منوعات

عيسى قراقع: حنظلة يلتقي فاطمة في اعياد الميلاد في بيت لحم

عيسى قراقع 24-12-2025: حنظلة يلتقي فاطمة في اعياد الميلاد في بيت لحم

حنظلة هنا، فاطمة هنا، أعلنت ذلك إذاعة الجيش الاسرائيلي، حصار مشدد على مدينة بيت لحم ومحيطها، مداهمات وتفتيشات واعتقالات، استنفار أمني لإلقاء القبض على حنظلة وفاطمة اللذان خرجا من رسومات ناجي العلي ووصلا ساحة الميلاد، يحملان جرسا وصليبا وبندقية، ويدعوان الى صلاة ليست ككل صلاة.

جاءت فاطمة من غزة الذبيحة، تبحث عن حنظلة في المغارة أو في المقبرة او في السجون، ورأى الناس فاطمة الشهيدة، وفاطمة الأسيرة، وفاطمة المسلمة، وفاطمة المسيحية، فاطمة اللاجئة وفاطمة المرأة الصابرة والقوية، تلبس ثوبا فلسطينيا بالوان زاهية، وتلف حول عنقها كوفية.

في ساحة المهد، حيث يُفترض أن يولد الرجاء كل عام، يقف حنظلة حافي القدمين، يداه معقودتان خلف ظهره، وظهره للعالم، لا يصفّق للأضواء، ولا يلتفت إلى الاحتفالات التي تحاول أن تغطي صرخة الأرض، هنا في بيت لحم يلتقي فاطمة المرأة التي تتكرر في رسومات ناجي العلي، لا كاسمٍ عابر، بل كمعنى مكثّف للأم، وللوطن، وللجرح الذي يرفض أن يلتئم.

الطريق الى فلسطين ليست بالبعيدة ولا القريبة، أنها بمسافة الثورة، قال حنظلة وهو يجلس تحت شجرة الميلاد وينظر إلى غزة، كان قلقا على فاطمة والاولاد، وعندما التقيا نزل المطر غزيرا وهبطت النجمة من أعالي السماء، الماء والضوء والتراب والدم والبشارة.

لا تحزني يا فاطمة، المولود هذا العام نبي خرج من تحت الركام، يقول حنظلة، لم يمت اليسوع الفلسطيني تحت القصف والمشنقة، انظري هنا شعب يحيا ولا يفنى، يتجدد وينهض ويولد من وسط الموت الف مرة، انظري يا فاطمة، لقد عاد الاطفال من الخيمة ومن تحت الانقاض ومن الزنزانة، انظري هنا الراهب والشيخ والبائع والطفلة والآية والرسالة، انظري هنا صورة مروان البرغوثي يرفع يديه المقيدتين إلى الاعلى، هنا معجزة الزيت والزيتون والحجارة.

حنظلة هو الوعي الذي توقّف عند لحظة الطرد الأولى عام النكبة، عند سنّ العشر سنوات التي تجمّدت كي لا تكبر في عالمٍ مكسور وعدالة غائبة، وتراه ينكسر أكثر أمام الإبادة الدموية في غزة والضفة المحتلة، وفاطمة هي الحقيقة الواضحة التى لم تمسحها النيران والجرافات والمجازر المتكررة، امرأة تعرف أن الميلاد لا يأتي بلا ألم، وأن الفداء ليس استعارة، بل لحمٌ يُصلب يوميًا على أبواب المدن المحاصرة، في المخيمات والشوارع والحارات والمعسكرات والبيوت المدمرة.

بيت لحم في هذا الميلاد ليست أيقونة سياحية، بل مفترق لاهوتي بين الروح والجسد، يقول: كيف يُحتفل بالحياة في زمن الإبادة؟ وكيف يُعاد تعريف الميلاد حين تُحاصر المغارة بالدبابات، ويُقاس الفرح بقدرة الناس على البقاء أحياء حتى الصباح؟ حنظلة لا ينظر إلى الشجرة المضيئة، هو ينظر إلى الأطفال الذين صاروا أرقامًا، وفاطمة لا تحمل هدية، تحمل خبزًا وذاكرة أسماء، تبحث عن حليب أو رغيف أو رزمة حطب، وصيحة ميلاد مقبلة.

في رسومات ناجي العلي، فاطمة ليست امرأة فردية، بل أنثى المعنى: الأرض حين تُجرح وتنهب، والأم حين تصبر، واللغة حين تُختزل في موقف، هي الضمير الشعبي الذي يفضح الصمت العالمي، ويعرّي أخلاق السياسة المنحازة للمجرمين والقتلة، وحين تلتقي حنظلة، يتكوّن الثنائي الذي نجا من المحو والإبادة : حنظلة الشاهد التاريخي حارس الذاكرة، وفاطمة التي لازالت تنتصب شامخة، على صدرها مفتاح العودة، وقرطا على أذنها يشبه قنبلة ، كلاهما يرفضان التكيّف مع الجريمة، لا احد ينسى، يرفضان تحويل المأساة إلى خبرٍ عابر، وكلاهما يصليان هذه السنة صلاة منتصف الليل في الكنيسة، صلاة الحرية: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض المحبة والمسرة والدولة الفلسطينية المستقلة.

الميلاد هنا لا يُقرأ لاهوتيًا فقط، بل وجوديًا: ولادة الوعي في مواجهة آلة الموت، فالمسيح في هذا المشهد ليس صورة على جدارية، بل معنى المقاومة الأخلاقية: أن تقول “لا” في وجه الفاشية، وأن تحرس الإنسان من التحوّل إلى غبار وجثة متناثرة، لذلك يبدو حنظلة أقرب إلى شاهد القيامة المؤجّلة، وفاطمة أقرب إلى مريم التي تعرف أنها حامل بطفل الكون ومخاضات الانتقاصة.

تحت الإبادة وصوت الاسلحة، يصبح الفن محكمة، والكاريكاتور شهادة، والرمز فعل مقاومة، ناجي العلي لم يرسم الا ليحمي القلب واللغة، رسم ليُبقي العين مفتوحة، وفي بيت لحم نقرأ نشيدنا والوصية، وحين التقى حنظلة وفاطمة في المدينة كانت رؤيا: سقطت رواية السيف والمدفع دفعة واحدة، عادت الأفكار تمشى على قدميها، والميلاد إلى معناه الأصلي: انحياز الحياة ضد القتل والفناء، حياة حملناها يدا وعقيدة وومضة وأغنية.

بيت لحم مطوقة، الصلاة مطاردة، الف حاجز عسكري، برد وقصف وجوع وسجن ومستوطنة، اعدامات وعربدة، لكن حنظلة الفلسطيني خرج من الصوت والشظايا، وعانق فاطمة تحت الشجرة، قال لها: المسيح أسس دولته بعد ألفي سنة، بناها من من كلمة، على الحصى والصخور، تحدى هندسة الخراب الصارمة، قام حقا، واعاد للاطفال في غزة أجنحة الملائكة.

يا فاطمة: دقت ساعة الميلاد بين القدس والناصرة، والطير عادت من جروحنا والسحابات الماطرة، اطلبى الرحمة للشهداء، ولنسجد لهذه الأرض المقدسة، هذه ارض الملح والعسل والملجا، هنا الحب ينمو على جدار وعشبة يابسة، هنا ينام القمر على خديك ويبتسم من دمعة يائسة.

يا حنظلة: ارسم شجرة، ارسم عشرة، لون بستانك بالاخضر، لون رمانك بالاحمر، لون بالعنبر والحنة، لون بالاصفر ليمونة، لون بالزعتر زيتونة، لون بالوان الجنة، ارسم، وان منعوا عنك الدواء ارسم وطن، وان منعوا عنك الماء ارسم فلسطين، لا تساوم، ارسم، قاوم.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى