منوعات

د. منى أبو حمدية: في يوم الطفل العالمي… حين تُعتقل الطفولة خلف الأسوار

د. منى أبو حمدية 22-11-2025: في يوم الطفل العالمي… حين تُعتقل الطفولة خلف الأسوار

في يوم الطفل العالمي، تتزيّن الأرض عادةً بألوانٍ خفيفة، تشبه خفّة أقدام الصغار وهم يركضون نحو الحياة؛ يومٌ خُلِق ليكون عيداً للضحكة الأولى، للحلم الأول، وللعمر الذي يتلمّس خطواته نحو العالم.

لكن فلسطين، كما في كل عام، تقف على الطرف الآخر من الصورة؛ لا تحمل بالونات ولا أناشيد، بل تحمل سؤالًا موجعاً للضمير الإنساني:

كيف يمكن للطفولة أن تزدهر، وهي تُعتقل؟ وكيف يمكن للعالم أن يحتفل بالأطفال، بينما أطفالٌ آخرون يُقتادون إلى السجون؟

تقول مؤسسات الأسرى في بيانها إن الاحتلال يمارس تدميراً جسدياً ونفسياً بحقّ الأسرى الأطفال، وإن السنوات أثبتت أن الطفل الفلسطيني ليس على هامش الاستهداف، بل في مركزه.

ومنذ بدء الحرب، اعتُقل أكثر من 1,630 طفلًا من الضفة والقدس، إضافة إلى عشرات الأطفال من غزة الذين ما تزال أخبارهم مغيّبة بفعل الإخفاء والمنع من الزيارة.

ولعلّ المشهد الأقسى هو فقدان طفل أسير حياته داخل السجن جوعاً، في جريمة تهزّ كل ما تبقّى من معنى الإنسانية.

هذه ليست أرقاماً فقط؛ إنها حكايات مقطوعة، وأعمار قصيرة، ودفاتر لم تكمل السطر الأخير.

 “طفولة خلف القضبان… حين يصبح الضوء ممنوعاً”

ليس من المفترض أن يتعرّف الطفل إلى أشكال القيود قبل أشكال الألعاب، ولا أن يحفظ وقع المفاتيح قبل وقع القصائد.

لكن الأطفال الفلسطينيين الذين يُعتقلون يجدون أنفسهم داخل عالمٍ ضيق لا يشبههم، عالم يُشبه غرفة بلا نوافذ؛ يسمعون خارجه أصوات الحياة، لكنهم لا يستطيعون الوصول إليها.

الطفل خلف القضبان يشبه عصفوراً وُضع في صندوق مغلق: يرى ظلّ الضوء ولا يراه، ويشعر بالسماء دون أن يلمسها.

إنّه لا يفهم لماذا حُرم من لعبةٍ كانت على بعد خطوة، أو لماذا صودرت منه ضحكة لم تُكمل دورتها.

وحين يُغلق الباب خلفه، يُغلق معه شيء من العالم:

مقعده في الصف، كرّاساته على الطاولة، لعبته المفضّلة التي بقيت فوق السرير بانتظار عودة قصيرة لم تحصل.

هذا الاعتقال ليس قيداً على الجسد فحسب، بل قيدٌ على العمر نفسه… على الموسم الذي كان يجب أن يزهر.

وأيّ جرحٍ أكبر من أن يُعتقل طفل في عمرٍ كان يجب أن يكون أكثر الأعمار اتساعاً للحياة؟

“حين يُحاصر القلم… الحق في التعليم يُعتقل أيضًا”

الطفل الذي يُنتزع من مدرسته لا يُعتقل وحده؛ بل يُعتقل معه المستقبل الذي كان يكتبه.

فالمدرسة ليست جدراناً، بل نافذة تُفتح للطفل ليرى العالم أكبر قليلًا من الحيّ والشارع.

عبر التعليم يتعلم الطفل كيف يحلم، وكيف يطرح الأسئلة، وكيف يصنع من الحرف طريقاً.

لكن حين تأتي الاقتحامات الليلية، وحين يُنتزع الأطفال من الحواجز أو من محيط مدارسهم، يصبح التعليم هدفاً محاصراً.

تبقى الدفاتر على الطاولات تسأل:

من سيعود ليكمل الدرس؟ ومن سيحمل حقيبته غداً ؟

وتبقى المقاعد فارغة كأنها فجوة في قلب المدرسة.

فالاحتلال حين يعتقل طفلًا، لا يعتقله وحده…

إنه يعتقل الحلم الذي كان سيكبر فيه، ويضيّق الأفق الذي كان سيُفتح أمامه.

التعليم بالنسبة للطفل الفلسطيني ليس رفاهية، بل هو الطريق الوحيد الذي يشقّه نحو الحياة.

وحين يُقمع هذا الطريق، يصبح الغد نفسه بحاجة إلى حماية.

“ذاكرة صغيرة في وجه منظومة كبيرة: صمود الطفولة رغم القيود”

ورغم كل شيء، يظلّ الطفل الفلسطيني قادراً على حمل شعلة صغيرة في صدره.

هؤلاء الأطفال الذين مرّوا من أبواب السجون يحملون ذاكرة لم يكن يجب أن يحملوها: ليلٌ طويل، أبواب تُغلق، وأقفال ثقيلة.

ومع ذلك، فإن هذه الذاكرة، بدل أن تكسر قلوبهم الصغيرة، تزيدها ثباتاً.

الطفل الأسير يشبه غرسة زيتون صغيرة تواجه ريحاً لا ترحم، لكنها لا تنحني.

يخلق من الجدار نافذة، ومن الصمت لغة، ومن الانتظار قوة.

هو لا ينتصر على القيد، بل ينتصر على الألم المتولّد منه؛

ينتصر حين يحتفظ بقدرته على الابتسام،

حين يعود ليقول ببساطة:

“أنا بخير… فقط افتحوا لي الطريق لأكمل اللعب.”

هذا الصمود ليس مجرد تفاصيل يومية…

إنه معجزة صغيرة تُذكّر بأن الاحتلال، مهما فعل، لا يستطيع أن ينتزع من الطفل جوهره الأول: الضوء.

خاتمة… رسالة إلى العالم الحر

يا عالم…

إن الأطفال ليسوا أرقاماً تُعدّ، ولا ظلالًا تمرّ في نشرات الأخبار.

هُم المستقبل، ووصيّة الأرض، ومرآة الإنسانية.

وفي يوم الطفل العالمي، نقف أمام سؤال صارخ:

كيف يمكن للبشرية أن تحتفل بالأطفال، بينما أطفال يُساقون إلى السجون بلا رحمة؟

لسنا نطلب معجزة، ولا تغييراً جذرياً للعالم.

نطلب فقط ما يليق بإنسانيتكم:

أن تروا الطفل الأسير كما لو كان ابنكم، وأن تشعروا بأن إطلاق سراحه ليس موقفاً سياسياً … بل موقف إنساني محض.

يا عالم…

حرّروا الطفولة قبل أن يشيخ العالم بلا أطفال.

افتحوا أبواب السجون، أعيدوا الضوء إلى أعين صغيرة أُطفئ نورها ظلماً.

فحين تتحرر الطفولة… تتحرر الإنسانية كلها.

 

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى