أقلام وأراء

إبراهيم حيدر: اختناق إقليمي يوتر ساحات المنطقة والفوضى الأمنية تُنذر بانهيار لبنان

إبراهيم حيدر 12-08-2023: اختناق إقليمي يوتر ساحات المنطقة والفوضى الأمنية تُنذر بانهيار لبنان

الحوادث الأمنية المتنقلة في عدد من المناطق اللبنانية وآخرها حادث الكحالة بعد انقلاب شاحنة الذخائر لـ”حزب الله” وقبلها حروب مخيم عين الحلوة، وعين إبل الجنوبية، إلى ما سبقها في العاقورة في الشمال، ومواجهات “سرايا المقاومة” في وادي الزينة جنوب بيروت، تطرح كلها تساؤلات عمّا يمكن أن يحصل في لبنان من تطورات تحمل علامات الفوضى الأهلية وتفتح على حروب متنقلة بأجندات إقليمية لفرض أمر واقع ينعكس على الاستحقاقات اللبنانية المعلّقة بالفراغ. تعكس هذه الحوادث مدى حالة التحلّل التي وصل إليها لبنان بانهيار مؤسساته والاختلالات في ظلّ أزمات مالية خانقة وانقسام سياسي وطائفي وعجز عن التوصل إلى تسويات تنقذ ما تبقّى من البلد.

كل الحوادث التي حصلت تندرج في إطار الفوضى الأهلية الناتجة من الاصطفافات الطائفية والصراع المحتدم بين القوى السياسية، حيث يتخذ الانقسام طابعاً عمودياً، ويوظّفه البعض أو يستثمره سياسياً للمزيد من الإمساك بالبلد، وهو ما يؤدي إلى اختلالات عميقة وأوضاع سلبية ينزلق فيها الجميع إلى المواجهة، وترتفع معها دعوات التقسيم أو الانفصال في مواجهة الهيمنة وفائض القوة.

وتكثر التساؤلات أيضاً عمّا يمكن أن يحدث في لبنان خلال الأيام الفاصلة عن عودة المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت في أيلول (سبتمبر) المقبل، لإطلاق سلسلة من الحوارات، تبدأ ثنائية وربما تتحوّل إلى طاولة تجمع الفرقاء، للبحث في الحلّ الرئاسي. فالتطورات تتسارع في ظلّ التوترات الأمنية الداخلية والضغوط السياسية والاقتصادية التي يواجهها لبنان، ومن بينها العجز عن دفع رواتب موظفي القطاع العام في ضوء الخلاف حول الدفع من الاحتياطي الإلزامي في مصرف لبنان، وتجعله في حالة سباق بين إمكان الوصول إلى حل أو الانهيار الشامل. ويترافق ذلك مع جملة مؤشرات إقليمية تشير إلى الإنسداد في أفق تطوير العلاقات بين الدول الخليجية وإيران، الامر الذي ينعكس على لبنان ويزيد من عجز الأطراف عن التوصل إلى تسوية.

الواقع اللبناني الحالي يشير إلى مزيد من الانقسام، وهو ما قد يؤدي إلى حوادث أمنية متنقلة تعمّق الأزمة وتفصل بين اللبنانيين، من دون أن يعني ذلك نشوب حرب، لكن مخاطرها كبيرة على البنية الأهلية في ظلّ العجز عن التوصل إلى حلول. وتطرح في هذا التوقيت تساؤلات أيضاً عمّا إذا كانت هذه الحوادث ستدفع القوى السياسية اللبنانية إلى التلاقي والبحث عن حل جدّي للمشكلات المطروحة وإنجاز الاستحقاقات، لكن الواقع حتى الآن يدلّ إلى عجز هذه القوى عن التواصل من دون رافعة خارجية، وهو ما يعني أنّ لبنان ذاهب إلى مزيد من الانهيار والاصطفاف الطائفي وتمترس القوى الطائفية في بيئاتها. ويتبيّن على أرض الواقع أنّ فئات لبنانية عدة بدأت تبحث عن الأمن الذاتي في مناطقها رداً على ما تعتبره “فائض القوة” الذي يهيمن “حزب الله” من خلاله على الدولة، كما تفلّت السلاح الذي يحصد ضحايا يومياً في مختلف المناطق اللبنانية.

وإذا كانت التطورات في الداخل اللبناني تعكس حجم الانقسام الأهلي، إلاّ أنّ اشتداد الأزمة في المنطقة، ينعكس على لبنان سياسياً وأمنياً، واقتصادياً، وذلك على الرغم من استمرار الجهود الدولية للبحث عن حلّ في لبنان خصوصاً للاستحقاق الرئاسي في انتظار عودة المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت باسم اللقاء الخماسي في الدوحة.

لكن التطورات الإقليمية المستجدة تنعكس على لبنان في شكل مباشر، في ظلّ استمرار الصراع. وفي حال استمر المأزق الراهن على حاله وسط توترات أمنية ومشكلات مالية واقتصادية، فإنّ البلد سيكون أمام انهيار كبير يترافق مع ضغوط تمارسها محاور إقليمية عدة. فكل التوقعات تشير إلى أنّ لبنان في ظلّ هذه الأجواء غير قادر على الصمود حتى نهاية السنة، فإما تتلقف القوى السياسية مبادرة اللقاء الخماسي التي يُشرف عليها لودريان في أيلول (سبتمبر) المقبل لانتخاب رئيس توافقي إنقاذي والسير في عملية تكوين السلطة لوقف الانزلاق والحدّ من خسائر الانهيار، أو يذهب البلد إلى مزيد من التآكل يؤدي إلى الانفراط وتفكّك الصيغة وصولاً إلى الفوضى الكيانية.

لكن المؤشرات السياسية في ظلّ تسارع التوترات الأمنية الداخلية وانكشاف التوظيف الإقليمي لها على ما شهده مخيم عين الحلوة، ثم الحوادث الأمنية المتنقلة التي ينخرط فيها “حزب الله” بسلاحه، والتطورات الخارجية التي تدفع الدول إلى تحذير رعاياها بضرورة المغادرة، لا تعكس جهوزية لدى الأطراف لكسر الحواجز والانفتاح على مناقشة خطة طريق للحل، خصوصاً لدى محور الممانعة. ومنذ الآن بدأنا نشهد اصطفافاً جديداً على وقع هذه التطورات، يعكس الصراع القائم بمزيد من التمسّك بالشروط التي تفاقم الأزمة، حيث اندفع “حزب الله” للردّ بالدعوة “إلى التنبّه لمخاطر ما يُساق إليه لبنان من خلال الضغوط التي تُمارس عليه، سواء في الاستحقاق الرئاسي أو بالتهديد بانهياره بكل مؤسساته. واتهم نائب “حزب الله” محمد رعد الأميركيين بإدارة اللعبة، إذ “لا يمكن لأطراف إقليمية نافذة أو محلية أن تقف موقفاً صادراً عن تقديرها الشخصي من دون رأيهم ومن دون الأخذ بالاعتبار موقف الأعداء الدوليين”.

ويبرز موقف “حزب الله” التصعيدي في ما يتعلق بالاستحقاق الرئاسي، حين قال رعد “إنّ هناك أشخاصاً لا نقبل بأن يكونوا حكّاماً في هذا البلد، لأنّ تجربتنا معهم كانت مرّة، وكانوا جنباً إلى جنب مع العدو الإسرائيلي في غزو بلدنا وفي هتك كرامة مواطنينا. نحن ندرك تماماً ماذا نريد، وإلى أين سنصل؟”. ويعني ذلك نسفاً للتشاور الثنائي وتقييداً لمهمّة لودريان، وهي تُعقّد إمكان الوصول إلى حل أو اجتراح تسوية للملف الرئاسي، خصوصاً أنّ المعلومات تشير إلى تغيّر التحالفات السياسية بين القوى الحزبية، على وقع تمسّك “حزب الله” بمرشحه سليمان فرنجية للرئاسة والخطوط المفتوحة مع رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل الذي يبدو أنّه غيّر أولوياته، إضافة إلى اشتداد الأزمة السورية التي باتت تنعكس على لبنان بقوة في الشأنين السياسي والمالي.

في انتظار أيلول (سبتمبر) المقبل سيكون لبنان أمام عواصف شتى داخلية بالدرجة الأولى، قبل أن يحط المبعوث الرئاسي الفرنسي في لبنان. فاستمرار الحوادث الأمنية يهدف إلى تغيير في الوقائع اللبنانية وأمر واقع يفرض نفسه على الحوار المرتقب. فإذا لم يتمّ التوصل إلى تفاهمات قد يدخل لبنان في مرحلة خطيرة يؤجّجها التأزّم الإقليمي المفتوح على كل الاحتمالات. وقد جاء التحذير السعودي والكويتي لمواطني البلدين بضرورة مغادرة لبنان، وتلته بيانات لدول أخرى، مرتبطاً إلى حدّ كبير بالتوترات الأمنية وبالأزمات السياسية التي تعصف بالبلد حول كل الملفات. وهذه التحذيرات تتصل بالتطورات التي تشهدها المنطقة، فبقدر ما يُعتبر القرار السعودي موقفاً استباقياً لإمكان حدوث توترات أمنية واسعة، إلاّ أنّه أيضاً مرتبط بما يحدث في المنطقة وتراجع منسوب التفاؤل في الاتفاق السعودي- الإيراني الذي لم يتطرّق في الأصل إلى المشكلة اللبنانية، لكنها كانت في صميمه من حيث ارتدادات ملفات المنطقة على لبنان. والأمر منوط بالأفرقاء اللبنانيين، خصوصاً إذا قبل “حزب الله” بالتسوية وتراجع عن شروطه المستحيلة…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى