ترجمات عبرية

هآرتس: حرب إقليمية تنضج، وليس للولايات المتحدة خطة استراتيجية

هآرتس 11/10/2024، تسفي برئيلحرب إقليمية تنضج، وليس للولايات المتحدة خطة استراتيجية

عندما عُين عباس عراقجي في الشهر الماضي وزيرا للخارجية وجواد ظريف تلقى منصب نائب الرئيس كان يبدو أن الحكم الجديد في ايران برئاسة مسعود بزشكيان يعتزم شق طريقه نحو المصالحة مع الغرب. فقد كان عراقجي وظريف من مهندسي الاتفاق النووي الذي وقع في 2015 تحت حكم الرئيس حسن روحاني. كلاهما يعرفان جيدا الغرب ونظرائهم الأمريكيين الذين اداروا المفاوضات. عراقجي نفسه بدأ جولة محادثات مع نظرائه في دول أوروبا كي يفحص السبل للدفع قدما باتفاق جديد، وبزشكيان نثر تصريحات تفيد بأن ايران لا ترى مانعا من إدارة مفاوضات مع الغرب حين تكون مسنودة بتأييد الزعيم الأعلى علي خامنئي. وحتى امين عام اللجنة الدولية للطاقة النووية، رفائيل غروسي، قال إنه يلاحظ النوايا الجدية لدى ايران.

غير أن في الأسبوع الماضي وهذا الأسبوع عني عراقجي بعدة أمور عاجلة اكثر، ومسألة النووي تتأجل حاليا كما يبدو. يوم الجمعة الماضي سافر الى بيروت، وبعد يوم من ذلك وصل الى دمشق كي يلتقي بالرئيس الأسد وأول أمس هبط في الرياض والتقى بولي العهد السعودي محمد بن سلمان كي يبحث معه في “التطورات في المنطقة” على حد تعبير البيان الرسمي.

سيناريوهات هجوم الرد الإسرائيلي تملأ وسائل الاعلام في ايران، مثلما في الدول العربية والغربية بعامة. وهي تتراوح بين هجوم على حقوق النفط ومنشآت التنقيب والتصفية، عبر قصف بنى تحتية مدنية، وحتى ضرب مواقع النووي. مثلها أيضا التحذيرات والتهديدات من كبار مسؤولين إيرانيين ليس فقط تجاه إسرائيل بل وأيضا تجاه كل دولة تتيح لإسرائيل و/ أو الولايات المتحدة استخدام أراضيها ومجالها الجوي لمهاجمة ايران. تقرير “رويترز” يستند الى مصادر إيرانية رفيعة المستوى يروي أن ايران حذرت جيرانها في الخليج من أن تعاون دولة واحدة مع الهجوم الإسرائيلي سيعتبر كتعاون من كل مجموعة الدول والرد سيكون متناسبا مع ذلك.

في كل واحدة من دول الخليج – من السعودية واتحاد الامارات وحتى قطر والبحرين – ترابط قوات أمريكية، لكن ليس فقط قواعدهم ستكون أهدافا لهجوم إيراني أو من جانب مليشيات مؤيدة لإيران تعمل في العراق وفي سوريا. في السيناريو الأكثر تهديدا، فان موانيء النفط والغاز ومنشآت التصفية في دول الخليج قد تعلق في خط النار، ومثلها كل حركة الملاحة المدنية في الخليج الفارسي.

نحو 30 في المئة من عموم النفط الخام في العالم ونحو 20 في المئة من منتجات النفط تمر عبر الخليج. لقد سبق للسعودية أن شهدت في 2019 آثار هجمة حوثية دقيقة على منشآتها النفطية التي عطلت نصف انتاج النفط لشركة “أرامكو” الكبرى. ايران التي تنتج نحو 2.5 مليون برميل نفط في اليوم وإن كانت ستتعرض لضربة جسيمة، لكن بحد ذاتها ضربة لصناعة النفط لديها ستؤثر أساسا على السوق المحلية وعلى تصدير النفط الى الصين. فالصينيون يشترون بالمتوسط نحو 1.4 مليون برميل نفط في اليوم من ايران، اقل 10 في المئة من عموم استيراد النفط اليومي لديهم. كمية كهذه يمكن للصين أن تحصل عليها من مصادر أخرى، وإن كان بسعر اعلى، وذلك لأن ايران تبيعها النفط بتنزيلات واضحة. لكن “حرب النفط” التي ستتطور في الخليج هي قصة أخرى تماما، آثارها يصعب تصورها. عندما يكون الرئيس بايدن “لا يوصي” إسرائيل بمهاجمة منشآت النفط الإيرانية فان هذا هو الخوف الأكبر الذي يقف امام ناظره.

“التهديد باندلاع حرب نفط يوضح كم هو ليس فقط دول المنطقة بل الولايات المتحدة أيضا لا توجد لها استراتيجية واحدة للتصدي لنتائجها؛ بخاصة حين لا يكون واضحا اذا كان بايدن نجح في اقناع بنيامين نتنياهو بالامتناع عن هجوم على موانيء نفط ومنشآت تصفية في ايران رغم الأهمية الهائلة التي يوليها بايدن لمنع حرب كهذه قبل ربع ساعة من الانتخابات في الولايات المتحدة. وهذا ليس المجال الوحيد الذي تشهد فيه سنة الحرب على أن واشنطن ليس لها استراتيجية إقليمية، لقوة عظمى، أو أن استراتيجيتها تبقى على الورق مثابة أمنية.

هكذا مثلا تبخرت المبادرة الامريكية لاعادة السلطة الفلسطينية لادارة المنظومة المدنية في غزة. لقد بات من الصعب أن نتذكر، لكن في شهر تشرين الثاني رسم بايدن منحى سياسي لـ “اليوم التالي” وبموجبه تجتاز السلطة الفلسطينية سلسلة إصلاحات تصبح بعدها الجهة المناسبة للحلول محل حماس لادارة القطاع. هذه الخطوة خطط لها لتكون مرحلة جوهرية قبيل تطبيق حل الدولتين، الدفع قدما بالتطبيع بين إسرائيل والسعودية، وبالتوازي إقامة حلف دفاع إقليمي ضد ايران.

هذه الخطوات كان يمكنها أن تعيد رسم خارطة الشرق الأوسط، لكن أمرا منها لم يحصل. السعودية، التي كانت عشية الحرب مستعدة للتوقيع على اتفاق مع إسرائيل والاكتفاء بمنحى تكون فيه “حياة الفلسطينيين اكثر راحة”، على حد تعبير ابن سلمان، تراجعت. والآن هي تعرض إقامة دولة فلسطينية كشرط مسبق لكل اتفاق مع إسرائيل. الإدارة الامريكية اضطرت لأن تتراجع وتسحب فكرة عودة السلطة الفلسطينية الى غزة. فضلا عن ذلك، فهمت أنه رغم المساعدة الهائلة بالمال، بالسلاح وبالذخيرة وبالاسناد السياسي، لا يمكنها أن تتوقع أن تخفف حليفتها من حدة مواقفها في مواضيع هامة جدا للولايات المتحدة، وبرأيها تخدم المصلحة الإسرائيلية أيضا.

ليس فقط في مواضيع ذات أهمية استراتيجية عليا اصطدمت واشنطن بسور منيع. فالجهود الامريكية لتفعيل منظومة ناجعة وناجحة لتوريد المساعدات الإنسانية في غزة لا تزال لا ترتقي (مهزلة إقامة الميناء العائم المؤقت لا تزال تدوي)، وحجم المساعدة التي تدخل اليوم يشبه الذي كان في شهر كانون الثاني. والجهود لاعادة فتح معبر رفح وإيجاد حل متفق عليه للسيطرة على محور فيلادلفيا فشلت. وفي هذه اللحظة يبدو أن إسرائيل تستعد لأن تتسلم إدارة توزيع المساعدات وعمليا السيطرة على المنظومة المدنية في القطاع، الخطوة التي معناها احتلال إسرائيلي مباشر وطويل السنين دون خطة خروج.

القدرات لا تُقتطع

تلقى بايدن صفعة رنانة من نتنياهو مرة تلو الأخرى في كل ما يتعلق بصفقة المخطوفين أيضا. حركة التفاف على الموافقات التي سبق أن تحققت وتصريحات نتنياهو المتضاربة أوضحت لبايدن بأن ليس فقط حماس هي التي تعرقل المفاوضات بل في إسرائيل أيضا لا يوجد شريك يتطلع حقا لاعادة المخطوفين. شتائم بايدن على نتنياهو والتي تقتبس في كتاب بوب ودورد الجديد وان كانت تشهد وليس للمرة الأولى، على العلاقات المسمومة بين الزعيمين، لكنها تعرض في نفس الوقت بايدن كمن لا ينجح في تحقيق سياسته.

القوة العظمى الأكبر والاقوى في العالم تتصرف كقوة تكتيكية حتى في ردود افعالها على هجمات الحوثيين التي تواصل الحاق ضرر هائل بالاقتصاد العالمي. سياسة “اقتطاع القدرات”، الاصطلاح الذي تبناه الجيش الإسرائيلي كي يشرح منطق عملياته ضد حزب الله وحماس، ماخوذ من القاموس العسكري الذي حدد اهداف الهجمات ضد الحوثيين. فبعد الهجمة الامريكية الهامة في كانون الثاني شرح وزير الدفاع لويد اوستن بأن “هذا العمل يستهدف تشويش واقتطاع قدرات الحوثيين على تعريض مستخدمي البحر الأحمر والتجارة العالمية في احد المسارات البحرية الأهم للخطر”. الحوثيون لم ينفعلوا لحديثه حقا، ومثلهم أيضا مصر، السعودية والأردن. فهم تعرضوا لاساس الضرر لكنهم قرروا ألا ينضموا الى التحالف الدولي الذي يعمل في البحر الأحمر. يبدو أنه في جدول المخاطر والاحتمالات لديهم فان التهديد الحوثي والإيراني يغطي على تقديرهم بشأن قدرة الولايات المتحدة الوقوف الى جانبهم.

بعد سنوات غابت فيها الإدارة الامريكية عن لبنان (مثلما غابت أيضا عن سوريا)، التي اعتبرته معقلا هامشيا عديم الاهمة الاستراتيجية، باتت مطالبة بأن تتواجد في الساحة اللبنانية. وقد فعلت هذا دون خطة استراتيجية ودون روافع ضغط كافية يمكنها أن تمنع التصعيد بين إسرائيل وحزب الله، وهكذا تجد نفسها تنجر وراء التطورات في لبنان. الحرب في لبنان تعد اليوم “حرب لا خيار” بعد أن اضطر عشرات آلاف المواطنين الإسرائيليين الى النزوح عن بيوتهم، لكن رغم تصفية قيادة حزب الله في عمليات استعراضية مبهرة، دائرة الضرر في إسرائيل آخذة في الاتساع.

مع أن الإدارة الامريكية غيرت نهجها، وعلى الأقل تصريحيا تقف الى جانب إسرائيل في الساحة الشمالية، لكن ما هي “خطة عملها” وكيف الوصول الى “نهاية اللعبة” كما يقول التعبير الأمريكي؟ هل تطبيق قرار 1701 يكفي؟ هل يمكن للولايات المتحدة أن تجند وتدفع بقوة متعددة الجنسيات لتراقب بين الخط الأزرق والليطاني؟ هل ستوافق على عرض خطة اقتصادية مغرية لاعمار لبنان؟ هل سيوجد لها شركاء عرب أو غربيون؟ أم أن في لبنان سيطبق النموذج الغزي، أي الإسرائيلي.

خطط احتياطية وان كانت موجودة لكنها صيغت قبل ان تصبح المواجهة في الشمال جبهة قتال في داخل أراضي لبنان وقبل أن يصبح اكثر من مليون وربع مواطن لبناني نازحين، بعضهم في بلادهم وبعضهم في سوريا وما وراءها. الآن باتت هذه هي الساحة الأخطر التي تشكل مدخلا لنشوب الحرب الإقليمية التي تقلق منها الولايات المتحدة دون أن تكون لديها استراتيجية كبح أو خطة مرتبة لادارتها، فما بالك خطة لليوم التالي لها. في هذا المفترق الحرج الذي يمكن وينبغي للولايات المتحدة أن تمارس فيه كامل ثقلها تشبه المراقب الذي يوصي ويشير ولكنه ينتظر ليرى كيف تتدحرج الأمور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى