أقلام وأراء

منير أديب: رأس الخليفة الطّائر

منير أديب 3-12-2022م: رأس الخليفة الطّائر

يُحكى في كتب النوادر والحكايات أن حاكماً وضع رأسه أمام رهان على فوز فرسه، من كثرة ما كان يتمتع به هذا الفرس من اللياقة وما حصل عليه من الأوسمة في المسابقات التي دخلها؛ ربما لأنه فرس أصيل قوي البنيان، وربما لأنه فرس الملك. من حظ صاحبه التعس أن الملك خسر رهانه، وبناءً عليه وقع الملك على الفرس فقتله انتصاراً لنفسه على رهان خاسر. تحكي لنا عناصر القصة أن الملك مرض بعدها مرضاً شديداً ثم مات.

رواية الملك الذي أوقع فرسه فقتله، تؤكد أنه مات بعدها بسبب فراقه للفرس! استدل محبو الملك من القصة على أن الملك هو من قتل نفسه عندما قتل فرسه، وسار النّاس يتداولون القصة باسم الخليفة الطائر أو الحصان الطائر، الذي نجح في قتل صاحبه بعد موته. من تاريخ هذه القصة وحتى الآن، يوصي الحكماء بضرورة أن يهتم الإنسان بفرسه وأن يوصي برعايته حتى بعد مماته.
تذكرت واقعة رأس الخليفة الطائر وأنا أتابع نبأ مقتل الخليفة الثالث لتنظيم “داعش”، حيث خسر التنظيم خلال عام 2022 أبرز قادته، وهما أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، والذي قتل في شباط (فبراير) من العام الذي لم ينته حتى قتل الخليفة الثالث أبو الحسن الهاشمي القرشي، والذي تولى قيادة التنظيم في آذار (مارس) من العام نفسه.
صحيح أن أبو إبراهيم الهاشمي القرشي قتل في غارة أميركية تم الإعداد لها، ومن قبلها تم استهداف أبو بكر البغدادي، الخليفة الأول في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2019، بخلاف الخليفة الثالث للتنظيم والذي قتل أثناء مواجهة للتنظيم مع “الجيش السوري الحر”، أحد فصائل المعارضة السورية المسلحة، منتصف تشرين الأول الماضي، ولم يعرف أحد بمقتله ولم تنشر جهة إعلامية أو استخبارية مقتله، حتى أعلن التنظيم نبأ مقتله.
اللافت في إعلان نبأ مقتل الخليفة الثالث لـ”داعش” على إحدى قنوات التنظيم على موقع “تليغرام”، على لسان أبو عمر المهاجر، المتحدث باسم التنظيم، أنه لم يذكر اسم الخليفة الجديد إلا بكنيته أبو الحسين الحسيني القرشي، ولم تذكر وسيلة إعلامية أو جهة استخباريه منْ يكون على رأس أخطر تنظيم إرهابي يُهدد أمن العالم.
طلب المهاجر مبايعة الخليفة المجهول، بما يخالف الموروثات الإسلامية! فأهم شروط الخليفة أن يكون شخصاً معروفاً ومعلوماً، وهو ما لا ينطبق على أبو الحسن الهاشمي القرشي، وخليفته أبو الحسين الحسيني القرشي، وإن كانت هناك تقارير تُشير إلى أن الخليفة السابق هو الشقيق الأكبر للخليفة الأول أبو بكر البغدادي، إلا أنها غير مؤكدة.
ما نريد أن نستخلصه من هذا السرد، أن “داعش” الذي يدعي أنه يلتزم الشريعة الإسلامية وتراثها في اختيار الخليفة كشرطه بأن يكون قرشي النسب مثلاً، هو نفسه الذي يختار شخصية غير معلومة لجمهوره ولا للنّاس ثم يطلب مبايعته! كما فعل أبو عمر المهاجر في التسجيل الصوتي قبل أيام من دون الكشف عن هوية القائد الجديد، غير أنه اكتفى فقط بقوله “له باع في القتال والجهاد”!
موت قيادات تنظيم “داعش” تؤثر بلا شك في التنظيم، ولكن تأثيرها لا يتعدى تأثير الضربات الجوية المتوقعة والتي يتعرض لها التنظيم بين الوقت والآخر، وإذا كنّا نحكم بحياة قادة هذه التنظيمات، فماذا نقول في أسامة بن لادن، زعيم تنظيم “القاعدة” الذي فشلت الولايات المتحدة في الوصول إلى رأسه إلا بعد 10 سنوات كاملة من احتلالها أفغانستان في عام 2001، ولعل الأمر تكرر مع خليفته أيمن الظواهري، الذي تولى قيادة التنظيم في عام 2011 ولم تنجح القوات الأميركية في استهدافه إلا في عام 2022، أي بعد أكثر من 10 سنوات، والأكثر مرارة أنها انسحبت من أفغانستان من دون أن تقضي عليه، إذ تمت العملية بعد انسحابها بعام كامل.
سينعكس موت قيادات “داعش” على التنظيم، ولعل وفاة هذه القيادات دليل تأزم التنظيم؛ لكن لا يمكن تفسير مقتل خليفة “داعش” ومن سبقوه في فترة زمنية تبدو وجيزة مقارنة بمقتل أبو بكر البغدادي، الذي ظل بعيداً من الاستهداف طيلة فترة قيام دولة الخلافة في 29 حزيران (يونيو) من عام 2014 وحتى سقوطها في 22 آذار من عام 2019، حتى أنه سقط في تشرين الأول من عام 2019، أي بعد أكثر من 6 أشهر من إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب سقوط دولة “داعش”.
مقتل قادة “داعش” يؤثر في التنظيم ولا يقضي عليه. إذا أردنا أن نقضي على “داعش”، فلا بد من أن يكون ذلك من خلال المجتمع الدولي، فالتنظيم أكبر وأقوى من أن توكل مهمة القضاء عليه الى دولة بعينها، فقد تكون المناعة الذاتية غير قادرة على حماية الجسد من الأمراض، وتحتاج إلى مناعة خارجية من مضادات حيوية أو أدوية تكون كفيلة بالتعامل مع العدو الشرس الآتي من داخل الجسم.
هذا ما لا بد من أن يحدث في التعامل مع “داعش”، ولا بد من أن يكون السلاح الأول من خلال غلق المنافذ والأبواب التي يخترق من خلالها “داعش” بنية الدول. الفوضى هي باب “داعش” نحو الاختراق، يسعى إليها ويستغل وجودها من أجل بناء إمبراطوريته، ولعل ما حدث في العراق وسوريا على خلفية الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 هو ما صنع جنين “داعش” من خلال ما سُمي “الدولة الإسلامية في العراق”، ثم ساعدت حوادث الفوضى في عام 2011 التي ضربت سوريا في ظهور التنظيم في مدينة الرقة أيضاً، ومن هنا أقام التنظيم دولته.
لا بد من أن يتعامل المجتمع الدولي مع التنظيم بمنطق قطع جذورة والعمل على وقف تمدداته من خلال الفوضى، فالأهم من ضرب التنظيم هو القضاء على أجوائه وملاذاته، فلا أهمية لقطع رأس الخليفة ما دام فرسه مشدوداً ومستعداً لمن يمتطيه. وإذا كنّا نريد رأس الخليفة الجديد حقاً فلا بد من قتل حصانه أولاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى