د. سنية الحسيني: سياسة إعدام المكان لن تنجح
د. سنية الحسيني 1-6-2024: سياسة إعدام المكان لن تنجح
بلا رادع، تستمر حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، التي تستهدف البشر والحجر والتاريخ والجغرافيا، وكأنها حرب بلا نهاية وبلا منطق وبلا عدل وبلا إنسانية، ما يرفع تساؤلاً مهماً حول جدوى القوانين والعدالة والمبادرات الدولية التنظيمية والتعاهدية والشعارات والمبادئ الإنسانية، إذا كانت جميعها تقف عاجزة عن حماية آلاف الأرواح البريئة التي تزهق أمام أعين العالم بلا ذنب، بيد فاعل معروف، ومطلق اليدين، وصمت دول العالم التي تقف متفرجة على مدار شهور.
بالإضافة لقتل البشر، تعمدت قذائف الاحتلال الذكية والغبية تدمير البنية التحتية المدنية في غزة، والتي بات معها القطاع بالفعل رماداً، وتحول إلى مكان غير قابل للحياة.
ورغم أن ذلك الأسلوب التدميري قد شاع من قبل في حروب سابقة، إلا أن أياً منها لم يصل لدرجة الإرهاب والتدمير والقتل التي حققتها إسرائيل في هذه الحرب.
وصفت صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية العدوان الإسرائيلي على غزة بالحرب الأكثر عنفاً ودموية في التاريخ، مقارنة الأضرار التي نتجت عن قصف غزة خلال أشهر بتلك التي تسببت فيها الحرب العالمية الثانية على المدن الألمانية خلال سنوات.
واعتبرت صحيفة الغارديان البريطانية أن ما أسقطته إسرائيل على مباني غزة خلال أسابيع، يعادل ما ألقته أميركا على جبال أفغانستان العتية خلال عام كامل.
وأكدت صحيفة «ميدل إيست مونيتور» أن إسرائيل أسقطت على غزة ما يعادل قوة ثلاث قنابل نووية كتلك التي ألقيت على هيروشيما.
بالنظر لحالة هذا الكيان، الذي يقترف اليوم جرائم لم يشهدها عالمنا الحديث، ما جعل البعض يقارنه بأكثر الجماعات إرهاباً في العصور الغابرة، وبالعودة لماضيه وتحديداً ما اقترفته الجماعات الإرهابية الصهيونية خلال عامي ١٩٤٧ و١٩٤٨، والتي تعمدت ارتكاب المجاز والتفنن بقتل الأبرياء، وتدمير المدن والقرى الفلسطينية ومحو أثرها عن الوجود، وتفريغ الأرض من أهلها وسكانها الأصليين، فجاء أركان كيان الاحتلال فوق كل تلك الحقائق.
وظل الكيان المحتل على مدار تاريخه يعاني من حالة تناقض، فرغم قوته المنيعة التي يواصل بناءها بأولوية مطلقة، إلا أن ذلك لم يمنحه الشعور بالأمان.
ورغم مواصلته اضطهاد السكان الأصليين الفلسطينيين في جميع أنحاء فلسطين، على مدار العقود الماضية، وتجريدهم من أي مظهر من مظاهر استقلال القرار أو امتلاك القوة، لا يستطيع إخفاء قلقه من الوجود الفلسطيني برمته، ورغبته بالتخلص من أي وجود فلسطيني.
يفسر تتبع سياسات الكيان الإسرائيلي منذ نشأته حتى اليوم هذه الحقيقة، فقياداته أكدت على رغبتها بالاستيلاء على الأرض الفلسطينية كلها دون سكان، والحاجة لممارسة العنف للتخلص من السكان.
وعندما بدأت الحركة الصهيونية بزرع المستوطنات «الكيبوتسات» في فلسطين بمساعدة بريطانيا، اختارت المناطق التي لا تمتلك ادعاءً تاريخياً أو دينياً فيها، فزرعت المستوطنات في المناطق الساحلية، وأعطت الأولوية لتأسيس كيانها عليها، وطرد سكانها منها، وهو ما حدث بالفعل.
وبعد أن تمكنت عسكرياً، احتلت إسرائيل باقي الأراضي الفلسطينية، إلا أنه كان من الصعب عليها أن تطرد جميع السكان الفلسطينيين منها كما حدث في العام ١٩٤٨.
بعد احتلال غزة والضفة، لجأت إسرائيل فوراً لسياسة الاستيطان، والتي تبنتها الأحزاب اليسارية واليمينية على السواء، كما وضعت بذرة تأسيس جماعات عنيفة غير رسمية من السبعينيات من القرن الماضي.
وفي محاولاتها للتخلص من صورة الكيان المحتل للضفة وغزة، مع ضمان استمرار سيطرتها على تلك الأراضي، ومواصلة مشروعها الاستيطاني التمددي، وقعت اتفاق أوسلو للسلام مع الفلسطينيين، الذي لم يغير فعلياً من واقع الاحتلال وممارساته، وتنفيذ سياسته لتغيير الواقع الجغرافي والديمغرافي، وما نشهده اليوم في الضفة وغزة نتائج لتلك السياسة.
أعادت حرب الإبادة التي يشنها الكيان الإسرائيلي المحتل في غزة تذكير العالم بالفكرة الصهيونية ورؤيتها الملفقة، والبنيان المصطنع الذي بني على أساسها، ولفتت نظر إسرائيل إلى أنها فقط من يصدق تلك الكذبة.
ويتضح ذلك في صورة هزلية، مضحكة مبكية في ذات الوقت، في جلسات الأمم المتحدة، عندما يتحدث سفير إسرائيل عن قضايا لا يؤمن بها أو يراها غيره وجماعته، وكأنه يتكلم خارج سياق الزمان والمكان الذي نعيش فيه، ويحسم التصويت هرطقاته وكأنه لم ينبس ببنت شفه، فتبقى الرواية الفلسطينية الحقيقية سيدة الموقف.
وتكمن صدمة الكيان المصطنع، الذي وضع رواية مختلقة، وعمل على بثها وترسيخها عبر العقود الماضية، وبات يعتقد وحده أنها حقيقة، ففاجأه العالم، بمن فيه حلفاؤه، بأن الجميع يتذكر، الكبار لا يزالوا يذكرون، والصغار يعلمون.
وجاءت حرب غزة لتجسد بالصوت والصورة ما قرأه الصغار، فباتوا اليوم يفهمونه.
وكما كان الظلم كبيراً والإرهاب عنيفاً والواقع الدولي والعدالة مخزية في ذلك العصر، كما لا تزال اليوم، وبشهادة أجيال اليوم الحاضرة. أعادت حرب غزة ببساطة ذكرى النكبة الفلسطينية في أربعينيات القرن الماضي، ذكرى نفي السكان الأصليين عن وطنهم، واستبدالهم بالمهاجرين اليهود القادمين من أوروبا، ذكرى لن تُمحى من ذاكرة الأجيال الحاضرة قط لعهود أخرى قادمة.
يكشف اعتداء الاحتلال على غزة، بالإضافة إلى القتل المتعمد للبشر، وهدم الحجر، وهجوم ضمني على الحياة الإنسانية برمتها، فتدمير المساجد التاريخية والمكاتب والكتب والمخطوطات العريقة والرموز التاريخية، محاولة لمحو الذاكرة، وهدم المنازل والجوامع والشوارع والمدارس والجامعات والمستشفيات باختصار لإزالة فكرة الوطن، والسؤال المهم، هل نجحت هذه الاستراتيجية في الماضي كي تعيد إسرائيل تكرارها اليوم؟
فرغم وجود قصور ملحوظ في انتهاج كيان الاحتلال لتلك الإستراتيجية الإرهابية الدموية، التي أثبتت فشلها عبر العقود الماضية، يصر على مواصلتها اليوم.
ولا تبدو المشكلة في إجرام إسرائيل ودمويتها فقط، ولكن في التغاضي عن أفعالها وتعمد تجاهل جرائمها وعدم وجود قرار دولي لردعها.
إن تدمير غزة هو الإستراتيجية الوحيدة التي يمتلكها الاحتلال في هجومه على غزة اليوم، وهو ما يعتبره عدد كبير من الإسرائيليين إنجازاً، في مجتمع جله يميني، يميل نحو التطرف. فرغم استخدام كيان الاحتلال القوة في غزة بشكل تدميري دموي مفرط، دمرت جزءا كبيراً من قطاع غزة، وقتلت عشرات آلاف الأبرياء ودمرت حياة مئات الآلاف منهم، إلا أن حركة حماس لا تزال باقية وتستمر في إعادة تشكيل نفسها، في فشل يستشرف إمكانية استمرار حالة الاستنزاف الخطيرة، ليس فقط داخل حدود فلسطين بل والمنطقة أيضاً.
إن تدمير البشر والحجر في غزة هو الإستراتيجية الوحيدة الظاهرة في هذه الحرب المجنونة على غزة، فالأهداف العسكرية غير موجودة، وهو ما صرح به مسؤولون في حكومة الاحتلال، بأن هناك العديد من المستهدفين من أسر مقاتلين وعائلاتهم أو صحافيين أو أسرهم، ناهيك عن الأخطاء الاستخبارية التي تعكس فشلاً ذريعاً في هذه الحرب.
كما أن الصدام مع مصر، الذي قد يقلب في لحظة ما كل الموازين التي رسّخها الكيان مع الولايات المتحدة لبلورة حالة استقرار في المنطقة، والتصعيد المتواصل مع لبنان، والتوتر المستمر في المنطقة في سورية والعراق واليمين، وتصاعد الاحتجاجات الدولية ضد ممارسات كيان الاحتلال في غزة، وانتقاد حلفائه له اليوم، في ظل وجود حكومة إسرائيلية غير متزنة، يشير إلى نتائج لن تصب في صالح هذا الكيان.