مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) : الغزو الروسي لأوكرانيا الاحتمالات والسيناريوهات

مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) ١٣-١-٢٠٢٢- فيليب فاسيليفسكي؛ وسيث جونز*
إذا فشلت محادثات السلام، ستكون أمام الجيش الروسي خيارات عدة للتقدم إلى داخل أوكرانيا عبر طرق غزو شمالية، ووسطى، وجنوبية. لكن المحاولة الروسية للاستيلاء على الأرض والاحتفاظ بها لن تكون سهلة بالضرورة، وسوف تتأثر على الأرجح بتحديات من الطقس، والقتال في المناطق الحضرية، والقيادة والسيطرة، والخدمات اللوجستية، والروح المعنوية للقوات الروسية والسكان الأوكرانيين. ويجب أن تكون الولايات المتحدة وحلفاؤها وشركاؤها الأوروبيون مستعدين لحدوث غزو من خلال اتخاذ خطوات اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية واستخباراتية وإنسانية فورية لمساعدة أوكرانيا وسكانها وتعزيز الدفاعات على طول الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي (الناتو).
* * *
مقدمة
يواصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التهديد بغزو أوكرانيا بحشد عسكري كبير بالقرب من الحدود الروسية الأوكرانية واستخدام لغة عدوانية. وقد نشرت روسيا أسلحة وأنظمة هجومية على مسافة قريبة من أوكرانيا، بما في ذلك دبابات القتال الرئيسية، ومدافع الهاوتزر ذاتية الدفع، ومركبات قتال المشاة، وأنظمة إطلاق الصواريخ المتعددة، وأنظمة الصواريخ الباليستية قصيرة المدى من طراز “إسكندر”، والمدفعية المنقولة، (كما هو موضح في الشكلين (1 أ) و (1 ب)). واستكمل بوتين هذا التحشيد بعبارات حادة أكد فيها أن أوكرانيا هي جزء تاريخي من روسيا وأن كييف يجب أن تعود إلى حظيرة روسيا. وهذا التهديد الروسي مثير للقلق بشكل خاص لسببين على الأقل.
أولاً، يمكن لروسيا تحريك قواتها المتمركزة مسبقًا إلى داخل أوكرانيا بسرعة. وإذا انخرط الجيش الروسي في الهجوم بشكل كامل، فسوف يكون أقوى بكثير وأكثر قدرة من الجيش الأوكراني، وقد أوضحت الولايات المتحدة ودول الناتو الأخرى أنها لن تنشر قواتها في أوكرانيا لصد الغزو الروسي. وحتى لو تمكن الدبلوماسيون من التوصل إلى اتفاق، فقد أظهر بوتين استعدادًا لتصعيد الحرب في أوكرانيا -أو خفضها- وهدد بتوسيع الحرب، ما يجعل التهديد الروسي مستمرًا. ثانيًا، قد يؤذِن الغزو، في حال تنفيذه، بتغيير مهم في السياسة الدولية، خالقاً “ستاراً حديدياً” جديداً يبدأ على طول حدود روسيا مع فنلندا ودول البلطيق، ويتحرك جنوبًا عبر أوروبا الشرقية والشرق الأوسط ووسط وجنوب آسيا، وأخيراً إلى شرق آسيا على طول التخوم الجنوبية للصين.
وهكذا، من المهم أن نفهم كيف يمكن أن تقوم روسيا بغزو أوكرانيا، وكيف يمكن لأهداف سياسية محددة أن تؤثر على خطة الغزو، وما التحديات التي قد يواجهها الغزو، وما الخيارات التي تتوفر للولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين للرد. وللمساعدة على فهم هذه الديناميات، يطرح هذا التحليل الموجز عدداً من الأسئلة. ما أهداف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؟ ما الخيارات العسكرية التي تمتلكها روسيا، وكيف يمكن أن يبدو الغزو؟ كيف ينبغي للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها الرد؟
يقدم هذا الموجز أطروحتين رئيسيتين.
أولاً، إذا قررت روسيا غزو أوكرانيا لإعادة تأكيد السيطرة والنفوذ الروسيين، فإن هناك على الأقل ثلاثة محاور محتملة للتقدم من أجل الاستيلاء على الأراضي الأوكرانية: توغل شمالي، ربما محاولة الالتفاف حول الدفاعات الأوكرانية حول كييف وتطويقها من خلال التقرُّب عبر بيلاروسيا؛ اندفاع مركزي من الوسط يتقدم غربًا إلى أوكرانيا؛ واندفاع جنوبي يتقدم عبر برزخ بيريكوب.
ثانيًا، إذا فشلت الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون في ردع غزو روسي، فإن عليهم دعم المقاومة الأوكرانية من خلال مزيج من الوسائل الدبلوماسية والعسكرية والاستخباراتية وغيرها من الوسائل. لا يمكن للولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين السماح لروسيا بضم أوكرانيا. كان من شأن استرضاء الغرب لموسكو عندما ضمت شبه جزيرة القرم في العام 2014 ثم دبرت تمردًا في شرق أوكرانيا تمكين القادة الروس وزيادتهم جرأة فحسب. وإضافة إلى ذلك، سيؤدي ضم روسيا لبعض أو كل أوكرانيا إلى زيادة القوى العاملة الروسية، والقدرة الصناعية والموارد الطبيعية إلى مستوى يمكن أن يجعلها تهديدًا عالميًا. لا يمكن للولايات المتحدة وأوروبا أن ترتكبا هذا الخطأ مرة أخرى.
ينقسم باقي هذا الموجز إلى ثلاثة أقسام رئيسية.
أولاً، الأهداف السياسية الروسية.
ثانيًا، الخيارات العسكرية الروسية.
ثالثًا، الخيارات المتاحة للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها.
الأهداف السياسية الروسية
يريد الكرملين ما يقول إنه يريده: وضع نهاية لتوسع الناتو؛ وتراجعاً عن توسيعه السابق، وإزالة الأسلحة النووية الأميركية من أوروبا، ومجال نفوذ روسيا. ومع ذلك، قد يقبل بوتين بما هو أقل. والهدف الأساسي للكرملين هو ضمان ألا تنتمي بيلاروسيا وأوكرانيا وجورجيا أبدًا إلى كتلة عسكرية أو اقتصادية غير تلك التي تسيطر عليها موسكو، وأن تكون روسيا الحكم النهائي في السياسة الخارجية والأمنية للدول الثلاث. في جوهره، يدور هذا الصراع حول ما إذا كان يمكن للجمهوريات العرقية السابقة، بعد 30 عامًا من انهيار الاتحاد السوفياتي، أن تعيش كدول مستقلة وذات سيادة، أو إذا كان ما يزال يتعين عليها الاعتراف بموسكو باعتبارها صاحبة السيادة بحكم الأمر الواقع.
ظاهريًا، يأتي طلب منطقة نفوذ حصرية في أوروبا الشرقية وجنوب القوقاز لتلبية المصالح الأمنية الروسية. وقد صور الكرملين توسع الناتو إلى الشرق على أنه الخطيئة الأصلية للعلاقات الدولية مع الغرب في حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والتي يجب تصحيحها الآن. وعلى الرغم من الحقائق والتفسيرات البديلة والمخاوف الأمنية للدول التي تتمتع بسيادة متساوية، تدعي موسكو أنها ستعمد، من دون مثل هذه الضمانات، إلى استخدام القوة العسكرية لحماية مصالحها الأمنية.
الخيارات العسكرية الروسية
بناءً على هذه الأهداف السياسية، لدى الكرملين ستة خيارات عسكرية محتملة على الأقل:
1. إعادة نشر بعض القوات الروسية البرية بعيدًا عن الحدود الأوكرانية -مؤقتًا على الأقل- إذا نجحت المفاوضات -وإنما الاستمرار في مساعدة المتمردين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا.
2. إرسال القوات الروسية التقليدية إلى منطقتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين “كقوات حفظ سلام” من جانب واحد، ورفض سحبها حتى تنتهي محادثات السلام بنجاح وتوافق كييف على تنفيذ اتفاقيات مينسك.
3. الاستيلاء على أراض أوكرانية تصل غرباً إلى نهر الدنيبر لاستخدامها كورقة مساومة أو دمج هذه الأراضي الجديدة بالكامل في الاتحاد الروسي.
4. الاستيلاء على الأراضي الأوكرانية حتى نهر دنيبر، والاستيلاء على حزام إضافي من الأرض (يشمل أوديسا)، والذي يربط الأراضي الروسية بجمهورية ترانسدنيستريا الانفصالية ويفصل أوكرانيا عن أي منفذ إلى البحر الأسود. وسوف يدمج الكرملين هذه الأراضي الجديدة في روسيا ويضمن بقاء الدويلة الأوكرانية المتبقية غير قابلة للحياة اقتصاديًا.
5. الاستيلاء فقط على حزام من الأرض بين روسيا وترانسدنيستريا (بما في ذلك ماريوبول وخيرسون وأوديسا) لتأمين إمدادات المياه العذبة لشبه جزيرة القرم ومنع وصول أوكرانيا إلى البحر، مع تجنب القتال الرئيسي حول كييف وخاركيف.
6. الاستيلاء على كل أوكرانيا، والإعلان، مع بيلاروسيا، عن تشكيل اتحاد سلافي ثلاثي جديد للروس، “الكبار” و”الصغار”، و”البيض” (الروس، والأوكرانيين والبيلاروسيين).
من بين هذه الخيارات الستة، سيكون الخياران الأولان هما الأقل احتمالًا للتسبب بفرض عقوبات دولية كبيرة على روسيا، لكن فرصتهما محدودة في تحقيق انفراجة في قضايا الناتو أو اتفاقيات مينسك بسبب طبيعتهما القسرية. وتجلب جميع الخيارات الأخرى عقوبات دولية كبيرة وصعوبات اقتصادية، وستؤدي إلى نتائج عكسية لهدف إضعاف الناتو أو فصل الولايات المتحدة عن التزاماتها تجاه الأمن الأوروبي.
يمكن أن تحقق الخيارات من ثلاثة إلى ستة هدفًا آخر -تدمير إمكانية وجود أوكرانيا مستقلة- التي أصبح تحولها نحو دولة ديمقراطية ليبرالية مصدرًا رئيسيًا للخلاف بين النخب الأمنية في الكرملين. وسيجعل الخيار الثالث روسيا تسيطر على مساحة كبيرة من الأراضي الأوكرانية، لكنه سيترك أوكرانيا دولة قابلة للحياة اقتصاديًا. ويترك الخيار الرابع أوكرانيا صغيرة زراعية فقط، ولكنه يتجنب احتلال أكثر مناطقها قومية. ويترك الخيار الخامس جزءاً أكبر من الأراضي الأوكرانية حرة، لكنه يقطع وصولها إلى البحر ويرتّب على روسيا تكاليف احتلال أقل. ويتسم الخياران الرابع والخامس -الاستيلاء على حزام من الأرض من تيراسبول إلى ماريوبول- بالتعقيد بسبب حقيقة أنها لا توجد سمة طبيعية أو نهر أو سلسلة جبال تمتد من الشرق إلى الغرب، والتي يمكن أن تكون بمثابة خط ترسيم طبيعي لهذه الأرض المحتلة.
وسوف تمر الحدود الجديدة على طول هذه المنطقة عبر عدد لا يحصى من الحقول والغابات وسيكون من الصعب الدفاع عنها. ويعني الخيار السادس احتلال البلد بأكمله والتعامل مع استيعاب 41 مليون نسمة قد يقاومون الاحتلال بشكل فعال وسلبي لسنوات. وسيتطلب الأمر وجود قوة احتلال كبيرة الحجم للسيطرة على السكان وإدارة الحدود الجديدة مع دول الناتو. ويمكن للأوكرانيين في أي منطقة محتلة أن يتوقعوا نوع “الترويس” القسري الذي عاشته الأمة في ظل حكام روس مثل كاترين العظمى، وألكسندر الثاني، وستالين، وبريجنيف.
مسارات الغزو المحتملة
كان الإعداد الأيديولوجي للمجتمع الروسي للنزاع مع أوكرانيا مستمرًا منذ العام 2014 على الأقل، مع تصوير دعاية الكرملين أوكرانيا كدولة “فاشية جديدة” و”نازية جديدة”. وفي تموز (يوليو) 2021، أكدت رسالة مُعلنة من الرئيس بوتين تقول إن الروس والأوكرانيين هم الشعب نفسه وانتقدت السلطات الأوكرانية لتبريرها الاستقلال بإنكار ماضيها. وجعل الجيش الروسي مقالة الرئيس بوتين قراءة إلزامية لجنوده. وتبعت ذلك في تشرين الأول (أكتوبر) رسالة في صحيفة “كوميرسانت” من نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري ميدفيديف، والتي استخدمت نبرات لا سامية لنزع الشرعية عن القيادة الأوكرانية الحالية باعتبارها متطرفة وفاسدة وخاضعة لسيطرة أجنبية.
مع وجود أساس أيديولوجي للعمل، فإن الخطوة التالية أمام روسيا هي خلق سبب للحرب -تبرير للحرب- والذي يتوافق مع صورة أوكرانيا التي صنعها الكرملين. ويمكن أن تتراوح الذرائع لشن هجوم من انهيار مباشر للمحادثات الأمنية إلى حادثة مدبرة مُدارة على مراحل، مشابهة للاستفزازات في “موكدين” و”جليويتز” و”ماينيلا”، التي قدمت مبررًا لغزو اليابان لمنشوريا، وغزو ألمانيا لبولندا، وهجوم الاتحاد السوفياتي على فنلندا، على التوالي. وهذا هو السبب في أن الادعاء الغريب لوزير الدفاع، سيرجي شويغو، المنشور على الموقع الرسمي للكرملين عن المرتزقة الأميركيين الذين يرتبون “استفزازًا” بأسلحة كيماوية في أوكرانيا هو ادعاء ينذر بالسوء، وربما ينذر بنوع “الحادث” الذي قد يكون الكرملين بصدد إعداده.
بمجرد وجود سبب للحرب، من المرجح أن تأتي الهجمات الإلكترونية لتقويض أنظمة القيادة والسيطرة العسكرية الأوكرانية والاتصالات العامة والشبكات الكهربائية. وبعد ذلك، من المرجح أن تبدأ العمليات الحركية بضربات جوية وصاروخية ضد القوات الجوية الأوكرانية وأنظمة الدفاع الجوي. وبمجرد تحقيق التفوق الجوي، ستتحرك القوات البرية الروسية إلى الأمام، تسبقها بقليل عمليات خاصة لتقويض المزيد من قدرات القيادة والسيطرة وتأخير تعبئة الاحتياطيات من خلال تنفيذ التفجيرات، والاغتيالات وعمليات التخريب.
من المرجح أن يتأثر مخطط المناورة لغزو عسكري روسي لأوكرانيا بأي من الأهداف السياسية المذكورة أعلاه التي يرغب الكرملين في تحقيقها، وبجغرافية الأرض والمدن التي سيتم القتال عليها، وطرق النقل اللازمة لجلب اللوجستيات. فإذا كان الكرملين يرغب في تطبيق الخيارات الثالث أو الرابع أو السادس، مع الأخذ في الاعتبار مسائل الجغرافيا واللوجستيات، فهناك ثلاثة محاور محتملة للتقدم للاستيلاء على الأراضي الأوكرانية شرق نهر دنيبر، مع اعتبار النهر إما حدًا للتقدم أو خط المرحلة الأولى لغزو أكبر.
الطريق الشمالي: يمكن لروسيا التقدم نحو كييف على طريقين. الأول سيكون التقدم 150 ميلا براً عبر نوفي يوركوفيتشي، روسيا؛ تشيرنيهيف، أوكرانيا؛ وإلى كييف، أوكرانيا. والثاني سيكون اندفاعاً لمسافة 200 ميل عبر ترويبورتنو، روسيا؛ كونوتوب، أوكرانيا؛ نيزين، أوكرانيا؛ وإذا وافقت مينسك على استخدام شبكات الطرق والسكك الحديدية الخاصة بها، يمكن للجيش الروسي أن يحاصر الدفاعات الأوكرانية حول كييف ويتقرب منها من الخلف عبر محور تقدم يبلغ طوله 150 ميلاً من مازور، بيلاروسيا؛ إلى كوروستين، أوكرانيا، وأخيراً إلى كييف.
الطريق الأوسط: يمكن لروسيا أيضًا التقدم غربًا على طول ثلاثة طرق. الأول قد يشمل محوراً بطول 200 ميل يتحرك عبر بيلغورود، روسيا؛ خاركيف، أوكرانيا؛ بولتافا، أوكرانيا؛ وأخيراً إلى كريمنشوك، أوكرانيا. والثاني قد يشمل محورًا بطول 140 ميلًا يمر عبر دونيتسك بأوكرانيا إلى زابوروجي، أوكرانيا؛ ومن الممكن أيضاً الاندفاع من دونيتسك إلى دنيبرو بأوكرانيا. وقد يشمل المحور الثالث تقدم القوات الروسية على طول الساحل باتجاه ماريوبول وبيرديانسك وبرزخ بيريكوب الذي يربط شبه جزيرة القرم بأوكرانيا
*الطريق الجنوبي: يمكن لروسيا أيضًا التقدم عبر برزخ بيريكوب للاستيلاء على خيرسون ومصدر المياه العذبة لشبه جزيرة القرم، وفي الوقت نفسه باتجاه المنطقة المجاورة لميليتوبول من أجل الاتصال بالقوات الروسية التي تتقدم على طول ساحل بحر آزوف. وإذا كانت روسيا ستحاول الخيار الخامس، فسيكون هذا هو الهجوم الرئيسي إلى جانب الهجوم على طول الساحل باتجاه ماريوبول وبيرديانسك. لكنّ هذا الهجوم سيكون الأصعب استدامة من الناحية اللوجستية بسبب عدم وجود خط سكة حديد يمتد على طول ساحل بحر آزوف والاتجاه الرئيسي للتقدم.
كل هذه الطرق المحتملة للغزو، باستثناء الخط الساحلي، موازية لخطوط سكك حديدية عاملة. وهذا أساسي لأن لوجستيات الجيش الروسي ليست مصممة لشن هجمات برية واسعة النطاق بعيدة عن خطوط السكك الحديدية. وإذا كانت أهداف روسيا تتضمن حرمان أوكرانيا من الوصول إلى البحر في المستقبل، فسيتعين عليها الاستيلاء على أوديسا. ويتوقع البعض أن يتم تحقيق ذلك من خلال عمليات إنزال برمائية ومحمولة جواً بالقرب من أوديسا، والتي تلتقي بقوات آلية تقترب من الشرق. وإذا كانت روسيا تنوي احتلال الدولة بأكملها، فستحتاج قواتها إلى الاستيلاء على أوديسا (التي ستسهل منشآتها المينائية الخدمات اللوجستية الروسية) وأيضًا عبور نهر دنيبر في نقاط عدة للتقدم والقتال من 350 إلى 700 ميل إضافي غربًا لاحتلال كل أوكرانيا حتى حدودها مع بولندا وسلوفاكيا والمجر ورومانيا ومولدوفا.
آفاق النجاح الروسية
ليست الهجمات الآلية دائمًا بالسرعة التي يأملها المهاجمون. ثمة اثنان من أسرع تحركات القوات المدرعة في التاريخ -ضربة الجنرال الألماني هاينز جوديريان عبر آردن والاستيلاء على دونكيرك في أيار (مايو) من العام 1940؛ وتقدم الولايات المتحدة والتحالف من حدود الكويت إلى بغداد في العام 2003- واللذان بلغ متوسط تقدم كل منهما حوالي 20 ميلًا في اليوم. ويمكن للحركة ضد خصم محدد في ظروف الشتاء مع ضوء النهار المحدود أن تقلل هذا المعدل للتقدم بشكل كبير.
بوجود عدد كافٍ من القوات والقوة النارية واللوجستيات والوقت والإرادة الوطنية، فضلاً عن عدم وجود تدخل خارجي، يمكن لروسيا المضي قدمًا حتى يحقق جيشها أهداف الكرملين السياسية. ويفوق الجيش الروسي الجيش الأوكراني عدداً في الجو وعلى الأرض، وقد اكتسبت روسيا خبرة واسعة في تنفيذ عمليات الأسلحة المشتركة في سورية، وتفضل التضاريس الحرب الآلية الهجومية. ومع ذلك، فإن الحساب الحقيقي للنجاح العسكري لا يمكن أن يُجرى إلا بعد بدء صدام بالأسلحة. وإضافة إلى ذلك، هناك العديد من الأشياء غير الملموسة -مثل الطقس، والمعارك الحضرية، والقيادة والسيطرة، والخدمات اللوجستية، والروح المعنوية- التي قد تلعب كلها دورًا مهمًا في المراحل الأولى من أي حرب.
الطقس:
ستكون لغزو يبدأ في كانون الثاني (يناير) أو شباط (فبراير) ميزة وجود الأرض المتجمدة لدعم الحركة عبر البلاد لقوة آلية كبيرة. وقد يعني أيضًا العمل في ظروف شديدة البرودة مع محدودية في الرؤية. وعادةً ما يكون شهر كانون الثاني (يناير) هو أبرد أشهر السنة وأكثرها ثلوجًا في أوكرانيا، حيث يبلغ متوسطه 8.5 ساعة من ضوء النهار خلال الشهر ويزيد إلى 10 ساعات بحلول شباط (فبراير). وفي حالة استمرار القتال في شهر آذار (مارس)، سيتعين على القوات الآلية التعامل مع “راسبوتيتسا” أو “ذوبان الجليد” سيئ السمعة. في تشرين الأول (أكتوبر)، يحول “راسبوتيتسا” الأرض الصلبة إلى طين. وفي آذار (مارس)، يذوب الجليد في السهوب، وتصبح الأرض مستنقعًا مرة أخرى في أفضل الأحوال، وفي أسوأ الأحوال تتحول إلى بحر من الوحل. كما أن الطقس الشتوي يوفر مستوى أقل من مثالي لتنفيذ عمليات دعم جوي قريبة موثوقة.
القتال في المناطق الحضرية:
في حين أن الكثير من الأراضي الواقعة شرق نهر دنيبر تشمل الحقول والغابات الريفية، إلا أن هناك العديد من المناطق الحضرية الرئيسية التي يتعين على القوة الآلية الروسية إما أن تستولي عليها أو تتجاوزها أو تحاصرها. ويبلغ عدد سكان كييف حوالي 3 ملايين نسمة، ويبلغ عدد سكان خاركيف حوالي 1.5 مليون نسمة، ويبلغ عدد سكان أوديسا نحو مليون نسمة، ويبلغ عدد سكان دنيبرو حوالي مليون نسمة، ويبلغ عدد سكان زابوريزهيا 750 ألف نسمة، وحتى مدينة ماريوبول تضم ما يقرب من 500 ألف نسمة. وإذا تم الدفاع عنها، فإن هذه المناطق الحضرية الكبيرة يمكن أن تتطلب قدراً يُعتد به من القوات والخسائر لتطهيرها واحتلالها. في الحرب الشيشانية الأولى، استغرق الأمر القوات الروسية من 31 كانون الأول (ديسمبر) 1994 إلى 9 شباط (فبراير) 1995 للاستيلاء على غروزني، التي كانت آنذاك مدينة يقل عدد سكانها عن 400 ألف نسمة، من بضعة آلاف من المقاتلين الشيشان. وفي الحرب الشيشانية الثانية، استغرق حصار غروزني ستة أسابيع.
لذلك، سيكون أفضل مسار عمل للقوات الروسية هو تجاوز المناطق الحضرية واجتثاثها لاحقًا. ومع ذلك، تقع خاركيف مباشرة عبر الحدود من روسيا، وهي تقاطع رئيسي للطرق والسكك الحديدية. وإذا لم تسيطر القوات الروسية على خاركيف، فسوف تقلل بشكل خطير من قدرتها اللوجستية على دعم التقدم المركزي الأوسط نحو نهر دنيبر وما وراءه. وعلاوة على ذلك، تشكل كييف تحديًا مشابهًا؛ فباعتبارها عاصمة للأمة، تتمتع هذه المدينة بقيمة رمزية كبيرة لأي جانب يحتفظ بها. وقد تكون روسيا غير قادرة على تجنب خوض قتال حضري مستمر في العديد من المناطق الحضرية الكبرى (والخسائر الكبيرة الناتجة عن ذلك) إذا حاولت أكثر من مجرد توغل عقابي في أوكرانيا.
القيادة والسيطرة:
هناك تعبير روسي شائع يقول: “أول طبق بليني يُصنَع دائمًا ما يكون فوضى كاملة”. وفي حالة غزو أوكرانيا، ستنفذ روسيا أكبر عملية أسلحة مشتركة لها منذ معركة برلين في العام 1945. وقد شهدت الحرب الروسية الجورجية في العام 2008 خمسة أيام فقط من القتال واشترك فيها 70.000 جندي روسي. وفي سورية، شملت قوات المناورة الأساسية وحدات برية سورية، بمساعدة حزب الله اللبناني، وقوات ميليشيات من دول مجاورة مثل العراق وأفغانستان، وشركات عسكرية خاصة مثل مجموعة “فاغنر”، وفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإسلامي الإيراني. لكن روسيا لم تنشر أعدادًا كبيرة من القوات التقليدية. والآن، يتم حشد ما يقرب من 120 ألف جندي روسي بالقرب من أوكرانيا، مع استعداد عشرات آلاف آخرين للانتشار والمشاركة في القتال. وسيكون تحديًا للقيادة والسيطرة الروسية أولاً تحريك جميع هذه القوات إلى مواقع الهجوم الخاصة بها مع الحفاظ على الانضباط المناسب خلال التقدم. كما سيكون من الصعب أيضًا على روسيا الحفاظ على هذا الانضباط أثناء الهجوم حتى لا تتحول الكميات الهائلة من المركبات والجنود الذين يتحركون على عدد محدود من الطرق الزلقة والسيئة، وغالبًا في الليل، إلى ازدحام مروري هائل.
سوف يشكل تنسيق الهجمات المحمولة جواً والبرمائية تحديًا إضافياً أمام القوات الروسية. بينما يمكن إسقاط القوات المحمولة جواً على طول نهر دنيبر للاستيلاء على الجسور الحاسمة، إلى متى ستكون هذه القوات قادرة على الصمود بينما تحاول القوات المدرعة الوصول إليها والالتقاء بها عبر الطرق الشتوية؟ وينطبق الأمر نفسه على القوات البرمائية التي تحاول الالتفاف على الدفاعات الأوكرانية بالقرب من ماريوبول أو الاستيلاء على أوديسا. وتوفر هيدروغرافيا البحر الأسود والطبوغرافيا الساحلية القليل من مواقع الإنزال الجيدة للقوات البرمائية، وبمجرد هبوطها، سيكون من الصعب على هذه القوات الاحتفاظ بهذه المواقع. ومن دون التنسيق المناسب والتقدم السريع للقوات المدرعة، يمكن أن يصبح أي إنزال جوي أو برمائي، كجزء من الغزو، “جسراً أو شاطئاً بعيداً جدًا” بالنسبة للقوات الروسية.
كما أن للجيش الروسي خبرة محدودة في تنسيق عمل عدد كبير من الطائرات التي ستدعم الهجوم البري. ولا تمكن مقارنة العمليات الجوية الروسية في سورية والشيشان بعدد الطلعات الجوية التي يمكن أن تكون مطلوبة في أوكرانيا عبر جبهة ربما يبلغ عرضها مئات عدة من الأميال. وستكون هذه هي المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التي تواجه فيها القوات البرية الروسية خصمًا آلياً حديثًا، وستواجه قواتها الجوية خصمًا يمتلك قوة جوية حديثة ونظام دفاع جوي متطورا. وبالتالي، من المرجح أن تواجه القوات الروسية تحديات ملحوظة في القيادة والسيطرة والاتصالات والتنسيق.
اللوجستيات:
من المرجح أن يكون الهجوم الأولي مدعومًا جيداً بالمدفعية والدعم الجوي، ما يؤدي إلى العديد من الاختراقات في الدفاعات الأوكرانية. ومع ذلك، بمجرد أن تستهلك الوحدات القتالية مخزونها الأولي من الذخيرة والوقود والطعام، سيبدأ الاختبار الحقيقي للقوة العسكرية الروسية -بما في ذلك قدرة روسيا على الحفاظ على تقدم قوة آلية ضخمة على مدى مئات الأميال من الأراضي. وتقع معابر كييف ونهر دنيبر على بعد 150 إلى 200 ميل على الأقل من الحدود الروسية، وسوف يحتاج الجيش الروسي إلى أيام عدة على الأقل من القتال للوصول إليهما. وقبل ذلك، سيتعين على الروس بلا شك إعادة الإمداد والتزود بالوقود واستبدال الخسائر القتالية للرجال والمواد مرة واحدة على الأقل، الأمر الذي سيتطلب توقفاً عملياتياً قصيراً.
في مقالته المعنونة “إطعام الدب”، يجادل أليكس فيرشينين بأن هناك تحديات لوجستية خطيرة تقف أمام غزو روسي من المفترض أن يتدحرج على طول دول البلطيق في 96 ساعة بحيث يضع الغرب أمام الأمر الواقع. لقد صنعت روسيا آلة حرب ممتازة للقتال بالقرب من حدودها والضرب عميقاً بالنيران بعيدة المدى. ومع ذلك، قد تواجه روسيا مشكلة في هجوم بري مستدام بعيدًا عن خطوط السكك الحديدية الروسية من دون توقف لوجستي كبير أو تعبئة ضخمة للاحتياطيات. ولأن العمق العملياتي في أوكرانيا أكبر بكثير من دول البلطيق، فإن غزواً روسياً لأوكرانيا يمكن أن يكون شأناً أطول أمداً بكثير مما يتوقع البعض بسبب الوقت والمسافة اللازمين لجلب الإمدادات. وإذا لم يتم الانتهاء من الغزو بسرعة بسبب مزيج من الطقس، واللوجستيات، والمقاومة الأوكرانية، فكيف يمكن أن يؤثر ذلك على الروح المعنوية الروسية؟
المعنويات:
هناك مستويان من المعنويات على كل من الجانبين، واللذان تجب مراعاتهما: الروح المعنوية للجنود الأفراد؛ والروح المعنوية لكل دولة وشعبها. على المستوى الفردي، هل ستكون للجندي الأوكراني الذي يعتقد بأنه يقاتل من أجل وطنه ميزة على الجندي الروسي الذي قد تختلف دوافعه للقتال؟ وبالنسبة للأمة الأوكرانية ككل، ما مدى قوة إحساس الناس بهويتهم الوطنية الفريدة للمقاومة وخوض ما يمكن أن يكون صراعًا طويلاً ومدمراً ودموياً؟ لا يمكن معرفة الإجابات إلى أن تبدأ الحرب. ومع ذلك، في حالة اندلاع الحرب، سيكون الوقت أحد العوامل التي تؤثر على الروح المعنوية. كلما طالت مقاومة الجيش الأوكراني للروس، زادت ثقته بنفسه وكذلك معرفته المؤسسية بكيفية محاربة هذا العدو. وإضافة إلى ذلك، كلما طال استمرار الحرب، زاد مستوى الدعم الدولي وزادت فرصة زيادة عمليات نقل الأسلحة للمساعدة على قلب وجهة المد في ساحة المعركة.
وبالنسبة لروسيا، كلما طال أمد الحرب وزادت الخسائر، زادت فرصة تقويض الروح المعنوية الروسية من مستوى الجندي الأساسي إلى المجتمع الروسي الأوسع. ويتكون ما يقرب من ثلث القوات البرية الروسية من المجندين لمدة عام واحد. ويخدم هؤلاء المجندون جنبًا إلى جنب مع الجنود المحترفين، أو kontraktniki، في ظل نظام من الإساءات والإخضاع وسوء المعاملة التي يمارسها الضباط الكبار ضد المجندين، والمعروف باسم dedovshchina. وهذا النظام سيئ السمعة بسبب انتهاكاته التي تصل إلى حد القتل، والتي يمكن أن تضعف تماسك الوحدة العسكرية. وإضافة إلى ذلك، ستحتاج الخسائر الفادحة إلى إجراء عمليات استبدال سريعة، وسيكون جنود الاحتياط الذين يتم إحضارهم لتعزيز وحدات الخطوط الأمامية قد تلقوا تدريبات قليلة في فترة قصيرة. ومع انخفاض عدد الجنود المحترفين بسبب الإصابات، وزيادة جنود الاحتياط والمجندين على خط المواجهة، سترتفع فرصة ضعف تماسك الوحدات على مستوى الجندي. وإذا تصاعدت الخسائر، وحتى الهزائم، فقد تنعكس مشاكل التماسك على الجبهة في شكل اضطرابات جماهيرية في الوطن.
يعلم كل حاكم للكرملين أن إحدى أسرع الطرق لإنهاء سلالة أو نظام روسي هي خسارة حرب. في حين كانت التقييمات السوفياتية المبكرة للحرب في أفغانستان مفعمة بالأمل، فإنها أصبحت قاتمة في نهاية المطاف. وفي اجتماع المكتب السياسي في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1985، على سبيل المثال، قرأ الزعيم السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، رسائل من مواطنين سوفيات يعربون فيها عن استيائهم المتزايد من الحرب في أفغانستان -بما في ذلك “حزن الأمهات على أبنائهن الموتى والمقعدين” و”الأوصاف التي تدمي القلب” للجنازات. وعلى مدار الحرب، قُتل ما يقرب من 15.000 جندي سوفياتي، وأصيب 35.000 آخرون.
من المؤكد أن العائلات الروسية ستستاء من استخدام جنودها كوقود للمدافع، وسيؤدي التواجد الكثيف لكاميرات الهواتف المحمولة ومقاطع الفيديو في عالم اليوم إلى توسيع مواطن شكوى الجنود إلى ما وراء وحداتهم. ولذلك، فإن السؤال المطروح على الكرملين سيكون: كلما طال أمد الحرب واستجاب المجتمع للخسائر والضغط الاقتصادي، كم ستكون قيمة أهدافه الأولية قياساً بهذه التداعيات؟
رد الولايات المتحدة والغرب
إن أوكرانيا تريد القتال من أجل نفسها هي أوكرانيا تستحق الدعم. وفي حين أن أوكرانيا 2022 ليست ديمقراطية مثالية، فإن بولندا لم تكن كذلك أيضاً في العام 1939 عندما قررت بريطانيا وفرنسا أن مبادئهما ومصالحهما الأمنية جعلت من الضروري رسم خط ضد العدوان النازي على حدودها. وسيكون المفتاح لإحباط الطموحات الروسية هو منع موسكو من تحقيق نصر سريع ورفع التكاليف الاقتصادية والسياسية والعسكرية عليها من خلال فرض العقوبات الاقتصادية، وضمان عزلتها السياسية عن الغرب، ورفع إمكانية قيام تمرد أوكراني طويل يكون من شأنه إنهاك الجيش الروسي وطرده. في هذه الحرب، قد تمتلك روسيا أجهزة قياس الوقت، لكن الغرب وأوكرانيا ربما يكون لديهما الوقت.
يجب أن يكون هدف واشنطن هو ردع العمليات التقليدية الروسية في أوكرانيا عن طريق العقاب -وليس الحرمان. ويتضمن الردع بالحرمان منع خصم من اتخاذ إجراء ما، مثل الاستيلاء على الأراضي، بجعل ذلك الإجراء غير مجدٍ أو من غير المرجح أن ينجح. وفي غياب انتشار عسكري أميركي وأوروبي كبير في أوكرانيا، وهو الذي استبعده الرئيس الأميركي جو بايدن بالفعل لأن أوكرانيا ليست عضوًا في الناتو، لا يمكن للقوات الأوكرانية منع انتشار سريع للقوات الروسية في أوكرانيا. ومع ذلك، ينطوي الردع بالعقاب على منع الخصم من اتخاذ إجراء لأن التكاليف -مثل الأسلحة النووية، والعقوبات الاقتصادية، أو احتمال قيام تمرد- ستكون باهظة للغاية. وسيكون الردع بالعقاب ممكناً إذا قادته الولايات المتحدة. يجب على الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها الأوروبيين الاستمرار في إبلاغ موسكو، في السر والعلن، بأن هجومًا تقليديًا على أوكرانيا من شأنه أن يتسبب في فرض عقوبات شديدة مُقعِدة من الدول الغربية، ويعمق عزلة روسيا السياسية عن الغرب، ويؤدي إلى قيام تمرد مدعوم من الغرب ضد القوات الروسية في أوكرانيا. وسوف يترتب على الولايات المتحدة أن تأخذ زمام المبادرة. فقد أشار سكان العديد من الدول الأوروبية، مثل ألمانيا والنمسا، إلى أنهم يفضلون البقاء على الحياد في حال نشوب حرب مع روسيا.
أما إذا فشل الردع وقامت القوات الروسية بغزو أوكرانيا، فيجب على الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها اتخاذ خطوات فورية عدة:
تطبيق عقوبات اقتصادية ومالية قاسية ضد روسيا، بما في ذلك عزل البنوك الروسية عن نظام رسائل الدفع الإلكتروني العالمي المعروف باسم “سويفت” SWIFT.
سن قانون “إعارة وتأجير” للقرن الحادي والعشرين، والذي يتيح تزويد أوكرانيا بالعتاد الحربي من دون تكلفة. ويمكن أن تشمل المواد ذات الأولوية أنظمة الدفاع الجوي، والدبابات والسفن؛ والحرب الإلكترونية وأنظمة الدفاع السيبراني؛ وذخائر الأسلحة الصغيرة والمدفعية؛ وقطع غيار المركبات والطائرات؛ والبترول والزيوت ومواد التشحيم؛ والحصص الغذائية؛ والدعم الطبي؛ وغيرها من احتياجات الجيش المشارك في القتال المتواصل. ويمكن تقديم المساعدة من خلال الوسائل العلنية بمساعدة القوات العسكرية الأميركية، بما في ذلك قوات العمليات الخاصة، أو يمكن أن تكون عملاً سريًا يأذن به الرئيس الأميركي وتقوده وكالة المخابرات المركزية.
توفير المعلومات الاستخبارية للسماح لأوكرانيا بتعطيل خطوط الاتصالات والإمداد الروسية، فضلاً عن التحذير من الهجمات المحمولة جواً وبرمائياً ومواقع جميع الوحدات الرئيسية.
تقديم الدعم الإنساني لمساعدة أوكرانيا على التعامل مع اللاجئين والمشردين داخليًا. وقد تحتاج هذه المساعدة أيضًا إلى أن تمتد لتشمل حلفاء الناتو على حدود أوكرانيا وتُقدم للاجئين الفارين باتجاه الغرب.
توفير الدعم الاقتصادي، بما في ذلك الطاقة، لأوكرانيا وحلفاء الناتو بسبب التعطيل المتوقع لتدفقات الغاز الروسي إلى أوروبا.
تفعيل إجراءات الدبلوماسية العامة والبث الإعلامي إلى أوكرانيا والعالم، بما في ذلك في روسيا، لتصوير ما يحدث بدقة.
ممارسة ضغط دبلوماسي على بيلاروسيا لحرمان روسيا من الوصول إلى أراضيها لمهاجمة أوكرانيا. وهذا مهم للغاية لأنه سيكون من شأن استخدام روسيا للسكك الحديدية وشبكات الطرق في بيلاروسيا أن يهدد بحدوث تحول استراتيجي في الجناح الشمالي لأوكرانيا.
التنسيق مع المنظمات غير الحكومية والمحكمة الجنائية الدولية لتوثيق جميع جرائم الحرب التي تُرتكب بحق الشعب الأوكراني والمطالبة بالتعويض بمجرد انتهاء الحرب. لا يجب أن يتكرر ما حدث للشعب السوري مرة أخرى.
يجب أن تكون الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مستعدين لتقديم دعم طويل الأمد للمقاومة الأوكرانية بغض النظر عن الشكل الذي ستتخذه هذه المقاومة في نهاية المطاف. وكان هناك بالفعل نقاش عام حول دعم الحرب غير التقليدية لأوكرانيا في حالة احتلال جزء منها أو احتلالها بالكامل. ومع ذلك، يجب التعامل مع هذا الخيار بفهم واضح لما يمكن تحقيقه -وما قد لا يكون تحقيقه ممكنًا. لقد أثبتت روسيا، تاريخياً، أنها بارعة في تدمير حركات المقاومة المسلحة، وإذا مُنحت الوقت الكافي، سيمكنها القيام بذلك مرة أخرى.
وسوف تكون أساليبها ضد المقاومة الأوكرانية سريعة ومباشرة ووحشية. يمكن أن يكون أي ملاذ تستخدمه المقاومة، سواء أكان في أراضي أوكرانيا أو الناتو، عرضة لهجمات روسية سرية أو علنية. ولذلك، سيتطلب الأمر حماية توفرها قوات تقليدية كبيرة لردع الأعمال الروسية في أراضي الناتو. وعلاوة على ذلك، فإن أي جزء من حدود أوكرانيا قد تحتله روسيا يمكن أن يشبه بسرعة الستار الحديدي للقرن العشرين، والذي تميز بالتحصينات الثقيلة. كان جدار برلين عبارة عن حاجز خرساني شديد الحراسة، يتضمن خنادق مضادة للمركبات، وسياجاً شبكياً، وأسلاكاً شائكة، وفراشاً من المسامير، ودفاعات أخرى. وسيكون من الصعب إنشاء خطوط إمداد للمقاومة عبر مثل هذه العقبة من أي مكان.
بينما كان الروس بارعين في العمليات المناهضة للمقاومة، فإنهم ليسوا بارعين في القضاء على القومية. يجب أن يتضمن أي دعم لأوكرانيا المحتلة أيضًا وسائل للحفاظ على الهوية الوطنية الأوكرانية وتاريخها ولغتها بين مواطنيها. وفي حين أن المقاومة المسلحة يمكن أن تتلقى شيئاً يشبه دعم الثمانينيات المقدم للمجاهدين الأفغان، فإن هذا النوع من الدعم للحفاظ على الأمة الأوكرانية سيكون أكثر تماشياً مع المساعدة التي كانت تُقدم إلى حركة “التضامن” البولندية خلال نضالاتها من أجل الحرية.
إضافة إلى ذلك، هناك احتمال لأن تتمكن أوكرانيا من منع روسيا من الاستيلاء على كل أو معظم أراضيها بمساعدة الولايات المتحدة وغيرها من المساعدات الدولية. على سبيل المثال، يمكن أن تُبقي أوكرانيا معظم قوات المناورة لديها في الخلف بعيدة بما يكفي عن الاختراقات الروسية الأولية حتى لا يتم تطويقها. ومع تقدم القوات الروسية غربًا، يجب أن تحصل أوكرانيا على معلومات استخباراتية لتحديد وجهات روسيا الرئيسية، وشن ضربات عميقة ضد خطوط إمدادها لإجبارها على وقف عملياتها، وبمجرد إيقافها، تقوم بتطويقها وشن الهجوم المضاد عليها. ويجب أن تصمد المدن لأطول فترة ممكنة. في حالة خاركيف، يجب تدمير خطوط السكك الحديدية والجسور داخل المدينة بشكل كامل قبل الاستسلام لزيادة تدهور خطوط الاتصال الروسية. وإذا اقترب الجيش الروسي من نهر دنيبر، فيمكن فتح سدوده المتعددة وغمر المناطق المنخفضة. ويجب عزل الهجمات المحمولة جواً وبرمائياً على الفور. يجب أن يكون هدف أوكرانيا هو منع روسيا من تحقيق أي تقدم كبير قبل بداية “راسبوتيتسا”، أو “ذوبان الجليد”.
بمجرد أن يتم إجبار الحركة الآلية على التوقف بسبب الطين ومشاكل الإمداد، يمكن القضاء على الجيوب المحمولة جواً والبرمائية، وسيكون لدى أوكرانيا الوقت الكافي لتعبئة ونشر قوتها الاحتياطية البالغ قوامها 900 ألف فرد. ونأمل بأن تبدأ المساعدات الدولية أيضًا في الوصول في شكل أنظمة أسلحة لمنع روسيا من تحقيق التفوق الجوي على أوكرانيا والسماح لها بمواصلة الضرب بعمق في مؤخرة الجيش الروسي لاستنزاف التعزيزات وخطوط الإمداد. ومع تحول الأسابيع إلى أشهر، يجب أن تبدأ العقوبات الاقتصادية والمالية الدولية في دخول حيز التنفيذ. وسيواجه الكرملين عندئذ حربًا طويلة، في ساحة المعركة وخارجها، مع القليل من النهاية في الأفق.
ستار حديدي جديد
يحمل الوضع الحالي شبهاً مخيفًا بصنع القرار السوفيياتي في العام 1979 لغزو أفغانستان. وفي تلك الحالة، اتخذت زمرة صغيرة في المكتب السياسي القرار من تلقاء نفسها بناءً على معلومات استخباراتية خاطئة، وتصورات بائسة للبيئة الدولية، وسيناريوهات نجاح مفرطة في التفاؤل، وفهم ضئيل للتكاليف السياسية والاقتصادية الدولية التي قد يواجهونها. ينبغي أن يؤدي أي حساب للمخاطرة مقابل المكافأة لتحقيق أهداف روسيا السياسية في أوكرانيا إلى ثنيها عن الغزو. وسيكون أفضل خيار لها هو الاستمرار في التهديد، ومتابعة المفاوضات الدبلوماسية، ومساعدة المتمردين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا -وإنما الإحجام عن القيام بغزو تقليدي. ومع ذلك، قدم الرئيس بوتين مطالب وتهديدات واضحة سيكون من الصعب للغاية أن يتراجع عنها. وإذا تغلب سوء التقدير والعاطفة وسوء إدارة الأزمة على الحسابات العقلانية وأدى إلى حرب تقليدية، فمن المحتمل أن يختبر المشهد الدولي تغييرًا دراماتيكياً.
في خطابه الشهير “الستار الحديدي” الذي ألقاه في 5 آذار (مارس) 1946، تحدث رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، ونستون تشرشل، بقتامة عن أن ثمة “ظلًا قد حل على مشاهد” أوروبا، والذي وضع الدول الديمقراطية في مواجهة الدول الاستبدادية. ولاحظ تشرشل: “من ستيتين في بحر البلطيق إلى ترييستي في البحر الأدرياتيكي، هبط ستار حديدي عبر القارة”. وسيكون “ستار حديدي” جديد، في حال نشأ، أكثر خطورة بكثير -وسيضم أوروبا، والشرق الأوسط وآسيا، وسيشكل محوراً جديداً من الأنظمة الاستبدادية يضم روسيا، والصين، وإيران وكوريا الشمالية. وسوف يتحرك هذا الخط الفاصل الجديد على طول حدود روسيا مع فنلندا ودول البلطيق بمحاذاة الجناح الشرقي لحلف الناتو؛ وسيشق طريقه إلى الدول المدعومة من روسيا وإيران في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، مثل سورية وكازاخستان؛ ويمتد متلوياً على طول حدود الصين مع الهند عبر شرق آسيا إلى بحر الصين الجنوبي. وإذا قامت روسيا بغزو أوكرانيا، فسوف تحتاج الولايات المتحدة والدول الأوروبية الأخرى إلى دفع الجنود والعتاد بسرعة إلى دول الجناح الشرقي لحلف الناتو -مثل لاتفيا، وليتوانيا، وإستونيا وبولندا- في حالة تهديد الروس بالتقدم غربًا. وقد تحاول روسيا أيضًا إثارة أزمة في واحدة أو أكثر من دول البلقان من أجل تشتيت وتوزيع الاهتمام والموارد الأميركية والأوروبية. وفي آسيا، من المرجح أن تكون تايوان في حالة تأهب تحسباً لتحركات صينية محتملة للاستيلاء على الجزيرة.
تُعجب دول مثل روسيا والصين بالقوة ولا تحترم الضعف -بما في ذلك الضعف العسكري. ويمكن أن تصبح المنافسة على نحو متزايد صراعًا بين الأنظمة السياسية والاقتصادية والعسكرية المتنافسة -بين الأنظمة الاستبدادية التي تسيطر عليها الدولة والأنظمة الديمقراطية. وتشكل اللاليبرالية الكامنة في جذور الأنظمة الصينية، والروسية، والإيرانية والكورية الشمالية النقيض لقيم التنوير الغربية. وتقمع هذه الدول حرية الصحافة، وحرية الدين، والأسواق الحرة والديمقراطية. وكما لاحظ توماس جيفرسون، فإن “حرية الدين؛ حرية الصحافة؛ وحرية الفرد… هذه هي مبادئ الكوكبة المشرقة التي سبقتنا ووجهت خطواتنا خلال عصر الثورة والإصلاح”. وكانت هذه المبادئ حاسمة في كسب الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، وهي لا تقل أهمية اليوم.
في خطابه “الستار الحديدي”، قال ونستون تشرشل: “إذا وقفت الديمقراطيات الغربية معًا في التزام صارم بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، فإن تأثيرها لتعزيز هذه المبادئ سيكون هائلاً وليس من المرجح أن يتحرش بها أحد. ومع ذلك، إذا انقسمت أو تلكأت في أداء واجباتها، وإذا سُمح لهذه السنوات بالغة الأهمية بأن تنسرب، فإن الكارثة في الحقيقة ربما تجتاحنا جميعاً”. نأمل بأن يسود العقل في موسكو، وألا تقوم روسيا بغزو أوكرانيا. ومع ذلك، إذا كان هناك غزو، فيجب على الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها أن يكونوا مستعدين لمقاومة الاستبداد.
.
* فيليب جي. فاسيليفسكي Philip G. Wasielewski: تقاعد حديثاً بعد عمل دام 31 عاماً كضابط للعمليات شبه العسكرية في وكالة المخابرات المركزية.
*سيث جي. جونز Seth G. Jones: هو نائب الرئيس الأول ومدير برنامج الأمن الدولي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدوليةCSIS في واشنطن العاصمة، آخر كتبه “ثلاثة رجال خطرون: روسيا، والصين، وإيران وصعود الحرب غير النظامية” Three Dangerous Men: Russia, China, Iran, and the Rise of Irregular Warfare (دبليو. دبليو. نورتون، 2021).
*