أقلام وأراء

رفيق خوري: توظيف متعدد الجبهات لثلاث أغلاط استراتيجية

رفيق خوري 27-8-2025: توظيف متعدد الجبهات لثلاث أغلاط استراتيجية

ليس في الصراع العربي- الإسرائيلي شيء خارج “لعبة الأمم”، من أوائل القرن الماضي إلى اليوم. ولا أحد يكتفي بالنظر إلى المشهد المباشر في المعارك ولا إلى ما على الورق من نصوص في التسويات. والكل يبدو في هذه المرحلة أسير رهانات مختلفة على القراءة في عملية “طوفان الأقصى” وحرب غزة و”حرب الإسناد” وحرب إيران. فلا الطوفان الذي زلزل إسرائيل كان مجرد عملية كبيرة متقنة في إطار الرد على حصار غزة واعتداءات الصهاينة على المسجد الأقصى المبارك، ولا حرب غزة هي مجرد رد تدميري إبادي على الطوفان. فعملية الطوفان كانت في حسابات يحيى السنوار ومحمد الضيف رهاناً على “بدء الزحف العربي والإسلامي نحو فلسطين”، وحرب غزة هي بالنسبة إلى بنيامين نتنياهو مرحلة في “تغيير الشرق الأوسط”.

لكن عملية الطوفان أخذت طابع مغامرة غير محسوبة، في حين أخذت حرب غزة طابع مغامرة محسوبة. ومجلة “ذا إيكونوميست” رأت أن “غلطة السنوار الكبيرة هي أنه أراد زلزالاً يعيد تشكيل الشرق الأوسط، وحصل عليه، ولكن الأمور سارت عكس الخطة”. ونتنياهو المدعوم أميركياً من الرئيس جو بايدن ثم الرئيس دونالد ترمب استخدم أقصى أنواع التوحش في توظيف ثلاثة أخطاء استراتيجية، غلطة السنوار في المواجهة قبل أن يكون الوضع العربي والإسلامي ناضجاً ومفاجأة حتى حلفائه بالعملية، وقبلها استراتيجية حركة “حماس” في الانقلاب على السلطة الوطنية والانفراد بحكم غزة، وغلطة “حرب الإسناد” التي أعطت إسرائيل فرصة لتوجيه ضربة شديدة إلى “حزب الله” واغتيال قائده التاريخي وقادة الصفوف الأولى والثانية والثالثة وتدمير الجنوب والضاحية وأجزاء من البقاع وفرض اتفاق رعته أميركا وفرنسا، وغلطة الاقتراب الإيراني من حافة الحصول على سلاح نووي والاعتداد بالاقتدار في الداخل وقوة الأذرع المسلحة التي أسسها في المنطقة.

المشهد اليوم يختلف جذرياً عما كان عليه قبل ثلاثة أعوام. أميركا بقيادة ترمب هي القوة الدولية الوحيدة التي تمسك باللعبة في الشرق الأوسط. وحكومة نتنياهو الأشد تطرفاً في تاريخ إسرائيل تضرب وتتوسع في لبنان وسوريا بعد سقوط النظام، تصر على إنهاء “حماس” وسلاحها في غزة وعلى قتل أي تفكير في استخدام القوة لتحرير فلسطين وسحب البساط الجغرافي من تحت التوجه الدولي المتصاعد نحو قيام دولة فلسطينية في إطار “حل الدولتين”. ففي مقالة مشتركة تحت عنوان “سراب حل الدولتين” كتب مارك لينش وشبلي تلحمي أنه “لا قاعدة في الواقع لفكرة ظهور دولة فلسطينية من دمار غزة”. ومن أجل القضاء على فكرة الدولة الفلسطينية مارس نتنياهو مقاربتين حيال “حماس” في غزة، واحدة هي دعم “حماس” واستمرار خلافها مع” فتح” كوصفة “ضد أية دولة فلسطينية” كما قال لوزرائه، وثانية هي تدمير غزة و”حماس” وعزل السلطة في رام الله، والتوجه نحو ضم الضفة الغربية بعد عملية الطوفان.

والسؤال في مواجهة حرب نتنياهو التي تشمل غزة والضفة ولبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران نفسها هو هل كان “اتفاق أوسلو” غلطة استراتيجية لياسر عرفات بحسب معارضيه أم بداية الخروج من الأخطاء في اتجاه البدء بوضع حجر الأساس للدولة؟ الأجوبة مختلفة، غير أن الجدل النظري عقيم. فالمهم هو ما يتحرك على الأرض وفي الكواليس، وما يتحرك على الأرض هو موافقة حكومة نتنياهو على احتلال غزة، وما يتحرك في الكواليس هو موجة الاعتراف الأوروبي بعد الآسيوي والأفريقي بالدولة الفلسطينية. والمعادلة الظاهرة بعد الطوفان هي “حماس” خسرت وقضية فلسطين ربحت. فـ”حماس” تعطي الأولوية للتمسك بغزة والسلاح على معاناة الغزيين الرهيبة قتلاً وجوعاً وقصفاً وتهجيراً متكرراً، وحكومة نتنياهو تعطي الأولوية لأهدافها الاستراتيجية في القطاع على حياة الرهائن. والمجتمع الدولي خرافة.

والتحدي ليس فقط إنهاء حرب غزة وتطور الدعم الدولي لقيام دولة فلسطينية في الضفة وغزة وعاصمتها القدس الشريف، بل أيضاً مواجهة التوسع الإسرائيلي في لبنان وسوريا بعد الضفة والقطاع ولعب أوراق ضغط حقيقية على ترمب لتغيير موقفه من الدعم المطلق لنتنياهو. وإذا كان المؤرخ اليهودي إيلان بابيه يسجل أن “الصهيونية الجديدة” تخطت “التقاليد الأكثر تطرفاً في سعي الإسرائيليين إلى الحصول على مبتغاهم في وقت قصير وممارسة التوحش اللامعقول”، فإن الحد الأدنى المطلوب عربياً هو التزام موقف عملي قوي يؤكد أن الاندفاع الإسرائيلي لمنع قيام دولة فلسطينية هو وصفة للفوضى في المنطقة واهتزاز إسرائيل وتنامي الأمواج الداعمة في عواصم العالم لـ”حل الدولتين”.

يروي المؤرخ توم سيغيف مؤلف “دولة بأي ثمن: حياة بن غوريون” أن بن غوريون قال في اجتماع للحكومة “لو كنت أؤمن بالعجائب لطلبت أن يبتلع البحر غزة”. وهذا ما عاد إسحق رابين إلى تكراره بالقول “أتمنى أن أستفيق من النوم وتكون غزة اختفت في البحر”، لكن احتلال غزة وابتلاع الضفة غلطة استراتيجية كبيرة، والهرب من غزة وأهلها وملايين الفلسطينيين في فلسطين والشتات هو مهمة مستحيلة. وليس قليلاً أن يبدو الجيش المستعد لاحتلال غزة خائفاً متردداً أمام شبان يظهرون فجأة من الأنفاق ويقومون بعمليات جريئة ضد المحتلين بعد عامين من الحرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى