فورين أفيرز: تمويل القوة النارية الأوروبية، هكذا يستطيع الاتحاد توظيف ثروته لتعزيز قدراته الدفاعية

فورين أفيرز 19-9-2025، داليبور روهاتش وإدواردو كاستييت نوغيس: تمويل القوة النارية الأوروبية، هكذا يستطيع الاتحاد توظيف ثروته لتعزيز قدراته الدفاعية
يدرك القادة الأوروبيون الآن أنهم بحاجة إلى الاستثمار أكثر في الأمن، وهم يعلمون أن القارة تحتاج إلى موازنات دفاعية أكبر لتمويل قدرات عسكرية أوسع وجيوش أكبر. وجزء من هذا الدافع يأتي من واشنطن التي دفعت هذا العام الأعضاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى الالتزام بإنفاق عسكري يعادل خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، منها 3.5 في المئة لتغطية الحاجات الدفاعية الأساسية مثل المعدات. لكن أوروبا مطالبة بالإنفاق دفاعاً عن أمنها هي أيضاً، في عالم لم يعد بإمكانها الاعتماد فيه بالقدر نفسه على المظلة الأميركية.
أما التحدي الحقيقي فيكمن في كيفية تنفيذ حشد عسكري فعال، فكثير من الدول الأوروبية مثقلة بأعباء ديون كبيرة وتكافح للسيطرة على إنفاقها على الرعاية الاجتماعية والمعاشات التقاعدية، مما يقيد قدرتها على المناورة المالية. ثم إن زيادة الموازنات لا تترجم تلقائياً إلى قدرات أكبر، فشراء مزيد من أنظمة الدفاع الأميركية، على سبيل المثال، قد يرضي واشنطن، لكنه سيكون وسيلة غير فعالة، وربما غير حكيمة، لتعزيز الأمن الأوروبي. كما أن صناعة الدفاع الأميركية تعاني تراكماً كبيراً في الطلبيات: إذ تبلغ فترة الانتظار للحصول على نظام دفاع صاروخي “باتريوت” جديد سبع سنوات، على سبيل المثال، والاعتماد على قاعدة صناعية أجنبية ينطوي أيضاً على أخطار: فإذا انخرطت الولايات المتحدة في صراع في مكان آخر، فمن غير المرجح أن تعطي الأولوية لصيانة الأنظمة الأميركية الصنع في أوروبا.
لذلك، يتطلب الحشد العسكري الجاد الاستثمار في إنتاج دفاعي أوروبي، إلا أن هذا ينطوي على عقبات أيضاً. فالقطاع الدفاعي الأوروبي يعاني التشرذم والتكرار غير المجدي في الإنتاج. ومع تعدد الشركات في دول مختلفة وإنتاجها أنماطاً متباينة من المعدات ذاتها، باتت القارة تمتلك ما يقارب ستة أضعاف ما لدى الولايات المتحدة من أنظمة أسلحة رئيسة مثل الطائرات المقاتلة والدبابات والمروحيات الهجومية. وقد رعت حكومات كثيرة شركات دفاع باعتبارها رموزاً وطنية، فيما ظل الإنتاج المشترك عبر الحدود نادراً. والنتيجة أن قلة قليلة من الشركات الأوروبية تدخل ضمن قائمة أكبر شركات السلاح في العالم، وهي قائمة تهيمن عليها الشركات الأميركية وبدرجة أقل الصينية، وحتى الشركات الأوروبية الكبرى مثل “تاليس” الفرنسية و”ليوناردو” الإيطالية و”راينميتال” الألمانية تبقى محدودة الحجم مقارنة بمثيلاتها الأميركية.
إن أي تقدم ملموس في القدرات الدفاعية الأوروبية يتطلب زيادة كبيرة ومنسقة في موازنات الدفاع، إلى جانب توسيع إمكان الوصول إلى رأس المال عبر الحدود الأوروبية، بما يسمح بتوسيع الصناعة العسكرية الأوروبية والحد من تشرذمها. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تتجاوز موازنة وزارة الدفاع 800 مليار دولار سنوياً، يذهب نحو 300 مليار منها إلى المشتريات. وفي المقابل، أطلق الاتحاد الأوروبي في مارس (آذار) مبادرة الدفاع “جاهزية 2030″، التي تستند إلى نحو 175 مليار دولار من القروض الميسرة التي تتيحها الدول الأعضاء، بهدف تعبئة ما يصل إلى 940 مليار دولار من الاستثمارات – معظمها من القطاع الخاص – في صناعة الدفاع الأوروبية. وإلى جانب ذلك، يتضمن المقترح المقبل لموازنة المفوضية الأوروبية تخصيص 150 مليار دولار إضافية للإنفاق الدفاعي على مدى سبع سنوات. غير أن هذه التعهدات، على ضخامتها، لا تزال غير كافية، كما أنها لا تعالج العقبات الجوهرية أمام الاندماج الصناعي. ومن دون معالجة هاتين المشكلتين، ستبقى فرص أوروبا محدودة للغاية في تعويض عقود من ضعف الإنفاق العسكري.
وبغرض منح الصناعة الأوروبية جرعة الدعم التي تحتاج إليها، يتعين على القادة الأوروبيين إطلاق العنان للقدرة الاستثمارية الهائلة للقارة، إذ يحتضن الاتحاد الأوروبي مدخرات خاصة بقيمة 39 تريليون دولار – أي أكثر من ثلاثة أضعاف ما هو موجود في الولايات المتحدة – معظمها محتفظ به في صورة عملات وودائع. وإن تحويل هذه الموارد إلى قدرات دفاعية سيتطلب من القادة الأوروبيين أن يزيلوا العوائق أمام الاستثمار، وينشئوا إطاراً تنظيمياً مشتركاً لسوق رأس المال الأوروبية، وأن يوفروا تمويلاً مشتركاً للمشاريع العسكرية. لا يوجد حل سريع لعجز الدفاع في القارة، لكن الإصلاحات الصحيحة يمكن أن تجعل أمن أوروبا مكلفاً بقدر يمكن تحمله.
جنباً إلى جنب
لا تنص القواعد الأوروبية التي تلزم المستثمرين بمراعاة الجوانب البيئية والاجتماعية والحوكمة عند اتخاذ قراراتهم التجارية صراحة على حظر الاستثمار في شركات الدفاع، لكن كثيراً من المستثمرين يتجنبون ذلك على أية حال. فصناعة الدفاع تعاني وصمة سلبية على صعيد السمعة لدى المصرفيين الأوروبيين والمؤسسات المالية وعملائهم، الذين قد يختارون استبعاد هذه الشركات من محافظهم الاستثمارية لتجنب انتقادات الرأي العام. كما أن أوروبا تفرض قيوداً مباشرة أشد من تلك المفروضة في الولايات المتحدة. وبحسب مركز “بروغل” للأبحاث في بروكسل، خضع 14 في المئة من الأصول التي تديرها مؤسسات استثمارية متخصصة في أوروبا لقيود على الاستثمار المرتبط بالأسلحة عام 2021، مقارنة بأقل من واحد في المئة في الولايات المتحدة.
ينبغي تشجيع الاستثمار الخاص في شركات الدفاع الأوروبية، لا تثبيطه. فالمستثمر الخاص لا يمكن إلزامه بالإنفاق على الأمن، لكنه قد يكون أكثر استعداداً لفعل ذلك إن بادرت مؤسسات عامة مؤثرة، مثل بنك الاستثمار الأوروبي، إلى لعب هذا الدور. على مدى أكثر من عقدين، حظر البنك الاستثمار في قطاعات الدفاع والأمن. وفي مارس (آذار) خفف هذا الحظر ليسمح بالاستثمار في المشاريع ذات الاستخدام المزدوج، لكنه لا يزال يحظر الاستثمار المباشر في إنتاج الأسلحة والذخائر. كثير من هذه القيود مفروضة طوعاً، بالتنسيق مع المفوضية الأوروبية، ويمكن تغييرها بوجود إرادة سياسية كافية. ولو أن بنك الاستثمار الأوروبي، الذي تتجاوز موازنته العمومية 640 مليار دولار، منح الأولوية لمشاريع دفاعية على مستوى الاتحاد الأوروبي، مثل مقاتلة “يوروفايتر” أو “الدبابة المدرعة الرئيسة في أوروبا”، لأثبت للمستثمرين من القطاع الخاص أن استثمار الأموال في الدفاع الأوروبي أمر مشروع لا يبعث على الحرج.
سيقتضي توسيع الإنفاق الدفاعي أيضاً وجود سوق مالية أوروبية متكاملة، فالقارة تملك عملة موحدة بالفعل، لكن كل دولة عضو لا تزال تنظم نظامها المصرفي وصناديق تقاعدها الخاصة. ونتيجة لذلك، تميل المدخرات المتراكمة في أي بلد أوروبي إلى البقاء داخله بدلاً من التدفق طبيعياً إلى مناطق تحقق معدلات عائد أعلى، ويؤدي هذا الجمود إلى الحد من حجم سوق رأس المال الأوروبية وعمقها. أما في الولايات المتحدة، فمعظم تمويل الشركات الخاصة يأتي من سوق رأس المال (نحو 75 في المئة)، بدلاً من القروض المصرفية (نحو 25 في المئة)، مما يوفر وسيلة أسرع للحصول على السيولة مع تقليل الأخطار. وفي الاتحاد الأوروبي، الوضع معاكس تماماً، ولهذا تجد الشركات الناشئة وشركات الدفاع الأوروبية صعوبة في الحصول على التمويل اللازم للتوسع.
كما أن محدودية الوصول إلى رأس المال تقوض إمكانات الشركات الناشئة الأوروبية، وكما أظهرت أوكرانيا من خلال صناعة الطائرات المسيرة، فإن نظام المشتريات المرن واللامركزي ودورة الابتكار السريعة عناصر أساسية لإنتاج أسلحة الحروب الحديثة. وهذه الشروط الهيكلية غير متوافرة في أوروبا، كذلك لا تملك أوروبا صناعة لرأس المال المغامر (أو الأخطار) بحجم يكفي لدعم هذا النوع من الأسواق المبتكرة. وعلى رغم أن معدلات النجاح المبكر للشركات الناشئة متشابهة في كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فإن ضخامة صناعة رأس المال الاستثماري الأميركية، التي تفوق نظيرتها الأوروبية بستة أضعاف، تجعل الشركات الناشئة في أوروبا أقل قدرة على الحصول على تمويل كبير وموثوق، وبالتالي تكون فرص بقائها على المدى الطويل أقل.
إن إنشاء اتحاد الادخار والاستثمار في الاتحاد الأوروبي، الذي من شأنه أن يوجد إطاراً تنظيمياً موحداً في أوروبا، سيجعل تمويل شركات الدفاع التقليدية والناشئة أكثر سهولة. وقد طرح هذا المشروع للمرة الأولى في عام 2015، وأعيد إحياؤه في تقرير أصدره رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماريو دراجي عام 2024 حول القدرة التنافسية الأوروبية. وفي مارس (آذار)، قدمت المفوضية الأوروبية خطة لتحويله إلى واقع. وعلى رغم أنه ليس حلاً سحرياً يحول الأوروبيين إلى مستثمري رأسمال أخطار، فإن الاتحاد من شأنه أن يزيل العقبات التي تحول دون استثمار المواطنين الأوروبيين والصناديق والبنوك في مشاريع تتجاوز حدود بلدانهم، وأن يتيح لهم العمل على مستوى القارة بأكملها. ويتوافر حالياً زخم سياسي لإنجاز الاتحاد، مدفوعاً بتقرير دراجي وتقرير ثان أصدره عام 2024 رئيس وزراء إيطالي سابق آخر هو إنريكو ليتا، إذ اعتبر كلا التقريرين أن نقص الاستثمار هو العامل الرئيس وراء تباطؤ نمو الاتحاد الأوروبي. كما أن البنك المركزي الأوروبي دفع أيضاً باتجاه إقامة الاتحاد. والآن، يجب على مؤسسات الاتحاد الأوروبي الرئيسة أن تعمل جنباً إلى جنب مع القطاع المالي لإنجاز اتحاد الادخار والاستثمار خلال العام المقبل.
وأخيراً، ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يمول الإنفاق الدفاعي المشترك من خلال تمويل مشترك. ويمكن للمفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق الدفاع الأوروبي والبنوك المركزية الوطنية ووزارات الدفاع أن تسعى معاً إلى جمع نحو 950 مليار دولار، وهو المبلغ الذي أوصى دراجي بتوفيره (800 مليار يورو) لإحياء النمو الأوروبي. وقد ظل الاقتراض المشترك مثار جدل في أوروبا، إذ تختلف قدرة الدول الأعضاء على تحمل الأخطار عندما يتعلق الأمر بالديون، مما أدى إلى خلافات بين ألمانيا واليونان وهولندا وإسبانيا خلال أزمة اليورو. ومع ذلك، تبقى هذه أفضل وسيلة أمام القارة لجمع الأموال بسرعة من دون أن تتحمل الدول منفردة الأخطار المالية نفسها لو اقترضت المبلغ ذاته. وقد حصلت أدوات الدين السابقة على مستوى الاتحاد الأوروبي – مثل صندوق إنقاذ منطقة اليورو الذي أنشئ عام 2012، وصندوق التعافي من الجائحة – تاريخياً على أعلى تصنيف ائتماني، ولا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأن سند الدفاع الأوروبي سيكون مختلفاً. كما يمكن إبقاء الفائدة على هذا السند عند مستوى مقبول، في ظل بحث عدد من المستثمرين عن أصول آمنة في فترة من عدم اليقين الاقتصادي العالمي.
ومن شأن طرح مثل هذه السندات أن يعزز رأس المال المتاح حديثاً واستثمارات القطاع الخاص التي صارت ممكنة بفضل إنشاء اتحاد الادخار والاستثمار، ستعين هذه الخطوات مجتمعة شركات الدفاع على زيادة إنتاجها ومساعدة المبتكرين في تسويق منتجاتهم. وسيكون هناك حوافز لشركات الدفاع في كل أنحاء أوروبا من أجل توحيد جهودها الرامية لجذب مزيد من الاستثمارات، والحد من التشرذم في هذا القطاع.
إن إقامة رابطة دفاعية مشتركة والقيام بإصلاحات في الصناعات المصرفية والمالية في أوروبا من شأنهما معاً أن يسمحا بإعادة بناء دفاعات القارة، إذ أدى ضعف التنسيق على مستوى الاتحاد الأوروبي في سياسات الدفاع وإحجام الدول الأعضاء عن زيادة موازنات الدفاع إلى إبطاء تقدم القارة. والآن، ينبغي على القادة الأوروبيين أن يدركوا أن التحرك الجريء هو السبيل الوحيد للحفاظ على أوروبا آمنة وموحدة في مواجهة الأوقات العصيبة المقبلة.
داليبور روهاتش زميل أول في معهد أميركان إنتربرايز.
إدواردو كاستييت نوغيس هو مؤلف النشرة الإخبارية “الإمدادات الحرجة”.



