاعة، وكادت رتابة صوت مندوبة الدولة، أن تنيم الحاضرين، لولا احتجاجات القاضيين على كلامها، التي كانت تسمع، من حين لآخر، كهمهمات رجال إطفاء متعبين. لم يتدخل القاضي المستوطن بمجريات القضية، بل حافظ على نعاسه ملقيا خده الأيسر على كف يده، برسالة منه لجميع الحاضرين تفيد بأنه خارج «لعبة» زميليه القاضيين. تلوا قرارهم بسرعة « الحانقين» وأعلنوا عن استراحة لمدة نصف ساعة.

كلّفتُ بالدفاع عن الأسيرين مقداد القواسمة، من مدينة الخليل، وعلاء الأعرج، من مدينة عنبتا، المعتقلين إداريا في سجون الاحتلال، على أنهما ناشطان في صفوف «حركة حماس» ويشكلان خطراً على أمن وسلامة الجمهور. كلاهما مضرب عن الطعام احتجاجا على اعتقاله تعسفيا ومن دون تهم عينية، ويطالبان بنيل حريتهما بشكل فوري. بعد انتهاء الإجراءات بحقهما في المحكمة العسكرية، تقدمت بالتماسين للمحكمة العليا، وطلبت فيهما الإفراج عنهما. قدّمت النيابة العامة الإسرائيلية ردها على الالتماسين مطالبة بردهما وإبقاء الأسيرين رهن الاعتقال، على الرغم من تسلّمها لتقريرين طبيين يصفان خطورة وضعيهما، بما في ذلك تأكيد على أنهما يواجهان احتمال الوفاة، أو إصابتهما بضرر جسدي غير قابل للعلاج.

عاد القضاة إلى القاعة، فسألني رئيس الجلسة إذا استلمت التقرير الطبي الخاص بالأسير علاء الأعرج؛ فبناء على ما جاء فيه، فإنهم يتجهون نحو تعليق/تجميد أمر الاعتقال الإداري بحقه. ثم تحول القاضي إلى النائب العام وسأله حول موقفه في هذه المسألة، رغم أنها مسألة محسومة بناء على السوابق التي حصلت في الماضي بحالات مشابهة. دهش القاضي عندما سمع رفض مندوب النائب العام لموقف المحكمة، فطلب منه القاضي أن يستفهم من مسؤوليه في وزارة القضاء عن موقفهم النهائي. أظهر القاضيان غضبهما من موقف النيابة المتحدي للمحكمة، فاضطروا لإصدار أمر احترازي طالبوا فيه النيابة تقديم مسوّغاتها لرفض مقترحهم، على أن تتم مناقشة القضية في اليوم التالي. لم يكن في القاعة سوانا نحن، المحامين ومندوبي المخابرات العامة، فالأسيران لم يحضرا بسبب سوء حالتيهما الصحية، والعائلات الفلسطينية ممنوعة، على الغالب، من دخول إسرائيل. انتقل القضاة لسماع ملف الأسير مقداد القواسمة، الذي يرقد في حالة خطر قصوى في مستشفى «كابلان» الإسرائيلي. توجه القاضي لمندوب النيابة سائلا عن موقفهم إزاء إمكانية تعليق أمر الاعتقال بحق الأسير مقداد، فلم يعطه النائب ردا إيجابيا في البداية، إلا أنه تراجع في اللحظات الأخيرة ووافق على مقترح المحكمة فصدر قرارها بتعليق أمر الاعتقال.

خرج القضاة مسرعين كالصدى. وقفت، أمام الحجارة الصماء، محاولا أن ألملم بقايا روح وأمضي. شعرت بوحدة قاهرة وتمنيت، لحظتها، أن احتضن أحفادي وبينهم أبكي. تنبّهت إلى هرمي. أردت أن أصرخ، لكنني خفت أن يخونني دمعي. أبكيت؟ لا أذكر فأنا لم أهزم إلا مجازا. أضحكت؟ لا أذكر، فأنا لم أنتصر إلا مجازا. هكذا حاربتهم كل دهري: في صدري لغم والسراب حلمي.

كانت أم مقداد تنتظر اتصالي فسارعت وأخبرتها أن مقداد انتصر، فأمثاله يصنعون أقدارهم وغصاتنا. ثم قلت لصحافي كان برفقتي أن يكتب: إن تعليق/تجميد الاعتقال الإداري لا يعني إلغاءه، لكنه بالحقيقة إخلاء مسؤولية إدارة سجون الاحتلال والمخابرات عن مصير وحياة الأسير القواسمة وتحويله إلى «أسير» غير رسمي في المستشفى، حيث سيبقى تحت حراسة «أمن» المستشفى بدلا من حراسة السجّانين، وسيبقى فعليا أسيرا لا تستطيع عائلته نقله إلى أي مكان، علما بأن أفراد عائلته والأقارب يستطيعون زيارته كأي مريض، وفقا لقوانين المستشفى. إن قرار «التجميد» يشكل «اختراعا» خطيرا لجأت إليه نيابة الاحتلال، ودعمته المحكمة العليا كحل قضائي خبيث يفضي عمليا إلى ترحيل المسؤولية عن حياة الأسير بحجة أنه من اليوم فصاعدا مجرد مريض يعالج في المستشفى.

فليكن قلت في سرّي.. لكنه حيّ ويقاوم.

يتبع..

 * كاتب فلسطيني .

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى