أقلام وأراء

جميل مطر: اجتهادات لفهم تطورات القمة الدولية

جميل مطر 20-7-2023: اجتهادات لفهم تطورات القمة الدولية

قرأت في لقاءات المعسكر الغربي وآخرها لقاء قمة الحلف الأطلسي في ليتوانيا، وفي تطورات الأحداث داخل روسيا وآخرها التغيرات في القيادات العسكرية، ما يوحي بأن «المحارب» السياسي في الحرب «العالمية» الدائرة منذ أكثر من خمسمائة يوم تحت عنوان حرب أوكرانيا، يريد، ولعله بالفعل في أشد الحاجة إلى، استراحة. لن أكون بين المتفاجئين إن صدر في أجل منظور إعلان من طرف ثالث عن التوصل إلى هدنة طويلة بين طرفي الحرب وأقصد بين واشنطن أو بروكسل من جهة وموسكو من جهة أخرى. تتلو هذا الإعلان مفاوضات قمة على أساس واقع مختلف كثيراً أو قليلاً عن الواقع الذي نشبت في ظله الحرب.

عندما نكتب عن هدنة قريبة فلا بد أن يكون وراء ما نقول خلاصات لاجتهادات وتفسيرات حول تغيرات واقعة أو متوقعة في سلوكيات الحرب والمتحاربين، وسلوكيات الدبلوماسيين والمسؤولين عن قطاعات الأمن القومي في الدول المتحاربة. بالفعل توفر من عناصر التغيير والضغط ومن التسريبات ما يسمح لنا، بالتهيؤ ولو نظرياً لمرحلة أخرى شديدة الاختلاف عن كثير من مراحل الانتقال السابقة من نظام قيادة عالمية إلى نظام قيادة جديد أو إلى نظام قيادة معدل. أعرض سريعاً لهذه العناصر كما أراها، علماً بأنها تظل خلاصة لاجتهادات لا أكثر.

أولاً: يوجد أكثر من دليل على أن عدداً متزايداً من دول الحلف الأطلسي أنهكه نزيف المعونات، أسلحة كانت أم أموالاً سائلة. تأتي الحرب في ظروف غير عادية، فآثار وتداعيات جائحة كوفيد لم تغادر. كذلك الحال في مشكلات البطالة والهجرة والتضخم والتقاعد المبكر التي استمرت تتدفق في روافد الأزمة الاقتصادية مستنزفة اقتصادات معظم الدول الأوروبية ومتسببة في تصاعد أنشطة التيارات القومية المتطرفة. الحرب الأوكرانية رافد من هذه الروافد، وربما كان أهمها، لأنه يجدد في الوعي الأوروبي ذكريات تجارب سيئة مع حكام روسيا.

ثانياً: على العكس تماماً تعددت الشواهد على أن ما يسمى بالمجمع الصناعي العسكري في أمريكا اشتد ساعده لوقف اعتدال مجمع السياسة الخارجية المكون من وزارة الخارجية وبيوت العصف الفكري الليبرالية.

ثالثاً: لا يبدو للشعوب الأوروبية أن هناك نهاية قريبة وسعيدة للحرب الدائرة بين حلف الأطلسي بقيادة أمريكا من ناحية وروسيا من ناحية أخرى. على العكس يبدو لهم ولغيرهم، مثل الصينيين وآسيويين آخرين، أن هناك قوى خفية تعمل على إطالة أمد الحرب.

رابعاً: أدى التمديد المتعمد في عمر الحرب إلى نتائج لم يتوقعها الطرفان الأمريكي والروسي عند التخطيط لها وعند نشوبها. كعادتهم خطط الأمريكيون للحرب كما خططوا لغيرها، نزهة قصيرة وتنتهي. أقدر أنهم كانوا واثقين من أن الصين لا تزال بعيدة عسكرياً وسياسياً عن تهديد أمن أمريكا القومي وأمن حلفائها الآسيويين. إلا أن خمسمائة يوم أو أكثر من الحرب المكلفة مادياً وسياسياً كانت كافية لتفتح عيون الصين على حقائق جديدة، أهمها أن الحرب قد تكون فرصة للصين لتجرب عضلاتها وقواها الناعمة لتكسب بها أصدقاء في الشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا الجنوبية وجزر في جنوب المحيط الهادي.

خامساً: حلت ساعة الحساب. هل الهيمنة الأمريكية كما نشأت ومورست بعد انفراط الاتحاد السوفييتي في أواخر القرن العشرين استفادت من الصراع العسكري بين أوكرانيا وروسيا ولا دليل على ذلك، أم تضررت بدليل انحسارها المتدرج ولكن المتسارع؟ هل أخطأ الأمريكيون وهم يخططون لهذه الحرب حين افترضوا أمرين؟ افترضوا أن قوى في روسيا سوف تشتبك فيما بينها أو ضد قيادة الكرملين، وأن الحرب بغياب الرئيس بوتين أو بثبوت ضعفه سوف تنتهي سريعاً. افترضوا أيضاً أن الصين عند أول استفزاز معد لها خلال الحرب، وأقصد زيارة نانسي بيلوسي لتايبيه، تقرر، التفكير في إزاحة خيار المواجهة والمنافسة الشاملة جانباً فتعود لأمريكا هيمنتها كاملة.

الأسباب كثيرة ومتنوعة، تلك التي تدفعنا إلى أحضان أمل أن تتوقف قريباً الحرب التي نشبت في حقيقتها من أجل تمديد مرحلة انفراد أمريكا بالقيادة الدولية ومنع اختراق أسوار الهيمنة الأمريكية وإقامة نظام قيادة جديد. قد تتوقف الحرب ولكن السباق على تغيير نظام القمة مستمر، يمكن أن تتجدد الحرب نفسها، ويمكن أن تنشب حروب أخرى، ويمكن أن يبتكر المتسابقون أشكالاً جديدة.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى