أقلام وأراء

الحبيب الأسود – ليبيا ومدركات الفساد

الحبيب الأسود٢-٢-٢٠٢٢م

يبقى الفساد السبب الرئيسي في عرقلة التوصل إلى حل شامل في ليبيا، يحتاج هذا الاستنتاج إلى المزيد من التدقيق، ولكنه غير بعيد عن عين الحقيقة في بلد يدفع غاليا ثمن ثروته التي يتصارع عليها الداخل والخارج، الأحباب والأغراب، الديمقراطيون والدكتاتوريون، الإسلاميون والعلمانيون، ومختلف الفئات والجهات والجماعات، بما في ذلك من يحترفون رفع شعار الحرب على الفساد واجتثاث الفاسدين.

قبل أيام، حلت ليبيا في المرتبة 172 من بين 180 بلدا شملها مؤشر منظمة الشفافية الدولية لمدركات الفساد عن العام 2021، لتكون بذلك ضمن قائمة الدول التسع الأكثر معاناة من الظاهرة. فقد حصلت على 17 نقطة فقط من 100، مما يضعها في مراتب متقدمة على صعيد الدول التي تعاني من الفساد بعد أفغانستان وكوريا الشمالية واليمن وفنزويلا والصومال وسوريا وجنوب السودان.

هذا الأمر ليس جديدا، فخلال سنوات متتالية، كانت ليبيا إحدى الدول الخاضعة لسيطرة الفوضى ولدكتاتورية الفساد، وعندما تمت الإطاحة بنظام القذافي في العام 2011، ارتفع نسق النهب الممنهج للمال العام بشكل غير مسبوق من قبل رافعي شعارات الحرية والديمقراطية، ودعاة القيم الأخلاقية في ظلال الدولة الإسلامية، والقادمين من عواصم الغرب بمخططات وبرامج النزاهة والشفافية والحوكمة الرشيدة.

وكلما قيل إن هناك سلطة جديدة جاءت لتخلص الدولة من شرور السلطة السابقة، يجد الشعب نفسه أمام غابة من الهوامير المتقدمة في هجوم كاسح للعبث بقوت أبنائه، وبرعاية من دول كبرى وديمقراطية وليبرالية تحارب الفساد على أراضيها وتحميه وتسانده في بلاد الآخرين، ولاسيما أن بعض صانعي القرار فيها عادة ما يتحولون إلى مستشارين لكبار اللصوص. في تلك الدول الغربية هناك قانون صارم لمحاربة الفساد، ولكن أهل السياسة لا تخلو أحزابهم وحكوماتهم وشراكاتهم وحساباتهم من تحالفات مع الفاسدين ولاسيما في تلك الدول الثرية الريعية.

وعندما تم الإعلان قبل أيام عن محاولة اغتيال وزيرة العدل حليمة إبراهيم عبدالرحمان، فإن ذلك غير قابل للفصل عن واقع الحال المتعلق بمساعي مؤسسة القضاء لملاحقة كبار الفاسدين من المتورطين رسميا في نهب وإهدار المال العام والعبث بمقدرات الدولة، والذين عادة ما تكون لديهم امتدادات داخل مفاصل الدولة ومراكز النفوذ الميليشياوي وضمن جماعات ضغط متعددة الأبعاد الداخلية والخارجية مع الغطاء الاجتماعي والعلاقات السياسية المتشعبة.

كلما قيل إن هناك سلطة جديدة جاءت لتخلص الدولة من شرور السلطة السابقة، يجد الشعب نفسه أمام غابة من الهوامير المتقدمة في هجوم كاسح للعبث بقوت أبنائه، وبرعاية من دول كبرى

قبل أيام قال مكتب النائب العام الليبي إنه تقرر حبس وزير الصحة في حكومة الوحدة الوطنية علي الزناتي ووكيل وزارته سمير كوكو، وذلك بعد تحقيقات في خصوص عدم مراعاة لائحة العقود الإدارية في تعاقدات القطاع والإحجام عن التقيد بمعايير استعمال أدوات التعاقد، وعلى الأخص قيامهما بأعمال توريد وحدات توليد الأكسجين بنسبة زيادة في السعر وصلت إلى 1000‎ في المئة من سعر البيع في السوق، والتعاقد بطريق التكليف المباشر لتنفيذ بعض الأعمال بعد تاريخ تسلمها من الإدارة المختصة والتعاقد بطريق التكليف المباشر مع شركات أسست بتاريخ العاشر من أغسطس 2021 على الرغم من عدم توافرها على الملاءة المالية والخبرة الكافية لتنفيذ الأعمال المتعاقد عليها.

الملف كشف حجم التلاعب بالأموال المخصصة لمواجهة جائحة كوفيد – 19 وهو ما يعني انهيارا تاما لمقومات النزعة الإنسانية، تماما كما هو الأمر بالنسبة إلى وزير التربية والتعليم موسى المقريف الموقوف قيد الحبس الاحتياطي منذ العشرين من ديسمبر الماضي بعد اتهامه بالتورط في واقعة الإهمال وممارسة عمل من أعمال الوساطة والمحسوبية، والإخلال بمبدأ المساواة، وفق قرار النيابة، حتى أن طلبة المدارس الليبية في المدن والقرى والأرياف والغرب والشرق والشمال والجنوب والجبل والساحل والصحراء، لا يزالون إلى اليوم يعانون من غياب الكتاب المدرسي وهم يقتربون من منتصف العام الدراسي.

لا تنسوا، كذلك أنه تم توقيف وزيرة الثقافة والتنمية المعرفية مبروكة أوكي بتهمة الفساد وتزوير مستندات، قبل أن يتقرر الإفراج عنها بتدخل مباشر من رئيس الحكومة ووزيرة العدل إلى حين الانتهاء من التحقيق، فيما تولى سلامة الغويل مهمة وزير للثقافة بالنيابة.

كما قررت النيابة العامة إحالة نعمان محفوظ الشيخ وأسامة الضاوي أبوراس باعتبارهما منتحلي صفة رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد خلال السنوات الماضية ومتورطين في تهمة الكسب غير المشروع، وهو ما جعل غرفة الاتهام تقرر إحالتهما إلى دائرة الجنايات بمحكمة استئناف طرابلس لمقاضاتهما.

وأصدرت قرارا بحبس رئيس لجنة إدارة الهيئة العامة لصندوق التضامن الاجتماعي احتياطيا، على ذمة التحقيقات الجارية بخصوص التجاوزات المالية في الهيئة، وذلك على خلفية بلاغ مرفوع من موظفي مدرسة الأمل للصم وضعاف السمع، وممثلي حراك ذوي الإعاقة، حول تفاوت مالي طال مرتباتهم، مع غياب ما يبرر هذا التفاوت، وفق المقتضيات القانونية والمالية والمحاسبية.

وتقرر أيضا حبس مدير عام الشركة الليبية للاستثمارات الخارجية موسى عتيق لإحداثه ضررا جسيما بالمال العام والمصلحة العامة، نتيجة إخلاله بواجب تحصيل قيمة القروض التي بلغ إحداها 200 مليون جنيه مصري، وبلغت قيمة الأخرى خمسة ملايين دولار أميركي.

كما تقرر حبس الصدّيق عبدالكريم كريم النائب الأول لرئيس الوزراء الأسبق ووزير الداخلية في حكومة علي زيدان، على ذمة تهم بالفساد المالي، وذلك بعد أن تأكد للنيابة العامة ​أنه “خالف القواعد المنظمة لتعاقد جهة الإدارة والتحايل على إجراءات الرقابة المنوطة بديوان المحاسبة، ويتمثل ذلك في تجزئة إجراءات تكليف مباشر صادر لـ11 شركة إلى 121 تكليفا مباشرا للشركات نفسها”، و”تعاقد على توريد احتياجات تفتقد إلى الجودة وبأسعار مرتفعة، وصرف قيمة التعاقد على توريدها دون الحصول على إذن ديوان المحاسبة”.

والحقيقة أن هذه الأسماء المذكورة في ملفات النائب العام هي غيض من فيض الفساد الذي أصبح ميزة الزمان وسمة العصر والأوان في ليبيا الجديدة، والذي تحول إلى ظاهرة استثنائية مما زاد الشعب فقرا برغم استمرار تدفق النفط إلى الأسواق العالمية، وأدى بالمقابل إلى ظهور سلطة الفاسدين ودولة الفساد، وإلى تشكل خيارات السياسات الفاسدة المعتمدة على نفوذ الصكوك ودبلوماسية الصفقات وعقود الرشى والأصوات المعروضة للبيع في المزادات العلنية بما فيها تلك الخاضعة للإشراف المباشر من قبل الأمم المتحدة كما حدث في ملتقى الحوار السياسي، حتى أن الجميع تقريبا بات يدرك أن نفوذ الفساد والفاسدين سيبقى لصيقا بأي محاولات للحل السياسي في البلاد، وسيكون الفاعل الرئيس في الانتخابات القادمة وبعد القادمة وبعد بعد القادمة، أصلا لأن العمل السياسي ذاته قد تحول في جانب أصيل منه إلى فعل فاسد مرتبط برغبة صاحبه في الحصول على نصيبه من كعكة الريع المتاحة لمن يجيد اللعب أكثر في سوق مناورات الديمقراطية الزائفة.

 

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى