عياد البطنيجي: العزلة الاستراتيجية القاتلة: نهاية الغطاء الإقليمي وتحدي الوجود الجديد لحماس
عياد البطنيجي 4-12-2025: العزلة الاستراتيجية القاتلة: نهاية الغطاء الإقليمي وتحدي الوجود الجديد لحماس
في خضم الترتيبات الجديدة التي تفرضها اتفاقية وقف إطلاق النار في غزة، لا يمكن للعين المدققة أن تغفل التحول الأكثر جوهرية الذي غيّر ملامح المشهد السياسي والأمني، وهو تحول لا يقتصر على الكشف عن هشاشة القدرات العسكرية لحركة حماس، بل يكمن في انهيار الرعاية والدعم الإقليمي الاستراتيجي الذي كانت تعتمد عليه الحركة لعقود. لقد انتهى عملياً “الدور الإقليمي الحاضن” الذي كان يوفر لحماس الغطاء السياسي، العمق اللوجستي، وشبكة الأمان التي تسمح لها بممارسة دورها، ليجد الكيان التنظيمي نفسه اليوم في مواجهة تحدٍّ وجودي حقيقي، يشدّ وثاق الخناق حوله بشكل استثنائي وغير مسبوق.
هذا التطور الجوهري لم يكن مجرد سحب لدعم عابر، بل يمثل إعادة تشكيل جذرية لمعادلة القوة والنفوذ في المنطقة، تضع الحركة أمام استحقاقات داخلية وخارجية بالغة الصعوبة وهي مكشوفة تمامًا، لا تستر عُري موقفها أي مظلة سياسية أو ورقة توت كانت في الماضي قادرة على إخفاء مواطن ضعفها المتزايدة.
1-تفكيك مفهوم “الرعاية الإقليمية” وانهيارها
لطالما اعتمدت حماس على نموذج فريد في العمل السياسي والمقاوم، يتطلب وجود ثلاثة مرتكزات أساسية لم يعد أي منها متاحًا بالزخم السابق:
أ. الرعاية اللوجستية والمالية
تاريخيًا، وفرت دول ومنظمات إقليمية موارد مالية ضخمة، وغطاءً آمنًا لقيادات الحركة في الخارج، ومسارات لوجستية معقدة لتمويل البنية العسكرية والمدنية في غزة. هذا الدعم لم يكن صدقة، بل كان استثمارًا سياسًا في ورقة ضغط إقليمية. اليوم، وفي ظل ضغوط دولية وتباين في الأولويات الإقليمية، تضاءلت هذه القنوات بشكل حاد. فاللاعبون الإقليميون، الذين يواجهون تحديات أمنية واستراتيجية بفعل الضغوط الأمريكية، أصبحوا أكثر حذرًا وترددًا في المجاهرة أو الاستمرار في هذا النوع من “الاحتضان الاستراتيجي”، مفضلين الابتعاد عن أي تصعيد يمكن أن يعرض مصالحهم للخطر.
ب. الغطاء السياسي والدبلوماسي
كان هذا الغطاء بمثابة “صوت حماس” في المحافل الدولية والإقليمية، يعمل على تلطيف صورتها، وتبرير عملها، وفتح قنوات تواصل غير مباشرة مع القوى الفاعلة في المنطقة. مع تزايد وتيرة التطبيع بين دول عربية وإسرائيل، وتغير الأولويات الإقليمية نحو “الاستقرار” و”التنمية الاقتصادية”، أصبح هذا الغطاء مهترئًا وغير فعال. فبعض الدول التي كانت تستضيف أو تدعم حماس باتت مطالبة بـ “تجميد” هذا الدور أو تقليصه كجزء من صفقات إقليمية أوسع، ما يجعل الحركة معزولة دبلوماسيًا.
ج. الامتداد التنظيمي (الإخوان المسلمون)
يمكن الإشارة إلى أن الامتداد الفكري والتنظيمي لحركة الإخوان المسلمين لم يعد يشكل خيارًا متاحًا بالزخم السابق. هذا التنظيم الدولي كان يوفر شبكة واسعة من الدعم البشري والمالي والسياسي العابر للحدود. لكن مع تراجع نفوذ التنظيم وتصنيفه كجماعة محظورة في عدة دول عالمية وإقليمية رئيسية، تضاءل هذا الشريان الحيوي بشكل كبير، لتجد حماس نفسها كيانًا محاصرًا جغرافيًا وعضويًا لا يستمد قوته من محيطه الأيديولوجي العابر للقارات كما كان في السابق.
2-تداعيات العزلة على الوضع الداخلي في غزة
إن فقدان شبكة الأمان الإقليمية لا يهدد القيادة السياسية فحسب، بل يلقي بظلاله الكئيبة على قدرة الحركة على البقاء والتعافي داخل غزة.
أ. تحدي “اليوم التالي” والحكم
لطالما اعتمدت حماس على الدعم الإقليمي ليس فقط في بناء القوة العسكرية، بل في إدارة القطاع المحاصر. فغض الطرف الإقليمي عن قنوات التمويل غير الرسمية وغير الرسمية سمح للحركة بالقيام بمهام الحكم المدني. الآن، ومع تشديد الرقابة وتجفيف منابع التمويل الخارجية كجزء من أي ترتيبات دولية أو إقليمية جديدة، تصبح قدرة حماس على توفير الخدمات الأساسية محل شك كبير. هذا يضعها في مواجهة مباشرة مع الشعب الذي يحكمه، ما يهدد قاعدتها الشعبية على المدى الطويل، خاصة في ظل الدمار الواسع والحاجة الملحة لإعادة الإعمار.
ب. الضغط على الجناح العسكري
إن نزع السلاح أو تحييد القوة العسكرية لحماس هو شرط إسرائيلي ودولي أساسي لأي تسوية مستقبلية. في السابق، كانت الرعاية الإقليمية توفر هامشًا للمناورة لرفض هذه الشروط. أما اليوم، ففي ظل العزلة، يصبح الرفض المطلق لهذه المطالب خيارًا انتحاريًا لأنه لن تكون هناك قوة إقليمية مستعدة لـ “كسر العظم” نيابة عن الحركة. هذا يجعل حماس تحت ضغط هائل لإعادة تعريف مفهومها للمقاومة، والبحث عن صيغة لا تعتمد على المواجهة العسكرية الشاملة، أو القبول بـ “تجميد” سلاحها.
ج. تهميش الدور الفلسطيني الموحد
بالرغم من الدعوات المتكررة لوحدة الصف الفلسطيني، إلا أن العزلة الإقليمية لحماس تعني عمليًا تجميد أي جهود مصالحة حقيقية قد تضمن دمج الحركة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك لعدم رغبة أي طرف إقليمي أو دولي في تقديم حماس كـ “شريك” في التسوية في ظل هذه الظروف. وبدلًا من ذلك، قد يتم الدفع نحو سيناريوهات حكم مؤقتة أو مدنية تهدف إلى تجاوز حماس بدلاً من دمجها.
3-حماس: العودة إلى نقطة البداية بلا أدوات
إن الحركة اليوم قد عادت إلى نقطة البداية، لكن هذه المرة دون أي أدوات أو منصات دعم كان يمكن الاعتماد عليها. حتى الامتداد الفكري والتنظيمي الذي كان يشكله تنظيم الإخوان المسلمين عبر الحدود لم يعد خيارًا متاحًا بالزخم السابق.
الخلاصة: إعادة تعريف القوة في زمن العزلة
التحول الأبرز الذي كشفته اتفاقيات وقف إطلاق النار ليس الكشف عن نقاط الضعف العسكرية فقط، بل تبيان فشل استراتيجية الرهان على المحاور الإقليمية كضامن للبقاء. لقد وضعت العزلة حماس أمام تحدي إعادة تعريف هويتها ودورها. في النهاية، يبدو المشهد أمام حماس اليوم أكثر صرامة وتعقيدًا من أي وقت مضى، حيث لم تعد تستطيع الاختباء خلف أي غطاء، وبات بقاؤها مرهوناً بقدرتها على التكيف مع واقع جيوسياسي جديد لم يعد فيه متسع لأدوارها السابقة.
مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook



