هآرتس – إلغاء “نورد ستريم 2”.. جرأة ألمانية وتضرر أوكراني

هآرتس ٢٣-٢-٢٠٢٢م – بقلم: دفنا مئور
أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس، أمس، بأن ألمانيا ستلغي المصادقة الحكومية على تشغيل أنبوب الغاز “نورد ستريم 2″، الذي يمكن أن ينقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى ألمانيا. هذا القرار خطوة جريئة وخطيرة تتخذ فيها ألمانيا أخيراً موقفاً واضحاً من روسيا.
إلغاء المصادقة التي أعطتها الحكومة الألمانية السابقة في عهد المستشارة أنجيلا ميركل كان رداً على إعلان الرئيس الروسي فلادمير بوتين عن الاعتراف بالأقاليم الانفصالية في أوكرانيا وإرسال قوات إلى المنطقة. شولتس الذي أظهر ضعفاً بارزاً مؤخراً إزاء اعتداء روسيا، فرض بذلك عقوبة شديدة على روسيا، التي استثمرت 11 مليار دولار في إقامة الأنبوب الذي يمر في بحر البلطيق ويضخ الغاز بشكل مباشر منها إلى ألمانيا.
تعتمد ألمانيا على الغاز الروسي بدرجة كبيرة. فشركات صناعية ومحطات توليد للكهرباء والعائلات بحاجة إلى هذا الغاز للتدفئة وإنتاج الكهرباء والتشغيل الجاري. كان يمكن رؤية تداعيات إلغاء تشغيل الأنبوب في سوق الغاز الطبيعي في أوروبا، الذي قفزت فيه أسعار عقود الغاز 11 في المئة. المستثمرون ومستهلكو الغاز التجاري والشخصي يخافون من أن يكون هناك نقص في الغاز، الذي سيؤثر على القدرة على إنتاج الكهرباء.
تملك روسيا المخزون الأكبر المعروف من الغاز الطبيعي، لا سيما في منطقة سيبيريا، وهي المزود الأكبر في العالم لمنتوج الطاقة المهم للدول الأخرى، من بينها الصين وألمانيا، اللتان هما من الاقتصادات الكبرى في العالم. وما دام العالم يحاول الاستغناء عن استخدام الطاقة الملوثة، فستزداد أهمية الغاز الطبيعي؛ فرغم كونه وقوداً هيدروكربونياً فإنه يعتبر أقل تلويثاً من الفحم. يعتبر الغاز الطبيعي وقوداً انتقالياً يستخدم لتقليل الانبعاثات الملوثة في فترة ليس فيها ما يكفي من إنتاج الكهرباء من طاقات متجددة مثل الرياح والشمس.
جاء على هذه الخلفية اعتماد كبير على الغاز الطبيعي لألمانيا بشكل خاص وأوروبا بشكل عام. وفي حين أن في روسيا طبقات جيولوجية ضخمة من الغاز الطبيعي، فإنه غربها؛ أي في القارة الأوروبية، لا يوجد شيء كهذا تقريبا. تم ضخ الغاز الطبيعي طوال سنوات لألمانيا وغرب أوروبا من روسيا عبر منظومة نقل مرت بأوكرانيا. ولكن بدءاً من 2011، جراء الاتفاق الذي وقع في 2005 بين المستشار الألماني في حينه غيرهارد شرودر وروسيا، بدأ الغاز يتدفق في أنبوب يتجاوز أوكرانيا باسم “نورد ستريم”، الذي يمر في بحر البلطيق.
رغم إنشاء الأنبوب، ما زال 80 في المئة من الغاز يمر الآن عبر أوكرانيا، التي تحصل من روسيا على رسوم عن هذه الخدمة التي توفرها لشركات الغاز الروسية. لذلك، بدأت شركة الغاز الروسية الحكومية “غاز بروم” في 2019 بمد أنبوب جديد، باسم “نورد ستريم 2″، الذي يمر في بحر البلطيق. واستهدف هذا الأنبوب مضاعفة كمية الغاز التي تنقلها روسيا لألمانيا عبر البحر.
الاعتماد على الغاز الروسي أمر إشكالي بالنسبة لألمانيا وأوروبا على حد سواء. وثار انتقاد داخلي وخارجي في ألمانيا على الاتفاقات التي سمحت بذلك. الإشكالية غير نظرية. ففي آب بدأت روسيا بإبطاء وتيرة ضخ الغاز نحو الغرب. هذا النقص، مع انخفاض إنتاج الكهرباء من الرياح والشمس، أدى إلى قفزة في أسعار الغاز، إلى درجة أن اختارت مصانع في أرجاء أوروبا وقف عملها كي لا تخسر الأموال.
أوروبا تستورد الآن 80 في المئة من الغاز الطبيعي من روسيا مقابل 65 في المئة قبل عشر سنوات. 27 في المئة من بين إجمالي استهلاك الطاقة في ألمانيا يأتي من الغاز. التشويش والغلاء يثقل على الصناعة، بل وعلى العائلات التي تعاني من غلاء المعيشة. الشرائح السكانية الفقيرة التي تجد صعوبة في تمويل التدفئة في الشتاء هي التي تعاني تحديداً. في السنوات الأخيرة، تم في القارة توثيق عشرات وربما مئات حالات الموت جراء البرد.
كان الأنبوب الجديد الذي أقامته روسيا مركزاً للخلافات بين ألمانيا وبين أمريكا وأوكرانيا وبولندا. الدولتان الأخيرتان تعتبرانه ترسيخاً لنفوذ روسيا في المنطقة، وأوكرانيا تخاف من خسارة المداخيل التي تأتي من نقل الغاز عبر أراضيها. ادعت الولايات المتحدة أن أمن أوروبا السياسي والقومي والاقتصادي مهدد من قبل أنبوب “نورد ستريم 2”. الرئيس الأمريكي، جو بايدن، عارض هذا المشروع عند تسلمه لمنصبه. وقال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، إن الإدارة مصممة على فعل كل ما في استطاعتها لوقف استكمال هذا المشروع.
في شباط من السنة الماضية، كشفت منظمة للبيئة عن اقتراح لألمانيا، وهو استثمار مليار دولار في الولايات المتحدة مقابل أن تمتنع الأخيرة عن فرض عقوبات على روسيا التي ستؤدي إلى وقف تزويد الغاز عبر الأنبوب. وفي تموز 2021 تم إصدار بيان مشترك للولايات المتحدة وألمانيا، رفعت فيه أمريكا معارضتها للمشروع مع وعد بتقديم مساعدة لأوكرانيا مقابل الخسارة في المداخيل.
هذا تعرج لم ينته بذلك. ففي آب بدأت روسيا بإبطاء ضخ الغاز عبر الأنبوب، وقالت المستشارة الألمانية في حينه، ميركل، بأنه إذا ما استخدمت روسيا الغاز كسلاح فسيتم فرض عقوبات عليها. وفي كانون الأول، هبت الولايات المتحدة وأرسلت قافلة من الناقلات الضخمة التي تحمل الغاز الطبيعي السائل (ال.ان.جي) إلى أوروبا. انخفض سعر الغاز السائل في أوروبا 60 في المئة خلال عشرة أيام بعد ذلك.
رغم ذلك، صادقت حكومة ميركل قبل خروجها من مكتب المستشار، على تشغيل أنبوب “نورد ستريم 2”. كانت المرحلة الأخيرة التي بقيت على تشغيله هي مصادقة منظم الطاقة في ألمانيا، لكنه تباطأ في اتخاذ القرار. هل كانت هناك ضغوط أمريكية من وراء وقف الصفقة أم أن بداية ازدياد التوتر في نهاية السنة على حدود أوكرانيا جعلت الألمان يخافون؟
لم يحسم مصير “نورد ستريم 2″، وأعلن شولتس بأن وزارة الاقتصاد الألمانية ستفحص المشروع من جديد، ولكن ألمانيا معنية الآن بتقليل الاعتماد على روسيا. “الوضع الآن مختلف كلياً”، قال شولتس في مؤتمر صحافي في برلين أمس، “علينا أن نعيد تقييم الوضع من جديد”.
قد تشوش الحرب ضخ الغاز من روسيا، لكن يمكن أن يهب الأمريكيون لإنقاذ الأوروبيين مرة أخرى. في الولايات المتحدة طبقات جيولوجية ضخمة من الغاز. وسعره المرتفع في أوروبا (للغاز الطبيعي أسعار مختلفة في أماكن مختلفة في العالم بسبب صعوبة نقله)، قد يوفر للأمريكيين فائدة اقتصادية وليس جيوسياسية فقط.