عبد الغني سلامة: ملاحظات على أداء الإعلام العربي خلال العدوان
عبد الغني سلامة 17-7-2024: ملاحظات على أداء الإعلام العربي خلال العدوان
لم يعد خافياً مدى أهمية الإعلام كسلاح موازٍ للحرب؛ مَن أعدَّ للطوفان راهن على الإعلام في تثوير الجماهير، وإسرائيل تراهن منذ تأسيسها على الإعلام في تطويع وتدجين شعوب المنطقة، وكافة الأطراف الفاعلة في الأحداث تستخدم الإعلام لخدمة أجنداتها.
وعندما نتحدث عن الإعلام تأتي المحطات التلفزيونية في المقام الأول، كمصدر للأخبار وخلق توجهات الرأي العام، وبموازاتها تأتي وسائل التواصل الاجتماعي.. وعندما نتحدث عن النتائج، لا نحتاج شرحاً لإظهار حالة العجز والضعف والتخاذل العربي، مقابل العنجهية والاستعلاء و”الأريحية” التي تمارسها إسرائيل في تنفيذ مخططها الإجرامي.. وكلتا الظاهرتين توضحتا منذ بدايات العدوان.. وبالتالي يمكن تحميل الإعلام جزءاً كبيراً من مسؤولية النتائج.
وعند الحديث عن المحطات التلفزيونية لا أستثني أحداً، فجميع المحطات على اختلاف توجهاتها أفضت إلى نفس النتائج، وطبعاً كما صار معروفاً وواضحاً لا يوجد إعلام محايد وبلا أجندات، وكل كلمة، وكل خبر يتم نشره أو إخفاؤه، وكل تقرير، وكل ضيف يتم استدعاؤه، وحتى نبرة صوت المذيع/ة، وأولويات تقديم الأخبار، والتعليق عليها وانتقاء مَشاهد دون غيرها.. كلها محسوبة وبدقة، ولا توجد مصادفات، ولا نوايا طيبة.
لنأتِ إلى “الجزيرة”، بصفتها الأكثر انتشاراً، فقد دأبت قبل العدوان بسنوات على ترسيخ صورة معينة عن فلسطين، يمكن تلخيصها في محاور عدة: قضية فلسطين هي قضية غزة، المقاومة هي فقط حماس، قيادات حماس في منتهى الحكمة والوعي، تعرف كل شيءـ وتخطط بدقة محسوبة، وحماس قوة عملاقة، لديها مصانع صواريخ، ومستودعات أسلحة وذخائر، وجيش عظيم، وطائرات بدون طيار، وتصنيع عسكري، وتكنولوجيا متطورة، وسلاح جو، وضفادع بشرية، وسلاح مظليين، وقوة مدفعية، وشبكة أنفاق هائلة، ولديها خطط إستراتيجية للحرب واستعدادات كاملة.
أما أهل غزة، فهم ليسوا كسائر البشر، هم منذورون للموت والتضحية، ولديهم قدرات وقوى خارقة يتحملون ما لا يتحمله الآخرون، وكل عائلة مستعدة أن تفدي المقاومة بأبنائها وممتلكاتها، يتقبلون الموت بالزغاريد والأناشيد، وفش مشاكل.
بمجرد أن بدأ العدوان جرى تصويره وكأنه حرب متكافئة بين دولتين وجيشين، وإضافة لكل ما سبق تم تسويق الأوهام التالية: لا يستطيع الجيش الإسرائيلي دخول حرب برية، المقاومة لديها مفاجآت صادمة، إسرائيل لا تتحمل حرباً طويلة، إسرائيل على وشك الانهيار والتفكك بسبب خلافاتها الداخلية، أهالي الأسرى سيُسقطون الحكومة، وبالتالي ستنتهي الحرب، إسرائيل تتكبد خسائر فادحة ولا تستطيع تحملها.. كل ذلك تم بالاستعانة بثلة من الأرزقية والخبراء المتكسبين، وبخطاب عاطفي شعبوي يلامس قلوب الملايين الذين يتوقون لإحراز نصر بعد قرون من الهزائم والخيبات.
ما لا يدركه المُشاهد أن 80 إلى 90% مما تقوله “الجزيرة” صحيح ودقيق ويعكس الحقيقة، وهذا ما جعلها المحطة الأولى شعبياً، بالإضافة لقدراتها المذهلة وطواقمها وشبكة مراسليها المنتشرين في كل مكان.. لكن المشكلة في الـ 10% التي تدسها بين السطور، والتي تحدِث الفرق، وتخلق وتوجه الرأي العام.
وبما أن المقال لا يتسع لمزيد من العرض والتحليل، سنأني إلى قناة أخرى بدأت تشبه الجزيرة في توجهاتها وسياساتها، وهي قناة “رؤيا” الأردنية، فإذا كنا نعرف توجهات الجزيرة (أو قطر) والدور الوظيفي الذي تلعبه، وتطمح أن تلعبه.. فهذا لا ينطبق بالضرورة على “رؤيا”.. والتي لها محددات أخرى مختلفة.
لقد تابعنا كيف تصرف الشارع الأردني منذ بدايات العدوان بمسيرات حاشدة وأشكال عديدة من التضامن تعكس مدى تجذر القضية الفلسطينية في وجدان الأردنيين، وكذلك كافة الشعوب العربية واستعدادهم للتضحية والمشاركة، كان لهذه الحشود الضخمة والمعنويات المرتفعة أن تُحدث فارقاً.. لكن هذا لم يحدث!
ليس لأن التظاهرات خفتت وتراجعت حدتها وأعدادها، بل لأنه تم تجييرها باتجاهات مختلفة، اتجاهات خاطئة منذ الأساس، جرى ذلك من خلال الدور الوظيفي التقليدي للإخوان المسلمين الذين سيطروا على المسيرات، ومن ثم من خلال الإعلام، وتحديداً “رؤيا”.
تم ترسيخ قناعة لدى عموم الناس أن المقاومة بخير، وقوية وقادرة على الصمود، وبالتالي لا داعي للقلق، مطلوب منكم تكثيف الدعاء باستعجال النصر المبين.. وأن أهل غزة تكيفوا مع الحرب، وتأقلموا مع الظروف، فهم خارقون، يتمتعون بصفات فوق آدمية في القدرة على التحمل، بدليل أنهم يقيمون الأعراس، ويتقاسمون اللقمة، وخيمهم نظيفة ومرتبة، وكل من تجري معه مقابلة يظهر بطلاً، غير مكترث بما يجري من حوله، ومستعد للموت فداء المقاومة، ومتمسك بغزة، ولا يفكر بالهجرة منها، وهذه التكايا دليل مبهر على التكافل الاجتماعي، وقادرة على إشباع الناس.. وبالتالي لا داعي للحزن والفزع على مصيرهم.
هذا ويمكن إضافة ما يُنشر على منصات التواصل من مشاهد مثيرة لقنص جنود، وتدمير أرتال من الدبابات، ومشاهد ارتعاب الجنود الغزاة، ونفسياتهم المنهارة كتعويض مقبول عن حجم الدمار الهائل الذي أصاب غزة… فضلاً عن المأثورات الدينية التي تقدس الموت، ولا تجد غضاضة في مقتل خمسين ألف إنسان.. وأن النصر سيتحقق بالمرور فوق جماجم أطفال غزة!
وهذه السياسة الإعلامية لم تؤد فقط إلى تحييد مئات الملايين من الجماهير العربية المسلمة، وإفراغ الحراك الجماهيري من محتواه، ومن قدرته على التغيير، وحرف مساراته.. فقد أدت أيضا إلى منح إسرائيل كل الذرائع القانونية والإعلامية التي تحتاجها لمواصلة العدوان، كما أدت إلى تخفيف حدة الضغوط الدولية على إسرائيل التي كان ممكناً أن تفضي إلى إجبارها على إنهاء الحرب، فاستغلت ماكينة الإعلام الصهيوني كل ذلك للقول إنها ما زالت تتعرض للخطر، وإن أمنها مهدد، وإنها تدافع عن شعبها، ولديها الحق باستخدام القوة المفرطة، ذلك لأن عدوها قوي ويمتلك قدرات خارقة.
في الخلاصة: تم تضليل العالم من قبل الإعلام العربي والصهيوني بأن ما يجري في غزة حرب، وليس عدواناً همجياً من قبل كيان متخم بالقوة ضد أناس مدنيين وعزل، مستهدَفين بوجودهم أصلاً.