أقلام وأراء

د. محمد أبو رمان: الأردن والسياسات الإسرائيلية… سقف التغيير

د. محمد أبو رمان 30-12-2025: الأردن والسياسات الإسرائيلية… سقف التغيير

يتكثّف نقاشٌ أردني في الكواليس السياسية منذ فترة، في محاولة لإعادة تعريف موقع الأردن، ودوره في لحظة إقليمية شديدة الاضطراب. والسؤال المركزي الذي يتكرّر بصيغ مختلفة: ما إذا كان التغيير المحتمل في القيادة الإسرائيلية، عبر انتخابات عام 2026، يحمل أيَّ معنى عملياً للأردن وللفلسطينيين، أم أنّ الأمر لا يتجاوز إعادة توزيع الأدوار داخل منظومة واحدة مغلقة، لا ترى في الصراع سوى إدارته، ولا في الفلسطينيين سوى عبء أمني ينبغي احتواؤه أو دفعه خارج المشهد؟

ينطلق التيار الأول في هذا النقاش من فرضية تبدو صلبة ومتماسكة. ووفق هذا التصوّر، لا فرق جوهرياً بين بقاء نتنياهو أو رحيله، ولا بينه وبين خصومه في معسكر الوسط أو اليمين “الناعم”. الإجماع الإسرائيلي، بحسب هذا الرأي، بات مستقرّاً عند رفض الدولة الفلسطينية، وعلى الضمّ التدريجي للضفة الغربية، وتوسيع الاستيطان، وإدامة الحصار في غزّة، مع اختلافٍ في الأسلوب لا في الجوهر. من هنا، يصبح الرهان على الانتخابات الإسرائيلية نوعاً من الوهم السياسي، ورفع سقف التوقّعات مجازفة غير محسوبة؛ لأن النتيجة، في كل الحالات، واحدة: مسار العملية السلمية انتهى فعلياً، والدولة الفلسطينية خرجت من الحسابات الإسرائيلية الواقعية.

تجد هذه القراءة صداها في التجربة الأردنية الطويلة مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وفي خيبة الأمل المتراكمة من مسار أوسلو وما تلاه. وهي قراءة تحذّر من إضاعة الوقت والجهد في انتظار تغييراتٍ داخلية في إسرائيل، وتدعو بدلاً من ذلك إلى التعامل مع “الحقيقة العارية”، وبناء السياسات الأردنية على أساسها، لا على أساس ما ينبغي أن يكون. في مقابل هذا الاتجاه، يبرز تيار آخر لا يقلّ واقعية، لكنّه أقلّ تشاؤماً، ويفرّق بين الجوهر الثابت والتفاصيل المتحرّكة. لا يدّعي أنّ سقوط نتنياهو سيقود إلى اختراق تاريخي أو إلى ولادة دولة فلسطينية مستقلّة، لكنّه يرى أنّ السياسة لا تُدار فقط عبر الثوابت الكُبرى، بل عبر الهوامش، والفروق الدقيقة، وموازين القوى المتحرّكة. فثمّة فرق، مهما بدا محدوداً، بين حكومة يقودها بنيامين نتنياهو، محكومة بتحالف عضوي مع اليمين الديني والقومي المتطرّف، وحكومة أخرى أقلّ ارتهاناً لهذا التحالف، وأكثر حساسية للضغوط الدولية والإقليمية.

ولفهم هذا الفارق، لا بدّ من النظر إلى تركيبة الائتلافين المتنافسَيْن في الانتخابات المُقبلة. يستند معسكر نتنياهو إلى نواة صلبة من اليمين القومي والديني، تضمّ “الليكود”، وتحالف “الصهيونية الدينية” بزعامة بتسلئيل سموتريتش، وحزب عوتسما يهوديت الذي يمثّله إيتمار بن غفير، إضافة إلى الأحزاب الحريدية التقليدية. ليس هذا تحالفاً انتخابياً عابراً، بل كتلة أيديولوجية ترى في الضفة الغربية مجالاً مفتوحاً للضمّ، وفي القدس ساحة صراعٍ صفري، وفي الفلسطينيين جماعة ينبغي إخضاعها بالقوة. والأهم أنّ نتنياهو لم يعد قائداً لهذا المعسكر بقدر ما أصبح أسيراً له؛ فبقاؤه السياسي، في ظلّ أزماته القضائية، بات مرتبطاً عضوياً بإرضاء هذه القوى ومنحها نفوذاً غير مسبوق في مؤسّسات الدولة.

في الجهة المقابلة، يقف معسكرٌ معارضٌ أكثر تنوّعاً، وأقلّ تماسكاً، لكنّه يضمّ أطيافاً أوسع من ناحية الخلفيات السياسية، يتقدّمه يئير لبيد، ممثّلاً لتيار الوسط الليبرالي الصهيوني، إلى جانب شخصيات أمنية وسياسية مثل بيني غانتس، الذي يعكس مقاربة براغماتية لإدارة الصراع، تبتعد عن الاندفاع الأيديولوجي من دون أن تتبنّى مشروعَ تسوية حقيقية. ويضاف إلى هذا المعسكر لاعبون خرجوا من عباءة اليمين التقليدي، مثل نفتالي بينت، الذي لا يختلف جذرياً في مواقفه من الدولة الفلسطينية، لكنّه يختلف في أسلوب الحكم، وفي نظرته إلى العلاقة مع واشنطن والعواصم العربية، وخصوصاً عمّان، فضلاً عن شخصياتٍ متقلّبة، مثل أفيغدور ليبرمان، التي تحمل خطاباً قوميّاً متشدّداً، لكنّها على خصومة سياسية وشخصية حادّة مع نتنياهو.

ليس الفارق بين المعسكرَيْن هنا في الأهداف النهائية، بل في أدوات تحقيقها، وفي مستوى التصعيد، وفي طبيعة العلاقة مع الإقليم. حكومة يقودها نتنياهو ومحكومة بسموتريتش وبن غفير هي حكومة صدامية بطبيعتها، لا ترى في الأردن شريكاً أمنياً وسياسياً بقدر ما تراه عائقاً أمام مشاريعها؛ وهو ما يفسّر وصول العلاقة الأردنية – الإسرائيلية، خلال العامَيْن الماضييْن إلى مرحلة القطيعة السياسية شبه الكاملة، كما عكست ذلك بوضوح خطابات الملك وتصريحات وزير الخارجية. في المقابل، حكومة أقلّ تطرفاً، حتى لو لم تكن “صديقة”، قد تكون أكثر قابلية للاحتواء، وأقلّ ميلاً إلى اختبار الخطوط الحمراء الأردنية.

العنصر الحاسم في هذا المشهد موقع القوى العربية الفلسطينية داخل إسرائيل. شخصيات مثل أحمد الطيبي وأيمن عودة وسامي أبو شحادة ومنصور عبّاس تمثّل طيفاً سياسياً متنوعاً، من القومية واليسار إلى البراغماتية المحافظة. إذا خاضت هذه القوى الانتخابات بقوائم متفرّقة، يبقى تأثيرها محدوداً؛ أمّا إذا نجحت في تشكيل قائمة موحّدة، فقد تحصل على ما يقارب 15 مقعداً، وهو رقم كفيل بجعلها “رمّانة الميزان” في معركة تشكيل الحكومة، كما كانت تفعل الأحزاب الدينية الصغيرة في مراحل سابقة من التاريخ السياسي الإسرائيلي.

يتقاطع التحليل الانتخابي هنا مع الدور الأردني. ووفق المقاربة الثانية، لا معنى لوقوف الأردن خارج اللعبة، وانتظار النتائج، خصوصاً بعدما قُطع حبل الوصال السياسي مع نتنياهو ومجموعته. يمتلك الأردن رصيداً من العلاقات التاريخية مع القيادات العربية داخل إسرائيل، وهو رصيد يمكن، إذا ما استُثمر بذكاء، أن يساهم في الدفع نحو قائمة عربية موحّدة، وفي ترجيح كفّة معسكر أقلّ عداءً، حتى لو كان ذلك ضمن حدود ضيقة. الهدف هنا ليس صناعة وهم سياسي، بل تحجيم الأسوأ، وفتح هوامش لتحسينات ملموسة في حياة الفلسطينيين، سواء في الضفة الغربية أو غزّة أو القدس، وفي إدارة العلاقة الأردنية – الإسرائيلية.

إلى جانب ذلك، لا يمكن فصل الانتخابات الإسرائيلية عن السياق الإقليمي الأوسع. نتنياهو كان ركناً أساساً في التحالف بين اليمين الصهيوني واليمين المسيحي الصهيوني في الولايات المتحدة، وهو تحالف بلغ ذروتَه في عهد دونالد ترامب. إضعاف هذا التحالف، أو كسره جزئياً، ليس تفصيلاً ثانوياً، بل جزءاً من إعادة تشكيل البيئة الإقليمية. حكومة إسرائيلية مختلفة في الأشخاص والخطاب، حتى لو لم تختلف جذرياً في السياسات، قد تكون أقلّ قدرة على الاستثمار في هذا التحالف، وأكثر حساسية للضغط الدولي.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى