أقلام وأراء

عبد الغني سلامة: مغالطة «رجل القش»

عبد الغني سلامة 17-11-2025: مغالطة «رجل القش»

 

عندما تخوض حوارا مع أي شخص فإن أكبر خطأ ترتكبه هو محاولتك إقناعه بوجهة نظرك، وتغيير قناعاته.. سيُبحُّ صوتك، ولن تنال إلا الصداع وحمّة البال.. الحوارات في ثقافتنا ليست بهدف التوصل إلى الحقيقة، أو محاولة فهم ما يجري، أو لتقريب وجهات النظر.. الحوارات خاصة حول القضايا المشحونة عاطفياً عبارة عن معركة، الهدف منها هزيمة الشخص المقابل، أو استعراض ما لدى كل طرف من معلومات، أو هي مباراة في الكلام، وهي أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني أو محاولة كل طرف تفهم وجهة النظر الأخرى.

حتى لو لم تكن طرفاً في النقاش، إذا كنت تستمع لحوار بين شخصين ستمارس الخطأ نفسه؛ ستنحاز تلقائيا لمن يشبهك في التوجه والفكر، يعني «اللي من جماعتك».. وسترفض كل ما يقوله الطرف الثاني بصرف النظر عن مدى صحته.. وإذا كان الموضوع جديدا عليك، وليس لديك أفكار مسبقة عنه (خبر عاجل، أو إشاعة مثلا) ستصدق أول تحليل تسمعه أو تقرؤه، خاصة إذا لامس عواطفك، ومن بعدها سترفض أي تحليل آخر.. لأننا اعتدنا الانحياز لأحكامنا وتصوراتنا المسبقة، وللشعارات التي حفظناها سابقا. السؤال لماذا يحصل هذا الشيء؟

لأننا نحب أن نبقى في مساحتنا المريحة، كل ما نشأنا عليه، وما حفظناه وتلقيناه شكّل أفكارنا وتصوراتنا ومفاهيمنا، التي صارت معيارنا للحكم على كل شيء، وهذه الأفكار استقرت في عقلنا الباطن، وصارت جزءاً من تكويننا النفسي، تمنحنا الشعور بالراحة والطمأنينة، وتجعلنا نعتقد أننا فاهمون وخاتمون للعلم.. وبالتالي أي زحزحة أو خلخلة لهذه الأفكار تعني هزاً عنيفاً للشخصية، لأننا نربط بين أفكارنا وشخصيتنا التي تمنحنا إحساسنا بوجودنا وقيمتنا وكرامتنا، وعليه فإنّ هزَّ تلك الأفكار والمفاهيم سيُفهم تلقائيا على أنه تعدٍ على الشخصية وعلى الكرامة.. ومن هنا يصبح الدفاع عن الأفكار المسبقة دفاعا عن الكرامة.. خاصة أننا نعتقد أن هزيمتنا في الحوار هزيمة شخصية تدعو للدفاع والثأر وليس لمحاولة الفهم وتصويب الأفكار.

هذا يفسر لماذا تغضب و»ينهز بدنك» حين تقرأ تعليقا لشخص يتعارض مع قناعاتك، فتبدأ بشتمه وشلِّ عرضه، رغم أنك لا تعرفه، وليس بينكما أي اتصال شخصي.

هزّ فكرة الشخص المقابل يعني دعوته لمغادرة أرضه المريحة، مغادرة الاطمئنان والأمان، والشروع بالتفكير.. التفكير يصرف طاقة تعادل 24% من الطاقة التي نصرفها في العمليات الأيضية، وهي عملية مرهقة ومتعبة، لذا نظرية المؤامرة والمقولات الغيبية والشعارات البراقة والوعود المؤجلة تعطي الإجابات المريحة وتصبح بديلا عن التفكير، من هنا كل إنسان يحاول قدر المستطاع تجنب التفكير واللجوء للتسليم بما هو حوله وما في داخله، أو التفكير العاطفي الرغبوي الذي يمنّي النفس ويريحها.

المشكلة أننا في دفاعنا عن أطروحاتنا لا نستخدم أسلوب النقاش التحليلي المبني على الحجة والبرهان وإمعان العقل، نلجأ للعواطف، وبالصوت العالي، ومهاجمة الخصم، وغالبا ما نقع في مصيدة المغالطات المنطقية. وأولها شخصنة الموضوع؛ نهاجم الشخص ولا نناقش الفكرة. سواء أكان هذا الشخص يجلس قبالتك، أم كان صاحب نظرية أودعها في كتاب، ونال عليها جائزة نوبل.. فمثلا قد تشكك في قانون الجاذبية، لأنّ نيوتن كان انتهازيا ويكيد لزملائه.

أو تقع في مغالطة أُخرى تسمى «مغالطة رجل القش»، وهي تخيّل وجود شخصية مصنوعة من القش يسهل هدمها أو تدميرها (مثل الفزاعة)، فتبدأ بمهاجمتها حتى سحقها، لتعطي انطباعا لخصمك أنك دحضت حجته (أفحمته، وأسكتّه)، في حين أن ما تم دحضه هو حجة لم يقدمها الخصم، وليس لها علاقة بالموضوع.. وهذه حيلة للتهرب من تحمل المسؤولية، والتهرب من مناقشة حجج ومقولات الخصم، والتنصل من تقديم إجابة حقيقية، لأنك في واقع الأمر عاجز عن ذلك، فلجأت إلى رجل القش وحطمته موهماً نفسك أنك انتصرت.  

في أغلب الأحيان نقع في هذه المغالطة للتحايل على الذات، قبل أن يكون ذلك تحايلا على الخصم أو الجمهور.. لأن من يفعل ذلك حقيقة هو عقلك اللاواعي، ودون تخطيط منك.. لذا البعض لا يحتاجون مفكرين وخبراء ومحللين سياسيين لإقناعهم.. يحتاجون علماء اجتماع وأطباء نفسيين لمعالجتهم.. خاصة من غسلت «الجزيرة» أدمغتهم.

الإعلاميون الشعبويون وغيرهم ممن يجيدون حيل المناورات لا يقعون في المغالطات المنطقية عن جهل، بل يمارسونها عن وعي، على سبيل المثال: في مؤتمر علمي، تقدمت شركة أدوية بطرح دواء معين، فجاء عالم من شركة أخرى وبيّن بالحجة والبرهان والأدلة أن هذا الدواء فيه أضرار جانبية خطيرة، وغير مفيد، وربما يؤدي إلى الوفاة.. فيقوم مندوب الشركة للدفاع عن دوائها باستخدام حيلة رجل القش، فيقول للعالِـم: من أنت حتى تشكك في دوائنا؟ إن شركتكم لا تلتزم بمعايير البيئة وتفتقر لإجراءات السلامة العامة، ولا تراعي حقوق العمّال.. فهل سيقبل المؤتمر ووزارة الصحة بهذه الحجة وتقول: طالما أن الشركة الفلانية تخالف قوانين البيئة فإن الدواء التي طرحته الشركة الأولى مقبول وسليم؟

لو طبقنا هذا المثال على حواراتنا الساخنة التي تدور رحاها، الآن، حول تداعيات حرب الإبادة على غزة، سنرى نادي مشجعي المقاومة في دفاعهم عنها يهاجمون السلطة و»فتح».. فبدلاً من محاولة تفّهم الواقع ومعطياته، وتحمّل المسؤولية، وإجراء مراجعة نقدية وتقييم الأخطاء والاعتراف بها بشجاعة.. عوضا عن كل ذلك يكون دفاعهم بالتهجم على السلطة: تنسيق أمني، خيانة، سلطة أوسلو، دايتون.. حسناً، لنفترض أن السلطة فاسدة ولعينة والدين، وما تقولونه صحيح، السؤال: ما علاقة هذا بالموضوع؟ وهل هذه حجة مقبولة وبرهان دامغ أن كل ممارسات «حماس» وما فعلته كان صحيحاً، وما تسببت به سواء أثناء الحرب أو المفاوضات أو التوقيع على خطة ترامب وغير ذلك من مواضيع كان صواباً مطلقاً؟ أم هذه حيلة للتهرب وإلقاء المسؤولية على أي طرف.. السلطة، الأنظمة العربية، خذلان الشعوب العربية، تآمر العالم، العربدة الأميركية.

نتآمر على أنفسنا حين نمعن في إنكار النتائج، ونرفض الاعتراف بأخطائنا، ولا نقر بأن حساباتنا كانت ارتجالية، ورهاناتنا وهمية، وأننا أدرنا الصراع بطريقة بدائية، وبعقلية حزبية مغلقة.. نتآمر على شعبنا حين نرفض تحمّل المسؤولية، ونهين ذكاءه إذا اعتقدنا أننا بألاعيب السياسة وبخطابات صوتية وشعارات متآكلة نستطيع الاستمرار في خداعه، وحُكمه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى