معاريف: احتلال غزة سيكون كارثة إنسانية للفلسطينيين ومأساة عسكرية وسياسية لإسرائيل

معاريف 5/9/2025، ألون بن دافيد: احتلال غزة سيكون كارثة إنسانية للفلسطينيين ومأساة عسكرية وسياسية لإسرائيل
بينما يقف جنودنا مرة أخرى في بوابات غزة حاولوا هذا الأسبوع في القيادة الأمنية الفهم اذا كان رئيس الوزراء جدي في نيته للخروج الى معركة ستكون لها اثمان كثيرة وانجازات قليلة أم سيتراجع قبل لحظة من اصدار الامر. مثلما في كل حكم مطلق عندنا أيضا ينشأ الفرع الرياضي لتخمين الإرادة الحقيقية للزعيم، لاعطاء إشارات بلغة جسده، في بادرات طيبة وفي الحدس، في محاولة لفهم ما الذي يجري في رأس من بلسانه تحسم الأمور.
لقد عرضت عليه المعطيات وهو يعرفها جيدا: مدينة غزة الموسعة حيث يتواجد في هذه اللحظة نحو مليون نسمة تختلف في طبيعتها عن باقي مدن وبلدات القطاع. معظم عماراتها لا تزال على حالها، ومن تحتها لا تزال تعتمل شبكة انفاق حماس، التي قسم صغير منها فقط تضرر في الاحتلال السابق للمدينة في نهاية 2023.
في الجيش الاسرائيل يقدرون بان احتلال وتطهير كامل للمدينة، من فوق ومن تحت الأرض سيكلف حياة نحو 100 مقاتل وسيستغرق سنة على الأقل. هذا التقدير عرض أيضا في الكابنت، ليس كنتيجة دقيقة لصيغة حسابية بل كي يوضح لاصحاب القرار بان هذه لا توشك على أن تكون حملة أخرى، بل حرب ثقيلة وطويلة احد لا يمكنه ان يضمن ان تنتهي بـ “حسم” لحماس.
الثمن الذي سيدفعه الجيش الإسرائيلي هو الاخر معامل النهج والسرعة اللذين ستعمل فيها القوات. حركة سريعة الى مراكز ثقل حماس ستوفر إنجازا ظاهرا ومؤثرا في الوعي في غضون زمن قصير، لكنها ستخلف وراءها الكثير من البنى التحتية التحت أرضية التي لم تدمر. بالمقابل، فان تقدما بطيئا وهدما منهاجيا لبنى العدو التحتية سيحقق ضربة مادية ذات مغزى اكبر بقدرات حماس لكنه سيتطلب بقاء أطول في المنطقة..
شرط مسبق للمناورة هو نقل السكان الذين يتواجدون الان في غزة جنوبا، الى منطقة المواصي ومخيمات الوسط الذي يوجد منذ الان مليون نسمة آخرون. في الخريطة التي رسمتها قيادة تنسيق اعمال الحكومة في المناطق عثر على مناطق فارغة في هذه المجالات يمكنها أن تأوي مدن الخيام الجديدة للمخلين من غزة.
لكن الفلسطينيين في غزة لا يبدون حاليا رغبة في الاخلاء وحماس هي الأخرى تمنع حركتهم جنوبا على أمل ان يبقوا هناك كـ “كمين انساني” للقوات الإسرائيلية المناورة. لاجل نقلهم سيحتاج الجيش الإسرائيلي لما يسميه “نار مشجعة” – نار على قرب من تجمعات السكان تدفعهم لان ينهضوا ويرحلوا.
لا ستالينغراد أخرى
حتى بعد أن ينتقل السكان لن تحل المشاكل الإنسانية، لانه في جنوب القطاع لا توجد الشروط لاستيعاب مليون نسمة آخرين: لا توجد أي منظومة يمكنها أن تمتص مجاري مليوني نسمة، توجد أربعة مستشفيات قابلة للاستخدام وثمانية مستشفيات ميدانية أخرى لن تتمكن من معالجة العدد الهائل من السكان. خطوط المياه لن تلبي احتياجات الشرب ومشكوك أن تنجح أربعة مراكز توزيع للغذاء أخرى تفتح هناك في ان تتصدى للطوفان البشري.
قطاع غزة هو مثل صفحة ورق طويناها من النصف وعندها مرة أخرى الى النصف، ومرة أخرى، ومرة أخرى، الى ان تأتي اللحظة التي لا يعود ممكنا طيها اكثر.
وعليه فمعقول ان يختار قسم لا بأس به من سكان غزة الا يخلوا ويبقوا في منطقة القتال، ما يجعل عمل القوات صعب. هذا سيتطلب من الجيش الإسرائيلي أن يفرض مزيدا من الانضباط على المقاتلين لاجل الامتناع عن الإصابات الإنسانية التي ستسحق بقايا شرعيتنا الدولية اذا كان لا يزال لنا كهذه.
القيد الأصعب سيكون وجود المخطوفين. قيادة المخطوفين والمفقودين تعنى بشكل دائم بوضع المخطوفين. أحيانا تكون خريطتهم أوضح، أحيانا تكون غامضة. ينبغي الافتراض بان قسما من المخطوفين يحتجزون في شمال القطاع، في المنطقة التي سيعمل فيها الجيش الإسرائيلي ومعقول أن يكون بعضهم يوجد أيضا على مقربة من المسؤولين الكبار الذين تبقوا من الذراع العسكري لحماس: عزب الدين الحداد ورائد سعد، وكلاهما هدفين للجيش الإسرائيلي.
الجيش سيمتنع عن العمل في مناطق يشتبه بان فيها مخطوفون، لكن هذا على افتراض ان تكون الصورة الاستخبارية لدينا دقيقة. المؤكد هو أنه حتى بعد الانصراف المبارك لابي عبيده، الناطق بلسان حماس، سيكون في منظومة الوعي الكبرى للمنظمة من سيعرف كيف يستخدم المخطوفين كي يمارس الضغط على الرأي العام الإسرائيلي.
واضح لحماس بان ليس لهم أي قدرة عسكرية لوقف قوات الجيش الإسرائيلي. هم لا يستعدون لمعركة على نمط ستالينغراد – المقاومة حتى المقاتل الأخير، بل اكثر لمعركة على نمط السرايا – قتل عصابات يجبي ثمنا من القوات المناورة في ظل جهد لمزيد من الاختطافات من بين القوات.
لكن حماس تخشى هذه المواجهة ومن الإصابة لقاعدة حكمها في القطاع وسيسرها أن تزيل عنها التهديد باحتلال مدينة غزة. يحتمل أن في الزمن القصير المتبقي حتى منتصف الشهر، موعد بدء الهجوم على قلب المدينة، ستلين المنظمة مواقفها من صفقة اسرى وتجبر إسرائيل على إعادة التفكير. هذا كفيل بان يكون سلما لبنيامين نتنياهو، اذا كان يبحث عن مثل هذا السلم، للنزول عن الخطوة العسكرية التي تحمل معها جملة مخاطر واثمان مؤكدة مع احتمالات صغيرة جدا لنجاح مدو ولـ “نصر مطلق”.
ترامب يبتعد عن الخاسرين
سلم آخر كفيل بان يأتي من واشنطن التي بدأت بابداء قصر نفس تجاه حربنا التي لا تنتهي. الرئيس دونالد ترامب قال منذ هذا الأسبوع صراحة ان إسرائيل “لا تنتصر” في الحرب على العلاقات العامة وكان على مسافة خطوة من أن يصفنا بـ “الخاسرين”، وترامب كما هو معروف لا يوجد ابدا في جانب الخاسرين.
في كل يوم نعمق غرقنا عديم الجدوى في رمال غزة نعمق الخسارة في الساحة الدولية التي ليست اقل أهمية لمستقبلنا وأمننا. العالم لا يفهم ما الذي نبحث عنه اكثر في غزة، وإسرائيل تصبح كل يوم دولة معزولة اكثر على شفا المنبوذة. هذه ليست فقط مقاطعة اكاديمية او ثقافية، هذا بات يمس مباشرة بقدرة الجيش الإسرائيلي على ان يحصل على العتاد اللازم لمواصلة القتال.
بحكم الامر الواقع، توجد إسرائيل اليوم تحت حظر سلاح من معظم دول الغرب، ومن يسمع البحث الناشيء في الولايات المتحدة، بما في ذلك في أوساط الجمهوريين، حول استمرار المساعدات العسكرية لإسرائيل، يجب ان يفهم بان السند الاستراتيجي لنا لم يعد مضمونا الى الابد. الضرر الذي لحق منذ الان بالمكانة الدولية لإسرائيل حتى قبل أن نعيد احتلال غزة سيشعر به الجيل التالي من الإسرائيليين أيضا.
كمن كان حتى قبل بضع سنوات سياسي مقدر ومغازل في كل العالم، من الصعب التخيل بان نتنياهو اعمى عن هذه التطورات او لا يفهم معناها. كما أن مكانته الشخصية تآكلت، وقائمة الدول التي هو مدعو لان تطأ قدمه فيها تقلصت دراماتيكيا في السنتين الأخيرتين. يحتمل الا يكون مستقبل إسرائيل يقف في رأس اهتمام نتنياهو. لكن هل هو مستعد لان يضحي أيضا بمكانته الشخصية كي يرضي شركاءه الائتلافيين.
بشكل شاذ، في جلسة الكابنت التي عنيت بالعملية في غزة هذا الأسبوع لم تسمع جوقة موحدة من الوزراء كالتي ميزت جلسات الكابنت في السنتين الأخيرتين. ووزراء الليكود بالذات وبالذات أولئك الذين يتميزون كخدم مطيعين للزعيم، تجرأوا على أن يطرحوا تساؤلات عن الحملة المخطط لها وعن رفض صفقة المخطوفين المقترحة. ثمة من يرون في هذا الشذوذ خطوة من نتنياهو لتهيئة التربة في حالة أن يقرر التوجه الى صفقة. قراره النهائي سيكون، مثلما هو الحال دوما، في اللحظة الأخيرة فقط.