د. وسيم وني: الدبلوماسية الفلسطينية تُربك إسرائيل وتعيد تموضع القضية دوليًا

د. وسيم وني 5-10-2025 الدبلوماسية الفلسطينية تُربك إسرائيل وتعيد تموضع القضية دوليًا
منذ إعلان الرئيس الراحل الشـ هيد ياسرعرفات قيام دولة فلسطين في الخامس عشر من نوفمبر عام 1988، خلال اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، شكّل ذلك الإعلان لحظة مفصلية في التاريخ السياسي الفلسطيني، لم يكن ذلك مجرد إعلان رمزي، بل كان خطوة مدروسة لوضع فلسطين على خارطة السياسة الدولية، وتحويل النضال الفلسطيني من حالة تحرر وطني إلى كفاح من أجل إقامة دولة ذات سيادة معترف بها.
وقد جاء إعلان الاستقلال حينها متزامنًا مع تصاعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وقد تضمن وثيقة الاستقلال التي صيغت بلغة قانونية وإنسانية رصينة، مستندة إلى قرارات الأمم المتحدة، وعلى رأسها القرار 181، لتمنح النضال الفلسطيني بعدًا قانونيًا دوليًا إضافيًا ، وقد تبع هذا الإعلان اعتراف فوري من أكثر من 70 دولة، ما شكل قاعدة أولية لمسار طويل من العمل الدبلوماسي الذي لا يزال مستمرًا حتى يومنا هذا.
فمنذ تلك اللحظة، بدأت القيادة الفلسطينية، ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم السلطة الوطنية الفلسطينية، في بناء علاقات دبلوماسية ممنهجة، هدفها تثبيت الكيانية السياسية الفلسطينية على الصعيد الدولي، وتحقيق الاعتراف العالمي بفلسطين كدولة تحت الاحتلال تستحق السيادة الكاملة ، وبالطبع هذا التوجه تصاعد مع مرور السنوات، خاصة بعد تعثرالمفاوضات وتراجع الأفق السياسي، لتصبح الدبلوماسية أداة استراتيجية أساسية في مواجهة السياسة الإسرائيلية القائمة على فرض الوقائع على الأرض، وتجاهل الحقوق الفلسطينية الثابتة.
وقد شكل الحصول على صفة “دولة غير عضو” في الأمم المتحدة من العام 2012 محطة مفصلية جديدة في تاريخ النضال الفلسطيني ، حيث فُتحت الأبواب أمام انضمام فلسطين إلى العديد من المنظمات الدولية، مثل اليونسكو ومحكمة الجنايات الدولية، ما منحها أبعادًا قانونية وسياسية مهمة، ومكّنها من مقارعة إسرائيل في المحافل الدولية ، إلا أن التحول النوعي الأكبر جاء في عامي 2024 و2025، حين شهد العالم موجة متتالية من الاعترافات الرسمية بالدولة الفلسطينية من قبل دول لطالما اعتُبرت حليفة استراتيجية لإسرائيل.
ففي العام 2024، أعلنت كل من إيرلندا، النرويج، إسبانيا، سلوفينيا، وجزر في البحر الكاريبي اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، وهو ما شكّل اختراقًا مهمًا في الموقف الأوروبي ، ثم في سبتمبر من العام 2025، وخلال انعقاد الدورة الـ 80 للجمعية العامة للأمم المتحدة، أعلنت كل من المملكة المتحدة، كندا، أستراليا، والبرتغال اعترافها الرسمي بفلسطين، وهو ما اعتُبر تحولًا جذريًا في المواقف الدولية ، كما وانضمت إليهم لاحقًا دول أخرى من أوروبا الغربية مثل فرنسا، بلجيكا، لوكسمبورغ، أندورا، مالطا، موناكو، وسان مارينو، لترتفع بذلك الدول المعترفة رسميًا بدولة فلسطين إلى أكثر من 159 دولة، أي ما يقارب 82% من أعضاء الأمم المتحدة، ما يعكس شبه إجماع دولي على عدالة قضيتنا الفلسطينية.
هذا الزخم الدبلوماسي لم يكن مجرد إنجاز رمزي، بل ساهم فعليًا في إرباك السياسة الإسرائيلية، وعزلها تدريجيًا على الساحة الدولية ، فقد خسرت إسرائيل الكثير من الدعم التقليدي من حلفاء غربيين، وبدأت تُعامل كدولة تخرق القانون الدولي بدلًا من أن تُقدَّم كنموذج ديمقراطي في الشرق الأوسط ، كما باتت تعاني من ضغوط متزايدة في المؤسسات الحقوقية والدولية، خاصة مع تزايد الدعوات للتحقيق في جرائم حرب، والضغط الشعبي المتصاعد في الغرب ضد الاحتلال والاستيطان ، فإسرائيل حاولت التصدي لهذا التمدد الفلسطيني عبر وسائل متعددة، كتشويه صورة القيادة الفلسطينية، وابتزاز الدول الصغيرة، والاعتماد على دعم غير مشروط من الولايات المتحدة، لكن الواقع أن مسار العزلة يتوسع، والشرعية التي كانت تتمتع بها بدأت تتآكل تدريجيًا مع تزايد الإعتراف بالدولة الفلسطينية .
ورغم هذه الإنجازات، لم يكن الطريق ممهَّدًا، إذ واجهت القيادة الفلسطينية العديد من التحديات، أبرزها الانقسام الفلسطيني، والذي شكل ورقة ضغط استخدمتها إسرائيل للتشكيك في شرعية التمثيل الفلسطيني، كذلك ما يزال الدعم الأمريكي لإسرائيل يمثل عائقًا أمام إصدار قرارات دولية مُلزمة، لا سيما في مجلس الأمن، حيث يُستخدم حق النقض (الفيتو) لحماية إسرائيل من المحاسبة الدولية ، بالإضافة إلى ذلك، فإن سيطرة الاحتلال على الأرض، والواقع الميداني في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، يفرغان الاعترافات من مضمونها العملي ما لم تترافق مع ضغط سياسي وقانوني واضح لتطبيق هذه الاعترافات على الأرض.
ومع ذلك، فإن القيادة الفلسطينية أثبتت خلال العقود الماضية أنها قادرة على المناورة السياسية والصبر الاستراتيجي ، فقد تمكّنت من الحفاظ على التمثيل الفلسطيني الشرعي رغم المؤامرات ومحاولات التهميش، وأدارت علاقات متوازنة مع مختلف القوى الدولية، وعملت على تحويل التعاطف الإنساني مع الشعب الفلسطيني إلى مواقف سياسية واعترافات قانونية ، ولولا هذا الثبات، ما كانت فلسطين لتحقق هذا الحضور الواسع في المحافل الدولية، ولا هذا التراكم في الإنجازات السياسية والدبلوماسية.
وختاماً لقد مثّل إعلان الرئيس الشهـ يد ياسر عرفات عام 1988 نقطة الانطلاق لواحد من أنبل المشاريع السياسية في العصر الحديث “مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة” ومنذ ذلك الحين، حملت القيادة الفلسطينية، رغم كل التعقيدات والانقسامات، هذا المشروع على عاتقها، وحوّلت الأمل إلى نضال دبلوماسي حقيقي أثمر اعترافات رسمية من غالبية دول العالم فهذه الاعترافات، وإن لم تُنهِ الاحتلال بعد، إلا أنها انتصار معنوي وقانوني كبير، وجزء من معركة طويلة الأمد لصالح العدالة والحرية ، ويحق لشعبنا الفلسطيني أن يفخر بقيادته التي واجهت التحديات بثبات، وأدارت المعركة الدبلوماسية بحكمة رغم الظروف الصعبة، ونجحت في إبقاء القضية الفلسطينية حيّة في وجدان العالم ودوائر قراره ، إن هذه الإنجازات الدبلوماسية ليست نهاية المطاف، لكنها شهادة على أن القضية الفلسطينية، بقيادتها وشعبها، قادرة على الصمود والارتقاء، وقادرة على مفاجأة خصومها، وإرباك حسابات الاحتلال، حتى تتحقق الحرية والاستقلال ودحر الاحتلال وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وعودة كل اللاجئين.