مروان إميل طوباسي: القرار ٢٨٠٣، حين يتحول مجلس الأمن إلى أداة لإدارة الأحتلال بدل إنهائه

مروان إميل طوباسي 20-11-2025: القرار ٢٨٠٣، حين يتحول مجلس الأمن إلى أداة لإدارة الأحتلال بدل إنهائه
لم يكن إعتماد مجلس الأمن الدولي للقرار ٢٨٠٣ مفاجئاً بقدر ما كان صادماً في مضمونه ودلالاته . فالقرار الذي حاز على أغلبية ١٣ صوتاً وأمتناع روسيا والصين ، بدا وكأنه يُكرس واقعاً جديداً في غزة ، يقوم على شرعنة السيطرة الخارجية وإعادة إنتاج الأحتلال بأدوات مختلفة ، تحت شعارات إنسانية في ظاهرها ، وفي جوهرها هندسة سياسية جديدة تطيح بحق تقرير المصير لشعبنا الفلسطيني والالتفاف على تجسيد اقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة وفق حدود ما قبل ما قبل الرابع من حزيران ١٩٦٧ والتي ترفضها الولايات المتحدة وإسرائيل من حيث المبداء .
إنّ التحذيرات الشديدة التي أطلقتها المقررة الخاصة للأمم المتحدة حول حقوق الانسان بالأراضي الفلسطينية المحتلة ، “فرانشيسكا ألبانيزي” رغم ترحيبها بأهتمام مجلس الأمن مرة أخرى بالأوضاع بفلسطين وإلى ضرورة وقف اطلاق النار ووقف الإبادة بحق الفلسطينين . الا انها تضعنا أمام لحظة انكشاف غير مسبوقة ، لحظة يتجلى فيها انزلاق المؤسسة الدولية نحو التخلي عن القانون الدولي الذي أُسست الأمم المتحدة لحمايته ، واستبداله بمنطق القوة والأستثمار والتحالفات السياسية . فالمقررة ألبانيزي لم تكتفي بانتقاد القرار ، بل اعتبرته انحرافاً خطيراً عن التزامات مجلس الأمن بموجب المادة ٢٤ من ميثاق الأمم المتحدة ، التي تلزمه بالعمل وفق مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها الأساسية ، وعلى رأسها حق الشعوب في تقرير مصيرها وتنفيذ القانون الدولي الانساني ومبادئ حقوق الانسان والقانون الدولي .
القرار ٢٨٠٣ يقدم نموذجاً واضحاً لما أسمته ألبانيزي “النموذج الأمني الرأسمالي للسيطرة الخارجية” ، فهو يركز على “تأمين الحدود” و“حماية المدنيين” و“إزالة اسلحة المجموعات”، لكنه يتجاهل جذور الصراع المتمثلة بالأحتلال المستمر ، الأستيطان ، الحصار ، الفصل العنصري والتطهير العرقي . وبذلك يعيد إنتاج المقاربة التي تبنتها القوى الكبرى الغربية منذ عقود ، والتي تقوم على إدارة الأزمة بدل حلها ، وعلى إخضاع غزة لرقابة خارجية كثيفة دون أنهاء الأحتلال أو إعادة الإعمار بشكل حُر ومستقل ، وغض النظر عما يجري بالضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة من فرض وقائع جديدة على الأرض تتمثل بتجسبد التوسع الكولنيالي وأرهاب حكومة المستوطنين ذات الطابع الفاشي ، اضافة الى السماح باستمرار مجازر الأحتلال كما حصل اليومين الماضيين في غزة وعين الحلوة .
الأخطر أن القرار يمنح الولايات المتحدة ، الطرف الأكثر انحيازاً ودعماً لإسرائيل بل والشريك لها ، موقعاً قيادياً من خلال ما سمي بـ“مجلس السلام”، وهو هيكل جديد للتحكم في مستقبل غزة . حيث هنا تتجلى المفارقة الكبرى ، فالقوة التي زودت إسرائيل بالسلاح والدعم السياسي والدبلوماسي طوال سنوات الحرب وحتى منذ نشأتها الإستعمارية على حساب حقوق شعبنا ، تصبح هي نفسها الوصي على شعبنا وإعادة بناء قطاع غزة وحفظ أمنه !!
وهو ما دفع “فرنشيسكا ألبانيزي” إلى وصف القرار بأنه “تعيين لمدير جديد للسجن المفتوح” الذي شيدته إسرائيل في غزة ، لا أكثر من ذلك .
ان القرار المذكور يتجاهل حقيقة قانونية محورية ، تتمثل في أن وجود إسرائيل العسكري والأستيطاني في أي جزء من الأرض الفلسطينية المحتلة يُعد فعلاً غير قانوني وفق محكمة العدل الدولية . وهذا يعني أن على جميع الدول ، لا سيما الولايات المتحدة ، واجب الأمتناع عن تقديم أي شكل من أشكال الدعم الذي يُبقي الأحتلال قائماً . لكن القرار يسير في الإتجاه المعاكس تماماً ، إذ يمنح الأحتلال غطاءً دبلوماسياً جديداً ، ويحول النقاش الدولي من ضرورة الأنسحاب إلى كيفية إدارة غزة بعد الحرب .
كان المفترض بأعتقادي ، إذا أراد المجتمع الدولي حماية المدنيين ، أن ينشئ قوة دولية تُشرف على الأنسحاب الفوري وغير المشروط لإسرائيل ، وتمنع التهجير ، وتضمن المساءلة ، وتدعم شعبنا الفلسطيني في حقه بتقرير المصير وتحديد مستقبله السياسي . إلا أنّ مقاربة “الإدارة الدولية” المطروحة اليوم لا تعترف بالفلسطيني كفاعل سياسي ولا كشعب صاحب حقوق سياسية تاريخية وقانونية ، بل كمجموعة سكانية تحت الوصاية يجب إعادة ترتيبها وفق معايير الخارج الإستعماري .
وفي هذا الخصوص فأن “فرنشيسكا ألبانيزي” تحذر في تصريحاتها أيضاً من أن هذا القرار تحول إلى “صمام ضغط سياسي” استخدمته بعض الدول الهاربة من واجباتها القانونية لتعليق النقاش في الإجراءات العقابية ضد إسرائيل ، بما في ذلك العقوبات ومذكرات التوقيف الدولية الصادرة بحق نتنياهو وغيره من القضاء الدولي من جهة ، ومن الاستحقاقات المفروضة عليها نتيجة حركة التضامن الدولية الواسعة وغير المسبوقة حول العالم والمتغيرات بالرأي العام خاصة بالولايات المتحدة نفسها من جهة أخرى ، ومن اجل الالتفاف على مقررات مؤتمر نيويورك للمبادرة السعودية الفرنسية والاعترافات الدولية الاخيرة بالدولة الفلسطينية .
إنه شكل جديد من الهروب الأخلاقي ، الأكتفاء بخطة سياسية شكلية لتفادي اتخاذ مواقف جادة تجاه الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي والقرارات الأممية ، من الإبادة الجماعية إلى التهجير والقصف العشوائي .
، انها لحظة مفصلية لمستقبل فلسطين
فنحن لسنا أمام قرار عابر ، بل أمام تأسيس لنظام وصاية دولية قد يمتد لسنوات . وهو نظام ، إن تحقق ، سيجعل غزة ومن ثم الضفة الغربية محكومة بترتيبات أمنية تضعها الولايات المتحدة وإسرائيل ، ويحول القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني إلى ملف إداري امني يخضع لموازنات دولية . فلا يمكن بناء السلام عبر تكريس الأحتلال . ولا يمكن حماية غزة عبر إلغاء الشعب الفلسطيني وإبعاده عن تقرير مصيره .
إن القرار ٢٨٠٣ يُعد لحظة اختبار للقيادة الفلسطينية وللمنطقة وللمجتمع الدولي ، حيث أن المطلوب اليوم هو :
— رفض أي صيغة وصاية دولية تتجاهل إنهاء الأحتلال والأنسحاب الإسرائيلي والقرارات الأممية المتعلقة بذلك ، بحيث لا نُلدغ من نفس الجُحر مرات عديدة .
— التمسك بتطبيق رأي محكمة العدل الدولية لعام ٢٠٢٤ القاضي بإنهاء الأحتلال وما قبله من رأي بخصوص جدار الابرتهايد .
— فضح ومقاومة البُـعد الإستعماري في إدارة ما بعد الحرب .
— بناء جبهة دبلوماسية دولية وقاعدة واسعة للتضامن الدولي الشعبي لحماية حق تقرير المصير لشعبنا والحقوق الغير قابلة للتصرف من التلاعب السياسي .
— وقبل كل ذلك ، ضرورة توفر الإرادة السياسية في تكريس مفهوم بناء جبهة وطنية عريضة تتمثل في أستنهاض منظمة التحرير الفلسطينية وعقد أجتماع وطني واسع يحدد الرؤية الفلسطينية والبرنامج والأدوات للمرحلة الحالية ، بما يتطلب ذلك من أستنهاض فوري لحركة “فتح” ولكافة مكونات الحركة الوطنية ، على ان يتم بموازاة ذلك ، ألاستعجال في تعزيز الديمقراطية واجراء الإنتخابات اللازمة وفق الأنطمة والقوانين من أجل حماية وتعزيز النظام السياسي الفلسطيني والتجديد المستحق وفق القرار الوطني المستقل وتكريس مفهوم “ان الشعب هو مصدر السلطات” وفق ما جاء في وثيقة إعلان الإستقلال .
فكما قالت فرنشيسكا ألبانيزي
“هذه لحظة وجودية ، يجب ألا يتحدد مستقبل غزة أو مستقبل الشعب الفلسطيني دون إرادته وموافقته .”
الأمر الذي يستدعي المراجعة لسياساتنا الرسمية ، ولأن يكون قاعدة أي موقف فلسطيني أولاً ومن ثم عربي ودولي يسعى لإحلال سلام حقيقي يقوم على الحرية والعدالة والأستقلال الوطني ، لا على تدوير الأحتلال بوجوه وأشكال جديدة ، حتى لا نبقى نُلدغ من نفس الجُحر مرات عديدة ونعيد نفس السياسات بتوقعات ونتائج مغايرة .



