أقلام وأراء

يحيى عباسي بن احمد: هل فلسطين هي المشكلة الحقيقية؟ إعادة تفكيك مركز القضية بين البنية والرمز

يحيى عباسي بن احمد 26-11-2025: هل فلسطين هي المشكلة الحقيقية؟ إعادة تفكيك مركز القضية بين البنية والرمز

ملخّص

تتناول هذه الدراسة إشكالية مركزية القضية الفلسطينية داخل الوعي العربي والإسلامي، وتبحث في سؤال جريء: هل تشكّل فلسطين أصل المشكلة، أم أنها تتحول إلى غطاء يحجب عللًا بنيوية أعمق؟ تنطلق الدراسة من تحليل تاريخي–حضاري يستند إلى مفاهيم مالك بن نبي في «هندسة الوعي» و«فعالية الفكرة»، وإلى مقاربات عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري في تحليل العقل السياسي العربي. وتخلص إلى أنّ فلسطين ليست سبب التراجع بل مرآته الكبرى، وأنّ تحريرها مشروط بإعادة بناء البنية الحضارية للأمة، لا بمراكمة الخطابات العاطفية.

مقدمة

تحتل القضية الفلسطينية مكانة مركزية في الوجدان العربي والإسلامي منذ أكثر من قرن، غير أنّ حضورها المكثف لم ينعكس فعلًا في مشروع تحرري فعّال. هذا التناقض بين كثافة الخطاب وضعف الفعل يثير سؤالًا نقديًا: هل فلسطين هي أصل الأزمة، أم أنها تحوّلت إلى رمز يُستعمل لصرف النظر عن القضايا البنيوية الكبرى؟

إنّ تناول هذا السؤال يتطلب مقاربة تتجاوز الحساسية الأيديولوجية إلى تفكيك البنية السياسية والثقافية التي تنتج الخطاب حول فلسطين، داخل الدولة العربية ومؤسسات الوعي. وهذا ما تسعى الدراسة إلى معالجته من خلال تحليل ثلاثية: الرمز – البنية – الفعل الحضاري.

أولًا: فلسطين بين الرمز والبنية

القضية بوصفها مرآة لا سببًا

تُظهر التجربة التاريخية أنّ فلسطين كشفت هشاشة النظام العربي أكثر مما أنتجتها، فهي نتيجة للتفكك لا سببه. فالعجز العسكري، وشلل القرار السياسي، وتشتت النخب، كلها ظواهر سابقة على الاحتلال ذاته. ولذلك لا يمكن فهم القضية إلا بوصفها عرضًا حضاريًا لمرض أعمق.

توظيف الرمز سياسيًا

منذ خمسينيات القرن الماضي، اعتمدت أنظمة عربية متعددة على القضية الفلسطينية بوصفها مصدر شرعية شعبية يمكّنها من توجيه الرأي العام. وهكذا تحولت فلسطين من «مهمة تحررية» إلى أداة تعبئة، تُستعمل لإخفاء الإخفاقات الداخلية.

تجميد الفكر داخل دائرة الانفعال

يرى الجابري أنّ العقل السياسي العربي يعاني «التغلب على العقلانية باللاشعور الجمعي» ، وهو ما يجعل الخطاب حول فلسطين منحازًا للعاطفة على حساب البناء العقلاني للتحرير. وتتحول القضية إلى شعار دائم، لا إلى برنامج عمل.

ثانيًا: آليات تحويل فلسطين إلى غطاء

صناعة الإجماع العاطفي

تبني بعض الأنظمة خطابًا يُفترض أنه موحّد، لكنه في الحقيقة يسابق الزمن لإبقاء المجتمع ضمن دائرة الانفعال بدل التفكير في الأسباب البنيوية للضعف .

تأجيل المعركة الحقيقية

يلاحظ مالك بن نبي أنّ «المعركة التي لا تُخاض في الداخل تُهزم في الخارج». فحين تُستبدل القضايا الكبرى (التعليم، التكنولوجيا، الحوكمة، السيادة) بالقضية الرمزية، يصبح الوعي العربي محاصرًا داخل دائرة لا تنتج فعلًا تاريخيًا.

تفتيت الوعي وإعادة توجيهه

يؤكد عدد من الباحثين أنّ الاستعمار أدرك مبكرًا أنّ إعادة تشكيل الوعي العربي شرط للهيمنة، وأنّ إغراق العقل في قضية واحدة يساهم في تجميد قدرته على استشعار علله الداخلية.

ثالثًا: القضايا الكبرى التي تُهمل لصالح الشعار

غياب النظرية السياسية العربية

لا تزال الدولة العربية، في أغلب نماذجها، قائمة على ردود فعل لا على رؤية، وهو ما يجعل مواقفها تجاه فلسطين محكومة بالظرف، لا بمشروع سياسي متكامل .

فقدان السيادة العلمية والتكنولوجية

تحرير الأرض مستحيل دون امتلاك أدوات العصر. وقد أثبتت التجارب الحديثة أنّ المعرفة سلاح سياسي قبل أن تكون سلاحًا عسكريًا .

الخلل في بنية الوعي

تتفاقم المشكلة مع إدمان الخطابية بدل التحليل، ما يؤدي إلى إعادة إنتاج العجز عبر الأجيال، وتغليب الوجدان على العقل .

انفصام الدين عن المشروع الحضاري

يتم توظيف الدين في الخطاب العاطفي حول فلسطين، لكن دون تحويله إلى قوة وعي ومنهج حضاري قادر على إعادة صياغة الإنسان والمجتمع .

رابعًا: إعادة تعريف مركزية فلسطين

فلسطين كمؤشر حضاري

لا يمكن نزع مركزية القضية، لكنها ليست مركزًا وظيفيًا بل مؤشرًا على حالة الأمة: كلما تراجعت حضاريًا، ازدادت فلسطين تآكلًا، وكلما تقدمت، انفتح أفق التحرير.

فلسطين بوصفها نقطة لقاء بين الداخل والخارج

تحرير فلسطين يتطلب بداية تحرير الداخل:

تحرير القرار… الوعي… العلم… الاقتصاد…

وبذلك تصبح فلسطين نتيجة طبيعية لتغيير داخلي شامل لا مجرد شعار تعبوي.

موقع القضية في مشروع النهضة

يشير العروي إلى أنّ التحرير لا يبدأ من الجغرافيا بل من «تحرير المفاهيم». وبالتالي فإن مركزية فلسطين في الوعي يجب أن تتحول من مركزية مجازية إلى مركزية منهجية تُعيد ترتيب الأولويات، لا أن تجمّدها.

خاتمة

تؤكد الدراسة أنّ فلسطين ليست المشكلة الحقيقية، بل هي المرآة الأكبر لمرض البنية الحضارية العربية. وأنّ القضية تحوّلت في كثير من السياقات إلى أداة سياسية تُستخدم لذرّ الرماد في العيون وصرف الوعي عن الأسئلة العميقة: بناء الدولة، السيادة العلمية، استقلال القرار، وإصلاح بنية العقل.

إنّ تحرير فلسطين، وفق منطق التاريخ، لا يتحقق عبر خطاب عاطفي ولا عبر شعار دائم، بل عبر مشروع حضاري يخلق القوة قبل أن يرفع الراية. فالأمم لا تحرّر أوطانها بالنداء، بل بتحرير ذاتها أولًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى