هآرتس: ايران لا تزال مصممة على الثأر
هآرتس 12/8/2024، تسفي برئيل: ايران لا تزال مصممة على الثأر
“يوجد لنا حق شرعي في الدفاع عن النفس، وهذا الحق غير مرتبط بغزة بأي شكل من الاشكال. ولكن نحن نأمل في أن ردنا سيأتي في الوقت والصورة التي لن تسيء لوقف اطلاق النار المحتمل في قطاع غزة”، هذا ما جاء في بيان البعثة الايرانية للامم المتحدة في يوم الجمعة. كالعادة، نص ايران متعرج بما فيه الكفاية كي يسمح لكل طرف بتفسيره كما يشاء دون التعهد أو الرمز الى طبيعة الرد وموعده، وبالاساس كيف سيتساوق الرد، اذا جاء، مع نية التوصل الى وقف اطلاق النار الذي تسعى اليه جميع الاطراف قبل اللقاء في يوم الخميس القادم.
الجهود الدبلوماسية الحثيثة التي تبذلها واشنطن 24 ساعة في اليوم، التي تشمل ضمن امور اخرى المحادثات مع اسرائيل ومصر وقطر، وتركيا وسلطنة عمان والعراق والاردن وروسيا والصين ايضا، تهدف الى اقناع ايران بأن ترى في وقف اطلاق النار في غزة البديل المناسب للثأر بشكل عام، أو على الاقل رد لن يجر المنطقة الى الحرب.
حتى الآن من السابق لاوانه القول اذا كانت هذه الجهود قد اثمرت، لكن يجدر الانتباه الى الاصوات العلنية التي تسمع في ايران نفسها. في الايام الاخيرة نشرت صياغات مختلفة حول الخلافات السائدة في القيادة العليا بخصوص طبيعة وتوقيت الرد. على سبيل المثال، نشر موقع “ايران انترناشيونال” نبأ يقول بأن الرئيس الجديد، مسعود بزشكيان، توسل للزعيم الروحي علي خامنئي كي لا يشن هجوم يمكن أن يمس بشكل شديد بالدولة، اقتصادها وقدرته على ادارة الحكومة الجديدة. في موازاة ذلك نشر بأنه يوجد خلاف كبير بين الرئيس وبين حرس الثورة حول هذه المسألة، وهو النبأ الذي تم نفيه بسرعة في موقع “تسنيم”، المقرب من حرس الثورة الايراني.
تصعب معرفة مستوى الحقيقة في هذه التقارير. ولكن هذه ليست خلافات غير متوقعة، حيث مثلها رافقت حكومات سابقة في ايران. ليس فقط أن بزشكيان محسوب على التيار الاصلاحي، بل هو ايضا قام بتعيين مستشار للشؤون الاستراتيجية، محمد جواد ظريف، وهو الشخص الذي كان وزير الخارجية في فترة الرئيس حسن روحاني والذي وقع على الاتفاق النووي وحاول بدون تحقيق نجاح كبير، تحسين اقتصاد ايران. ظريف هو مثل الخرقة الحمراء امام حرس الثورة. ففي شهر شباط 2021 تم تسريب مقابلة لم تكن للنشر، مع معهد ابحاث في ايران، هاجم فيها مباشرة تدخل حرس الثورة، وبشكل مباشر قاسم سليماني قائد “قوة القدس” الذي تمت تصفيته بالقصف الامريكي في كانون الثاني 2020، الذي حسب اقوال ظريف استخدم الضغط الكبير لافشال جهود التوصل الى الاتفاق النووي.
ظريف الذي كان مدير حملة بزشكيان في الانتخابات الاخيرة لن يكون وزير في الحكومة الجديدة، التي أسماء الـ 19 وزير فيها عرضها الرئيس أمس أمام البرلمان، بعد مشاورات مطولة مع خامنئي. من الواضع لظريف، مثلما لبزشكيان، بأنه لن تكون أي فائدة من شمل اسمه في قائمة سيرفضها البرلمان. ولكن كمستشار استراتيجي فان ظريف لا يحتاج الى مصادقة البرلمان. وبقوة هذا المنصب فانه سيكون الشخص الذي سيرسم الاستراتيجية السياسية، الاقتصادية والاجتماعية، للرئيس، التي يتوقع أن تضر بعدد غير قليل من المناطق الحساسة، سواء لحرس الثورة أو للمحافظين، وبالاساس المحسوبين على التيار الاصولي.
إن تعيين ظريف وتشكيلة الحكومة الجديدة سيطر أمس على جدول اعمال وسائل الاعلام في ايران، حتى أكثر من قضية رد ايران المتوقع على اسرائيل. بشكل عام، يبدو أنه مع مرور الوقت منذ تصفية اسماعيل هنية فان وسائل الاعلام في ايران، بما في ذلك التي يسيطر عليها النظام وحرس الثورة، خفضت حجم التغطية وقوة التصريحات مقابل الردود التي نشرت على الفور بعد عملية الاغتيال.
“الالتزام” بالثأر الشديد والعقاب الرادع الذي سيجبي من اسرائيل ثمن التصفية ما زال قائما. ولكن الى جانبه يتم عرض “التصرف بحكمة” و”التخطيط بشكل جيد” و”عدم التسرع”. على سبيل المثال في موقع “اطلاعات” الاصلاحي اقترح المحلل سيد مسعود رجوي تبني مبدأ “الصبر”. “لا شك أنه ضد الصهيونية التي توحد في اسرائيل لا يمكن القتال بشكل عاطفي، بالشعارات والطرق الدارجة. من اجل محاربة البنية “التنظيمية” التي توجد لديها معرفة وقدرة تحليل وتكنولوجيا، ونسيت الرحمة، فمن الحيوي التزود بمعلومات كافية وتطبيق خطة مفصلة ضدها”، كتب. “يجب التصرف بصبر وليس بتسرع وفقا للمصالح الوطنية”.
جوهر هذه المصالح عرضه كاتب آخر هو الدكتور بهرام امير احمد يان، الذي شرح بأنه “من اجل التفاخر وزيادة القوة الاقتصادية والسلطة الوطنية للدولة يجب اتخاذ قرارات جدية… لقد حان الوقت للتصالح مع البيئة الدولية لجذب الاستثمارات الاجنبية. وحكومة الطبيب (بزشكيان هو جراح قلب وشغل منصب وزير الصحة في حكومة الرئيس الاصلاحي محمد خاتمي في الاعوام 2001 – 2005) تمهد الطريق لملاءمة البلاد مع هذه البيئة”. احمد يان يقدم ايضا خطة مفصلة عن كيفية التعامل مع هذه التحديات.
في فترة ولاية الرئيس ابراهيم رئيسي، الذي قتل في حادثة المروحية في شهر أيار، لم يكن للمراسلين وتوصيات المهنيين والخبراء والمحللين الاصلاحيين وزن كبير، هذا اذا كان اصلا، لكن بزشكيان يأتي مع اجندة مختلفة، فيها سيكون لصوت الاصلاحيين أذن صاغية. بزشكيان الذي هو ليس اقتصادي وليست لديه خلفية في الاقتصاد وضع ترميم الاقتصاد على رأس سلم اولوياته، وقام بتعيين رجل الاقتصاد الكبير في الدولة، علي طيب، الذي كان وزير الاقتصاد في ولاية روحاني، والمؤيد المتحمس للاتفاق النووي، في منصب رئيس منظمة الموازنة والتطوير، وهي الهيئة العليا لتخطيط الاقتصاد، الذي فعليا سيكون هو المسؤول عن الخطط الاقتصادية للحكومة.
التحديات التي سيواجهها، تضخم 50 في المئة، العملة التي فقدت قيمتها بـ 20 في المئة من بداية السنة، نسبة بطالة مرتفعة، فساد هيكلي عميق، منظومة مصرفية مدمرة، هرب رؤوس الاموال، هذا فقط جزء منها. دولة نفط كبيرة غير قادرة على توفير كل احتياجات الغاز لمواطنيها، والمليون سيارة جديدة (السيئة) التي تقوم بانتاجها لا يوجد لها وقود. ايران تنتج 97 مليون لتر من البنزين يوميا مقابل استهلاك يبلغ 115 مليون لتر. هذه الفجوة تغطيها بواسطة الاضافات الكيماوية التي تلوث الهواء.
ايران تصدر 1.5 مليون برميل نفط يوميا، تقريبا 90 في المئة منها للصين، لكن تطوير آبار نفط جديدة تدفع بها قدما لانتاج حوالي 2.5 مليون برميل يوميا، يواجه صعوبة كبيرة. احد الحلول هو تقليص بشكل كبير دعم الوقود. وقد كان مؤخرا اعضاء في البرلمان طرحوا رفع سعر الوقود بـ 25 ضعف، وحتى تقليص دعم الطحين، لأن جزء كبير من الحبوب الذي تنتجه ايران تضطر الى استيراده بسبب أن المزارعين يمتنعون عن بيع محاصيلهم للحكومة بالسعر المنخفض الذي تعرضه عليهم.
بزشكيان الذي اعتبر ترميم العلاقات مع دول العالم ومع الجيران العرب ومع الولايات المتحدة كهدف استراتيجي للدولة، يريد تعيين عباس عراكتشي في منصب وزير الخارجية، الذي كان نائب ظريف وترأس بعثة المفاوضات للاتفاق النووي ودفع قدما بجهود صياغة الاتفاق النووي الجديد في فترة ولاية الرئيس جو بايدن. توجد للوزير القادم علاقات جيدة مع نظرائه في اوروبا والسعودية ومتخذي القرارات في واشنطن. واذا تمت المصادقة على تعيينه من قبل البرلمان، أي أنه اذا حصل على مباركة الزعيم الروحي علي خامنئي فانه يمكن أن يكون (مع ظريف) مهندس سياسة ايران الخارجية الجديدة، شريطة أن ينجح في شق الطريق بين حرس الثورة الايراني والخصوم المحافظين. ولكن هنا مطلوب ملاحظة تحذير مهمة. فوعود وآمال مشابهة سمعت ايضا من فم الرئيس روحاني الذي لم ينجح في التغلب على هذه العقبات وخيب أمل مؤيديه الاصلاحيين.
تحديات الاقتصاد والسياسة الخارجية لا تخفى عن عيون خامنئي. وعندما يتحدث المتحدثون بلسان النظام عن ضرورة الانتقام من اسرائيل، لكن دون المس بمصالح الدولة، فانهم يدركون جيدا ليس فقط الثمن الاقتصادي الباهظ الذي ستدفعه ايران مقابل هذا الانتقام، بل ايضا يدركون الضرر الكبير المتوقع لمكانتها الاقليمية والدولية، بالذات بعد نجاحها في مراكمة منظومة علاقات ثابتة مع دول رئيسية في المنطقة مثل دولة الامارات والسعودية. ولا يقل عن ذلك اهمية هو تأثير الحرب مع اسرائيل على رد الشعب الايراني، الذي انتخب بزشكيان على أمل ترميم اقتصاد الدولة، والذي وعد برفع العقوبات الدولية المفروضة عليها.
نحن لا نعرف كيف سيحسم خامنئي الامر، وهو الزعيم الذي من جهة صك مفهوم “اقتصاد المقاومة” الذي بواسطته أمر بتوجيه الدولة ضد العقوبات كرمز لقوة ايران في الحرب ضد “استبداد الغرب”. وفي المقابل تحدث عن “مرونة بطولية” كاسلوب صحيح لخدمة مصالح الدولة. ولكن عندما تتحدث ايران عن رد “لن يسيء لوقف اطلاق النار المحتمل في قطاع غزة”، فربما هي تضع السلم الذي سيسمح لها على الاقل بالحد من الرد بشكل “مرن”.