شؤون مكافحة الاٍرهاب

الإخوان والغرب… سقوط المراهنة على الإسلام الديمقراطي؟

د. جمال عبد الجواد، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ٢-٥-٢٠١٨م

تقلبت حظوظ جماعة الإخوان، ولأكثر من مرة، خلال السنوات القليلة الماضية. ففي البداية كان هناك الصعود التدريجي للجماعة منذ سنوات السبعينيات؛ ثم كان الوصول السريع إلى مواقع السلطة وذروة النفوذ في أعقاب ثورات 2011؛ وبعد ذلك جاء التراجع السريع الذي تلى ثورة يونيو 2013. ومع تغير حظوظ الإخوان في مصر والمنطقة، تغيرت المواقف الغربية من الجماعة أيضًا.
بدأت المواقف الغربية من الإخوان والإسلام السياسي في التبلور منذ عقد الثمانينيات، فقد فرض الصعود التدريجي للإخوان، والحركات الإسلامية، نفسه على أجندة الاهتمامات البحثية والسياسية للنخب الغربية، وكان انتصار الثورة الإسلامية في إيران في عام 1979 سببًا إضافيا لتعزيز الاهتمام بهذه الظاهرة الجديدة.
اتجه المفكرون الليبراليون لتقديم صعود الإسلام السياسي كظاهرة أصيلة، لها منطق سوسيولوجي مفهوم، ظهرت وتطورت نتيجة لمنعطفات وأزمات التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي في بلاد الشرق الأوسط، داعين الحكومات الغربية إلى أخذ هذه الظاهرة بعين الاعتبار وهي تخطط سياساتها تجاه دول المنطقة.
بالمقابل، نظرت التيارات السياسية الغربية المحافظة للحركات الإٍسلامية من منظور الحرب الباردة، فوجدت فيها حليفًا يمكن استخدامه في الصراع ضد المعسكر السوفيتي. وكان التجنيد والتسليح واسع النطاق لإسلاميين من تيارات سياسية متنوعة لمحاربة الاتحاد السوفيتي والنظام التابع له في أفغانستان، هو التجسيد الأهم لهذا الاتجاه.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يجري فيها توظيف الإسلاميين في إطار الحرب الباردة. ففي عقد الستينيات، وفي إطار الصراع بين الراديكالية الناصرية المتحالفة مع الاتحاد السوفيتي، والملكيات العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة، أخذ الإخوان الجانب الموالي للغرب. كان الوضع أقل تعقيدًا بكثير في هذه المرحلة، فقد كان الإخوان هم الجماعة الوحيدة ذات الشأن التي ترفع راية إسلامية؛ وكان توظيف الجماعة في إطار الصراع الدولي يتم بمعرفة إقليمية، فيما اكتفت القوى الكبرى الدولية بمتابعة المشهد، وتقديم دعم ونصيحة محدودة.
وجاءت هجمات الإرهاب في الحادي عشر من سبتمبر 2001 لتمثل محطة مهمة في تطور الموقف الغربي من الإخوان وتيارات الإسلام السياسي الأخرى، بعد أن أصبح تهديد الإرهاب قضية أمن قومي في الولايات المتحدة ودول الغرب. الإرهابيون يأتون من بلاد بعيدة، ولابد أن هناك في بلادهم ظروفًا تنتج كل هذا القدر من التطرف، وبالتالي فإن الحد من خطر الإرهاب يقتضي القضاء على الظروف التي تسهم في إنتاجه. هكذا، فكر العقل الغربي.
في هذا السياق، تم طرح الديمقراطية كنقيض للاستبداد المنتج للإرهاب في بلاد الشرق الأوسط. ولكن الديمقراطية لمن؟ فالتيارات الليبرالية واليسارية والقومية لم تعد تحظى سوى بقواعد تأييد ضيقة في بلاد المنطقة، فيما بدا الإسلاميون بألوانهم المختلفة وكأنهم يحتلون المساحة الأكبر من المجال العام والسياسي في هذه المجتمعات. فطرح سؤال الديمقراطية في الشرق الأوسط يؤدي تلقائيا لطرح سؤال عن الموقف من الإسلاميين. فقد تعامل الغرب قبل ذلك مع الإسلاميين كأداة يتم توظيفها في الصراع بين الدول، وهو أمر يختلف تمامًا عن تمكينهم من المشاركة في السياسة، وربما تولي السلطة، في مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر.
لقد أدت هذه الطريقة في فهم الأوضاع السائدة في بلاد الشرق الأوسط إلى إحياء النزعات الاستشراقية الضاربة في القدم، فمنذ تصادم الغرب مع الشرق زمن صعود الإسلام قبل قرون طويلة، والغرب ينظر إلى الإسلام باعتباره الجوهر الذي تقوم عليه مجتمعات المنطقة؛ وأن هذا الجوهر الإسلامي للشرق الأوسط اتسم بالثبات طوال القرون التالية؛ وأن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي شهدتها المنطقة منذ القرن التاسع عشر لم تخدش سوى سطح المجتمع الذي مازال جوهره إسلاميًا، وأن أي تعامل فعال مع المنطقة يقتضي التعامل مع جوهرها الإسلامي هذا.
ساد في هذه المرحلة موقف يقوم على التمييز بين الجماعات الجهادية من ناحية، وجماعات إسلامية غير عنيفة ومعتدلة –أهمها جماعة الإخوان- من ناحية ثانية. وفيما كان هناك إجماع غربي على ضرورة محاربة الحركات الجهادية و تقويضها، فقد ساد بين الغربيين رأي يقول بأهمية تشجيع جماعة الإخوان المعتدلة. تعامل الغربيون مع الإخوان باعتبارهم النقيض للجماعات الجهادية والبديل عنها، وأن مقتضيات محاربة الإسلام الجهادي تقتضي قبول الإخوان وجماعات الإسلام السياسي غير المتورطة مباشرة في العنف. لقد كان الإخوان أهم الرابحين من وراء هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية. وقد شهدت الفترة السابقة على انهيارات الربيع العربي نموًا سريعًا في قبول الإخوان في الغرب، وفي العلاقات بين الإخوان ومؤسسات غربية.
أبدى الغربيون درجة كبيرة من التساهل فيما يتعلق بشروط تمكين الإسلاميين، وتسامحوا مع كثير من الخصائص العنصرية والاستبدادية والفاشية في أفكارهم وتنظيمهم، أولا، لأنهم لم يتوقعوا تحولًا ديمقراطيًا حقيقيًا في مجتمعات المسلمين، وهم، ثانيا، كانوا يخاطرون بمصير شعوب وبلاد أخرى، حتى لو كانت هذه المخاطرة تتم بحجة الحرص على تحقيق تقدم وإصلاح في هذه البلاد. وزين الغربيون لأنفسهم هذا المدخل نظرًا لأن الإخوان مثلوا جماعة المعارضة الأكثر تنظيمًا في دول المنطقة.
لم يطلب الغربيون الكثير ممن اعتبروهم إسلاميين معتدلين، وكان يكفيهم أن يروا هؤلاء وقد قبلوا بالمكون الإجرائي في الديمقراطية، أي بالانتخابات. فلم يكن خافيًا على الغربيين المعنيين بشئون المنطقة أن أيديولوجيات الإخوان تتعارض مع الديمقراطية، ومبادئ الحرية، وأن أي إصلاح مهم لم يتم إدخاله على العقيدة الإخوانية، وأن كل ما تم لا يزيد عن القبول بقواعد الأقلية والأغلبية التي تعمل وفقًا لها النظم الانتخابية. ومع هذا، فقد قبل الغربيون بالدفع في اتجاه تمكين الإسلاميين سياسيا، ممنين أنفسهم بأن الاعتدال يغري على المزيد من الاعتدال. فقد طور أكاديميون ومثقفون غربيون نظرية تقول بأن دمج الإسلاميين في السياسة يشجعهم على الاعتدال، فيما استبعادهم منها يدفعهم نحو التطرف.
شجع الغربيون على القبول بهذه المخاطرة الدور الذي لعبه كتاب ومثقفون ونشطاء سياسيون وحقوقيون من أبناء الشرق الأوسط في الترويج لفرضية الأثر الاعتدالي للديمقراطية على الإخوان. لقد بدا هؤلاء وكأنهم قوى تسعى لتحقيق إصلاح ديمقراطي في بلاد المسلمين، وبدا الأمر كما لو كان التشجيع الغربي للبديل الإخواني هو في نفس الوقت تشجيع للبديل الديمقراطي في بلاد المسلمين، في ظل رواج لنظرية تقول بأنه لا مكان لنظام ديمقراطي حقيقي في بلاد المسلمين بدون أن يكون الإسلاميون جزءا منه.
تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا كانت ذات أثر حاسم في ترجيح كفة الغربيين القائلين بمزايا وآفاق دمج الإسلاميين في نظام انتخابي. وترجع أصول حزب العدالة والتنمية إلى حزب الرفاه الذي يعتبر التجسيد التركي لجماعات الإسلام السياسي الشبيهة بجماعة الإخوان. لقد شجع وجود نظام انتخابي فعال وله مصداقية في تركيا، شجع بعض من أعضاء حزب الفضيلة السابقين على تأسيس حزب العدالة والتنمية الأكثر اعتدالا وذي الميول الإصلاحية. عبر الممارسة، وخاصة بعد توليه السلطة في عام 2002، نفذ حزب العدالة والتنمية سياسات اقتصادية ناجحة وفقًا لقواعد نظام السوق، وأدخل إصلاحات سياسية نجح من خلالها في تحجيم دور العسكريين في السياسة. ومارس الحزب السلطة في إطار احترام القواعد الرئيسية للنظام العلماني الديمقراطي.
لقد شجعت تجربة حزب العدالة والتنمية كثير من الغربيين المعنيين للاعتقاد بإمكانية تعميم التجربة في بلاد أخرى ذات أغلبية إسلامية، معتمدين في ذلك على نظرية تقول بأن الإخوان وجماعات الإسلام السياسي ليست جماعات جامدة غير قابلة للتغير، وأن دمج هذه الجماعات في نظم سياسية ديمقراطية سيساعدها على الأخذ بمزيد من الاعتدال، والتركيز على السياسة بدلا من الدين. المراهنة الغربية، إذن، كانت على المستقبل، وعلى أثر الممارسة الديمقراطية على نزع تشدد الإخوان السياسي وجمودهم الديني والفكري، وتحويلهم إلى جماعة سياسية معتدلة. لكن المستقبل أتى بسرعة، ووضعت تطورات حقبة ثورات 2011 العربية الأفكار الغربية بشأن الإخوان موضع الاختبار، وهو الاختبار الذي لم تنجح هذه الأفكار في اجتيازه.
التطورات التي شهدتها المنطقة منذ الربيع العربي وضعت حدًا لهذا الاتجاه في السياسات الغربية. فقد عجز الإخوان عن وضع أسس نظام سياسي ديمقراطي في مصر، ودفعوا ملايين المصريين للمطالبة باستقالة الرئيس الإخواني بعد عام واحد من انتخابه. أما في البلاد التي تحول فيها الربيع العربي إلى صراع أهلي ممتد، فإن الإخوان فشلوا في البرهنة على أنهم القوة المهيمنة القادرة على فرض النظام والاستقرار بديلا عن النظم الاستبدادية، أو أنهم قوة الاعتدال القادرة على تهميش المتطرفين. ظهر ذلك واضحًا بشكل خاص في سوريا، التي تم فيها تهميش الإخوان على يد الجهاديين، كما ظهر في ليبيا التي لم يزد دور الإخوان فيها عن كونهم مجرد جماعة إضافية من ضمن الجماعات المتناحرة، الأكثر من هذا أنهم لعبوا دورًا معوقًا لفرص المصالحة السياسية والتطور الديمقراطي. أما في اليمن فقد لعب الإخوان دورًا كبيرًا في إضعاف نظام علي عبدالله صالح أثناء موجة الاحتجاجات الثورية، لكن دور الإخوان بعد ذلك تعرض لتهميش سريع، بعد الانعطافة الطائفية التي أخذها الصراع في اليمن، وبعد تحول الصراع في هذا البلد إلى جزء من الصراع الإقليمي الأوسع نطاقًا.
أسهم المآل الذي انتهت إليه تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا في إضعاف موقف القائلين بنظرية الاندماج – الاعتدال، والاستبعاد – التطرف. فقد دخل حكم العدالة والتنمية في منعطف استبدادي حاد، خاصة بعد محاولة الانقلاب التي جرت في عام 2016، حتى بدت هذه المحاولة الانقلابية للكثيرين كما لو كانت ذريعة تم استخدامها من جانب نظام العدالة والتنمية لإحكام قبضته على الحكم.
في السنوات السابقة على ثورات الربيع العربي كان لأنصار نظرية الاندماج / الاعتدال الإسلامي الغلبة في بلاد الغرب. فمنذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية احتلت مسألة الإصلاح السياسي في بلاد الشرق الأوسط أولوية لدى الولايات المتحدة، ومنها انتقل هذا الاهتمام إلى الاتحاد الأوربي. أجمعت القوى السياسية المختلفة في أوروبا على هذا الهدف؛ فكانت سلسلة التطورات التي بدأت بغزو العراق، وانتهت بثورات الربيع العربي. اعتقد المحافظون الجدد في الولايات المتحدة بقدرتهم على إحداث تحويل ديمقراطي في نظم الحكم في المنطقة. اختلف خصومهم الديمقراطيون معهم قليلا فيما يتعلق باستخدام القوة المسلحة لنشر الديمقراطية، لكنهم لم يختلفوا في الهدف النهائي. الترويج للديمقراطية، بل وفرضها بوسائل ضغط متعددة، كان هو العامل المشترك الأدنى بين التيارين الليبرالي والمحافظ في الغرب.
لقد اختفى الإجماع بين المحافظين والليبراليين بعد فترة قصيرة، واتسعت الفجوة بين التيارين، خاصة بعد أن عصفت موجة يمينية شعبوية لها سمات فاشية بالتيارات المحافظة في بلاد الغرب. عوامل كثيرة أسهمت في صعود اليمين الشعبوي في الغرب، ومن أهمها موجة الهجرة غير الشرعية الكاسحة التي أطلقتها الأزمة السورية؛ كما لو كان الشرق الأوسط يعاقب بطريقته هؤلاء الذين عبثوا به، ونصبوا أنفسهم أوصياء عليه.
لقد كفر اليمين القومي الصاعد في أوربا بعقيدة التمييز بين إسلاميين “طيبين” وإسلاميين “أشرار”، أو إسلاميين جهادين وآخرين معتدلين، وأصبح يُنظر لكل الإسلاميين بالطريقة السلبية نفسها. أما الليبراليون الغربيون فلم يعودوا قادرين على الترويج بمصداقية لمزايا دمج الإخوان والإسلاميين المعتدلين، فانصرفوا بدلا من ذلك للتركيز على حقوق الإنسان، وهي حيلة ذكية قد تسمح لهم بالدفاع عن الإسلاميين والإخوان دون ذكرهم بالاسم، بعد أن أصبح مجرد ذكرهم يثير الحساسية لدى الكثيرين في بلاد الغرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى