هآرتس: استعاد الجيش الإسرائيلي حريته في العمل في جنين، لكن إراقة الدماء ستستمر

هآرتس 5-7-2023، بقلم عاموس هرئيل: استعاد الجيش الإسرائيلي حريته في العمل في جنين، لكن إراقة الدماء ستستمر
الحملة العسكرية في جنين وصلت أمس إلى نهايتها، ففي الساعة التاسعة مساء بدأت قوات الجيش في الخروج من المدينة. سجل الجيش الإسرائيلي نجاحاً عملياتياً معيناً: المس بالنشطاء الفلسطينيين المسلحين، وتدمير مختبرات المتفجرات والعبوات الناسفة في المخيم. بشكل استثنائي، نجح الجيش أيضاً، حسب قوله، في تجنب قتل المدنيين غير المشاركين. مع ذلك، أثبتت أيام العملية أيضاً قدرة الفلسطينيين على إخراج عمليات انتقام إلى حيز التنفيذ، منها عملية الطعن في “بني براك” وعملية الدهس والطعن في تل أبيب. رقصة الدماء هذه بعيدة عن الانتهاء، وهذه حقيقة لن تغيرها أي عملية عسكرية في القريب. كجزء من العملية، دخل أكثر من ألف جندي إسرائيلي من لواء الكوماندو ومن وحدات أخرى إلى منطقة مأهولة ومكتظة في مخيم جنين. تنازل الجيش مسبقاً عن عامل المفاجأة. نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن خطة العمل في جنين في الأسابيع الأخيرة، وفي الأصل أثار التجمع الكبير نسبياً من القوات شكوك الفلسطينيين، لا سيما بعدما كشف في الشبكات الاجتماعية. لو حصلت المفاجأة لتحققت بطريقة تفعيل القوات: أولاً، استخدام الطائرات المسيرة لمهاجمة غرفة عمليات التنظيمات الفلسطينية، ثم إصابة منظومة الدفاع في المخيم. ثانياً، انتشار القوات في أرجاء المخيم بشكل لا يسمح بتحصن المسلحين في نقطة معينة.
أصيب مدنيون فلسطينيون أثناء تبادل إطلاق النار، ولكن حذر الجيش الإسرائيلي منع عدداً كبيراً من القتلى وركز إطلاق النار على الخلايا المسلحة. الطلبات التي وصلت حتى الآن للاستيضاح من دول ومن مؤسسات أجنبية تتعلق بالأساس بالدمار الذي خلفته الجرافات الإسرائيلية في شوارع المخيم، والذي أضر بالبنى التحتية للكهرباء والمياه. قرار التدمير اتخذه المستوى الأعلى في الجيش الإسرائيلي، ولم يكن ارتجالياً. قبل أسبوعين، أثناء عملية اعتقالات سابقة في المخيم، تم تفجير عبوة ناسفة ضد سيارة عسكرية مدرعة لوحدة المستعربين في حرس الحدود. تضررت السيارة بشكل كبير بسبب الانفجار، وأصيب الجنود السبعة الذين كانوا فيها. وقد تبين بأن هذه العبوة تم زرعها عميقاً تحت الشارع.
من شغلوا العبوة كمنوا لقافلة السيارات المدرعة في الطريق إلى المخيم. وقد انتظروا في الطابق السفلي لمسجد قريب، ومن هناك شغلوا العبوة بواسطة سلك طوله 70 متراً. وعندما تعطلت السيارة العسكرية على المفترق وجاءت قوات أخرى لمساعدتها، تم إطلاق النار عليهم وتفجير عبوات ناسفة أخرى، فتضرر عدد من السيارات في هذه الحادثة.
كمين العبوات والقناصة قبل أسبوعين رجح الكفة لصالح قرار إجراء حملة واسعة نسبياً في جنين. فرقة “يهودا والسامرة” طرحت الفكرة في نيسان 2022 بعد فترة قصيرة على موجة العمليات في الضفة، والتي تستمر حتى الآن. لم يتم تنفيذ هذه الحملة لفترة طويلة، ولكن أحداثاً أملت تغيير السياسة في النهاية. في البداية، الكمين الذي كشف تحسناً مقلقاً في قدرة التنظيمات في جنين على إنتاج وتشغيل العبوات الناسفة الثقيلة والفتاكة، وفي اليوم التالي عملية قتل أربعة مدنيين إسرائيليين في مستوطنة “عيلي” التي زادت الضغط على الحكومة والجيش.
لقد كانت في حوزة الجيش الإسرائيلي تحذيرات استخبارية من أن الفلسطينيين يخططون لمزيد من الكمائن للعبوات الناسفة ضد القوات التي ستدخل المخيم. لذلك، تقرر أن تقوم الجرافات بحفر مقاطع عميقة في الشوارع للكشف عن العبوات الناسفة وحماية حياة الجنود. فكانت النتيجة تدميراً كبيراً للبنى التحتية. وقد تضطر إسرائيل فيما بعد في المشاركة في إصلاح الأضرار. تأمل إسرائيل بأن يتم الترميم من قبل السلطة الفلسطينية، وبذلك تمكين السلطة من موطئ قدم في جنين.
في الحملة تم الكشف وتدمير خمسة مختبرات للمتفجرات، وتدمير مئات العبوات التي في معظمها عبوات صغيرة معدة للإلقاء. ولكن تم العثور أيضاً على عبوات كبيرة.
هدوء بارز:
أمس، سمح الجيش الإسرائيلي بدخول المراسلين إلى جنين بمرافقة الجيش. كان الهدوء هو الأمر البارز في السفر الذي استغرق ساعتين في المدينة وعلى مدخل المخيم. خلافاً لعمليات سابقة في جنين على مر السنين، لم نسمع صوت إطلاق النار باستثناء إطلاق النار من قبل جنود الجيش الإسرائيلي، ولم تتم مشاهدة أي أحد في الشوارع. تبين أن معظم أحداث إطلاق النار كانت في اليوم الأول للعملية. وحتى انتهائها، استنتج المسلحون كما يبدو بأنه ليس لديهم إمكانية فعلية لمواجهة القوات الإسرائيلية التي احتلت مواقع داخل بيوت الفلسطينيين حول المخيم وداخله. الكتلة المحاطة بغلاف مساعد من التكنولوجيا والنيران والاستخبارات قلبت الموازين. تصرف المسلحون حسب قواعد حرب العصابات، وفضلوا عدم الاشتباك في المكان الذي اتضح فيه ضعفهم.
في اليوم الأول من القتال قتل عشرة مسلحين. وقبل انتهاء اليوم، دفن كثيرون بنادقهم في أماكن سرية، وخرجوا من المخيم. اعتقل الجيش 30 مطلوباً وأوقف العشرات من أجل التحقيق. ولكن في اليوم الثاني، لم تكن أي أحداث لإطلاق النار. وعندما بدأت القوات في الاستعداد للخروج، كانت حادثة لتبادل إطلاق النار قتل فيها جندي إسرائيلي وهو الشاويش دافيد يهودا إسحق (23 سنة) من مستوطنة “بيت إيل”. ظروف إطلاق النار ما تزال غير واضحة ويتم فحص إمكانية أن الجندي من وحدة “أوغوز” أطلق عليه النار بالخطأ من قبل قوة أخرى أثناء تحركه للخروج من المخيم.
تفعيل النار الإسرائيلية كان محسوباً نسبياً طوال فترة القتال. تحرك الجنود بالسيارات العسكرية المدرعة وسيراً على الأقدام. لم تدخل الدبابات وحاملات الجنود المدرعة إلى المخيم. في الأصل، بعد المعركة المشهورة التي سميت “الدرع الواقي” في 2002، عندما أعاد الفلسطينيون بناء مركز المخيم الذي تم تدميره في المعارك بمساعدة دولية، فقد حرصوا على أن تكون الأزقة ضيقة نسبياً كي يتعذر مرور ناقلات الجنود المدرعة منها.
خلال المعارك في هذا الأسبوع، سمح الجيش الإسرائيلي بخروج آلاف المدنيين من المخيم نحو المدينة بشكل استثنائي مقارنة مع السابق. لم تثقل إسرائيل على السكان المدنيين في هذه المرة، ولم يتم فرض حصار على المدينة، وأمس، خرج آلاف العمال الفلسطينيين من سكان جنين إلى العمل داخل الخط الأخضر، وكالعادة، استمر خروج العمال من قطاع غزة للعمل في إسرائيل. بعد منتصف الليل، وقريباً من استكمال خروج الجيش من جنين، تم إطلاق خمسة صواريخ من القطاع نحو غلاف غزة، وتم اعتراضها. تضرر بيت في “سديروت” بسبب الشظايا، دون إصابات.
لا يوجد أفق:
في الأيام القريبة القادمة ستكثر وسائل الإعلام من التحدث عن “عاصمة الإرهاب” جنين، التي كما يبدو تعرضت لضربة شديدة في الحملة الإسرائيلية. الوزراء وأعضاء الكنيست في الائتلاف يبالغون في الثناء على حكمة رئيس الحكومة نتنياهو الذي أمر بتنفيذ الحملة التي وصفها بأنها عملية غير مسبوقة تقريباً. وأعضاء المعارضة سيفضلون التساوق والسير في الخط نفسه، وسيمطرون المديح على الجيش الإسرائيلي و”الشاباك”.
كالعادة، من الأفضل أخذ الأمور بشكل متناسب. بالنسبة لجهاز الأمن، يدور الحديث حتى الآن عن عملية ناجحة، لكنها لا تحمل في طياتها أي احتمالية حقيقية لتغيير جذري في الوضع في الضفة الغربية. في أفضل الحالات ثمة إمكانية كامنة لتقليص مؤقت للإرهاب الذي مصدره جنين، ربما من خلال تحسين معين للردع الإسرائيلي في أماكن أخرى.
ما يمكن للجيش الإسرائيلي أن ينسبه لنفسه من نجاح هو المس بالمواقع المرتبطة بالبنى التحتية المسلحة المحلية. في جنين وضع خاص جداً – عندما يبادر الفلسطينيون إلى الهجمات تعمل كل منظمة (الجهاد الاسلامي، وحماس، والجبهة الشعبية، والذراع العسكري لحركة فتح) بشكل مستقل. الدفاع مشترك، وثمة جهود لتركيز قيادة وسيطرة مركزية، من خلال غرف عمليات مشتركة تابعة لكل التنظيمات. في هذه الغرف يتم استخدام أجهزة اتصال ووثائق، مربوطة بكاميرات موجودة على مداخل مخيمات اللاجئين. الجيش الإسرائيلي ألحق الضرر بعدد من غرف العمليات هذه بواسطة الهجوم من الجو. في الوقت نفسه، تم تدمير مخازن للمواد المتفجرة والعثور على سلاح ووسائل قتالية.
أحد الأهداف التي تريد الحملة في جنين تحقيقها هو إضعاف مكانتها كمدينة لجوء، التي يذهب إليها المطلوبون وأحياناً زعران جنائيون من أرجاء الضفة، على فرض أنه يمكنهم الاختباء هناك من إسرائيل، وأنهم سيكونون بمأمن من اعتقالهم من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية. في السنتين الأخيرتين، استمرت التنظيمات في تحصين الدفاع داخل المخيم، وكل عملية إسرائيلية فيه ووجهت بالمقاومة المسلحة، ومؤخراً بتفجير العبوات الناسفة.
أي اعتقال في جنين تحول إلى قصة على صيغة “بلاك هوك داون”، كما قال ضابط رفيع في الجيش. وبذلك، أراد الإشارة إلى الشرك الذي سقطت فيه القوات الأمريكية في مقديشو عاصمة السودان أثناء عملية تعقدت في التسعينيات، وتم توثيقها في حينه في كتاب وفيلم. في نهاية الحملة الحالية، يريد الجيش الحفاظ على مستوى منخفض من المقاومة. وللمفارقة، حسب رأي الضباط، فإن الطريقة الصحيحة لفعل ذلك هي التصميم على الاستمرار في عمليات الاعتقال بين حين وآخر، بشكل يوضح أنه لا مكان يخاف الجيش العمل فيه.
يأمل الجيش و”الشاباك” في أن تؤدي نهاية واضحة للعملية إلى خفض معين في الإرهاب من منطقة جنين وتقليل المقاومة أثناء عمليات دخول قادمة للجيش الإسرائيلي إلى المدينة وإلى مخيم اللاجئين. إضافة إلى ذلك، ثمة تفكير بأن تتآكل القدرة في جنين، ليكون له تأثير رادع على القيام بعمليات تنظيم مشابهة، التي بدأت تظهر في مدن أخرى في الضفة الغربية، بدءاً من نابلس ثم طولكرم وأريحا.
لكن الحقيقة البسيطة هي أن العملية السياسية مع الفلسطينيين باتت في حالة موت سريري منذ ولاية الحكومة السابقة. الحكومة اليمينية المتطرفة الحالية فاقمت الوضع. وإضافة إلى القطيعة المطلقة مع قيادة السلطة الفلسطينية، فهي في شهوة للاستيطان في أرجاء الضفة. لا تبدو تحركات الجيش الإسرائيلي كافية لتحقيق الهدوء مع مرور الوقت. وفي ظل غياب أي أفق سياسي للفلسطينيين، ستستمر دائرة العنف.
عدم الاستقرار الداخلي في السلطة الفلسطينية سيساهم في استمرار المواجهة العنيفة مع إسرائيل، وهكذا أيضاً أعمال الشغب العنيفة التي ينفذها المستوطنون والتي ازدادت بشكل كبير بعد عملية “عيلي” قبل أسبوعين. من هذه الجهة، ستبقى كل المواد القابلة للاشتعال متجلية في الصورة حتى بعد انتهاء العملية في جنين.