د. غانية ملحيس: من الامتثال إلى الفعل: تحديات الدبلوماسية الفلسطينية بعد الإبادة

د. غانية ملحيس 17-12-2025: من الامتثال إلى الفعل: تحديات الدبلوماسية الفلسطينية بعد الإبادة
أصاب يحيى بركات في مقاله المعنون “الدبلوماسية بعد الإبادة: استعادة المعنى قبل إدارة العلاقات” جوهر اللحظة في تسليطه الضوء على أزمة الدبلوماسية الفلسطينية بعد حرب الإبادة الجماعية المتواصلة في قطاع غزة ومخيمات الضفة الغربية منذ السابع من تشرين الأول / أكتوبر 2023، رغم اتفاق وقف الحرب الذي وقعه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ورؤساء الدول الوسيطة الثلاثة مصر وقطر وتركيا، في المؤتمر الدولي الذي عقد في شرم الشيخ في 13/10/2025 ، واعتماده بالقرار 2803 الصادرعن مجلس الأمن الدولي في 17/12/2025 بأغلبية 13 عضوا وامتناع الصين وروسيا.
فالحرب لم تتوقف في قطاع غزة، وإنما خفت وتيرتها، فتقلص عدد ضحايا الإبادة بالقصف من المئات يوميا إلى العشرات، فيما ارتفع عددهم نتيجة تضافر التجويع والمطر، وما يتسبب به من انهيارات للمباني واقتلاع للخيام، وازدادت وتيرة حرب الإبادة في مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية، التي استثناها اتفاق وقف الحرب وقرار مجلس الأمن.
حين يطالب يحيى بركات الدبلوماسية الفلسطينية باستعادة المعنى قبل إدارة العلاقات، ويتساءل محقا: من نمثّل حين نتحدث، وتحت أي سقف أخلاقي نقف؟ فإنه يضع السؤال الصحيح في مكانه تماما، لأنه يعيد الدبلوماسية إلى تعريفها العلمي بوصفها ممارسة سياسية تاريخية، وليست تقنية محايدة ولا بروتوكولا لغويا، تتغيّر بتغيّر طبيعة الكيان الذي تمثّله، وبنية النظام الدولي الذي تعمل داخله.
في الأدبيات الكلاسيكية، ارتبطت الدبلوماسية تاريخيا بالدولة – الأمة ذات السيادة، بوصفها أداة لتنظيم الصراع، وبناء التحالفات، وتثبيت الاعتراف المتبادل بين كيانات متكافئة شكليا. لكنها لم تكن يوما واحدة في وظائفها أو لغتها. فلم يكن هذا التعريف كافيا لفهم دبلوماسية الكيانات الواقعة تحت الاستعمار، أو تلك التي وُلدت داخل بنى سيادة ناقصة أو مشروطة.
هنا تبرز دبلوماسية حركات التحرر الوطني، بوصفها نمطا مختلفا جذريا: فلم تكن دبلوماسية اعتراف متبادل، بل دبلوماسية نزع شرعية المستعمر. ولم تسعَ إلى تحسين صورة واقع قائم، بل إلى فضحه وتقويضه.
كانت لغتها أخلاقية – سياسية صدامية، وسقفها هو التحرر لا “إدارة الممكن”. وقد نجحت هذه الدبلوماسية تاريخيا حين حافظت على اتصال عضوي بين السردية، والتمثيل، والمشروع التحرري، دون أن تنفصل عن شعوبها أو تتحول إلى جهاز مستقل عنها.
يبدأ المأزق حين ننتقل إلى دبلوماسية الحكم الذاتي. فالحكم الذاتي- بخلاف الدولة أو حركة التحرر- كيان وسيط يعمل داخل بنية استعمارية، لا يعترف به إلا بوصفه وظيفة إدارية، لا ذاتا سياسية كاملة. دبلوماسيته لا تُقاس بالقدرة على تسمية الجريمة، بل بعدم إرباك النظام الذي يسمح بارتكابها.
وهنا لا تعود اللغة مسألة اختيار، بل شرط عمل. وهي محكومة بسقف مزدوج: سقف القوة المسيطرة، وسقف المانحين، وهي دبلوماسية تميل بطبيعتها إلى تخفيف اللغة، وتدوير الخطاب، وتجنّب الصدام، لأنها لا تملك أدواته، ولا تتحمّل كلفته.
في هذا الإطار، يصبح السؤال الذي يطرحه يحيى بركات – حول فقدان البوصلة الأخلاقية – أكثر تعقيدا. فالمسألة ليست فقط في “خجل اللغة” أو “سوء التقدير”، بل في النموذج السياسي نفسه الذي ينتج هذه الدبلوماسية. أي أن الدبلوماسية الفلسطينية ليست خجولة لأنها اختارت ذلك، بل لأنها تعمل داخل نموذج حكم ذاتي بلغ مداه التاريخي، ولم يعد قادرا لا على تمثيل مشروع تحرر، ولا على حماية معنى الضحية بعد الإبادة.
دبلوماسية الامتثال: حين لا يكون الصمت خيارا بل وظيفة
هنا تكمن المفارقة: الدبلوماسية الفلسطينية تُطالَب اليوم بأن تؤدي وظيفة دبلوماسية تحرر، بينما هي مُقيدة بنموذج دبلوماسية حكم ذاتي، صُمّم أصلا لإدارة الواقع لا لتغييره. من هنا يصبح التوتر الذي يصفه بركات بين المعنى والممارسة توترا بنيويا، وليس أخلاقيا فقط.
دبلوماسية الامتثال في الأدبيات السياسية، ليست نمطا عارضا من السلوك، بل وظيفة تُمارَس داخل أنظمة سيادة ناقصة، حيث يصبح دور الكيان المنشأ هو إثبات “الأهلية” الدائمة: أهلية ضبط الذات، ضبط الغضب، ضبط اللغة، وضبط الضحية نفسها. في هذا السياق، لا تُقاس الدبلوماسية بقدرتها على نقل الحقيقة، بل بقدرتها على عدم إرباك النظام الدولي القائم. وهذا هو بالضبط ما تقوم به السلطة الفلسطينية اليوم. فهي مطالبة – ضمنيا وصراحة – بأن تكون دبلوماسيتها شهادة حسن سلوك مستمرة:
أن تُدين دون تسمية،
أن تتألم دون اتهام،
أن تطلب العدالة دون أن تمسّ البنية، ودون أن تخلخل توازن القوة الذي يسمح أصلا بالإبادة.
بهذا المعنى، يصبح صمت الدبلوماسية الفلسطينية وظيفة لا تقصيرا، وتغدو اللغة المواربة والمخففة ليست خيارا سياسيا سيئا، بل شرط بقاء داخل نموذج حكم ذاتي صُمّم ليعمل كحاجز امتصاص للغضب، لا كرافعة للتحرر. وتصبح جزءا من عقد غير مكتوب: البقاء مقابل الامتثال.
بهذا المعنى، لا تواجه الدبلوماسية الفلسطينية أزمة خطاب فقط، أو أزمة اخلاق فقط، بل أزمة وظيفة تاريخية. هي مطالبة بأن تكون صوت الضحية، وفي الوقت نفسه أداة استقرار لنظام دولي يبرّر قتلها. وهذه معادلة مستحيلة. لذلك، فإن السؤال لم يعد: كيف نُحسّن دبلوماسيتنا؟
بل: هل يمكن التحرر من دبلوماسية الامتثال، وهل يمكن لدبلوماسية وُلدت داخل نموذج حكم ذاتي مأزوم أن تحمي معنى الإبادة، دون أن تعيد مساءلة النموذج الذي تنتج عنه؟
الاستثناء والقاعدة
لا يعني هذا إنكار وجود دبلوماسيين فلسطينيين حاولوا كسر هذا القيد أو توسيع هامشه. تجربة حسام زملط، مثلا، تُظهر محاولة واعية لتسمية الجريمة وربطها بسياقها الاستعماري، خصوصا في الفضاء الإعلامي الغربي. غير أن دلالة هذه التجربة تكمن في حدودها البنيوية: فقد ظل الهامش فرديا وظرفيا، غير قابل للتحول إلى سياسة عامة، لغياب قرار مؤسسي يعيد تعريف وظيفة الدبلوماسية نفسها. هكذا تكشف الاستثناءات القاعدة بدل أن تنقضها.
التحول العالمي والفرصة التاريخية
التحول العالمي الذي يشير إليه بركات – صعود دور الشعوب وتراجع شرعية الأنظمة – يفتح نافذة تاريخية حقيقية. لكن استثمار هذه النافذة لا يمكن أن يتم فقط بإعادة تموضع الخطاب، بل يتطلّب إعادة نظر فيمن يمثل، وبأي شرعية، ولأي مشروع. فالشعوب المتضامنة لا تطلب لغة أجمل فقط، بل مشروعا واضحا يمكن أن تنتسب إليه. ذلك هو التحدي الحقيقي لما بعد الإبادة: ليس فقط كيف نتكلم، بل من أي موقع نتكلم، ولأي أفق تاريخي نوجّه كلماتنا.
مأزق النخبة الفلسطينية
قبل الانتقال إلى أثر الشعوب والمجال العام، لا بد من التوقف عند مأزق مواز: مأزق النخبة السياسية والثقافية الفلسطينية. فكما تعمل السلطة داخل منطق الامتثال، يعمل جزء واسع من النخبة السياسية والثقافية الفلسطينية داخل المنطق ذاته، وإن بلا سلطة فعلية.
المشكلة ليست في الوعي أو النوايا، بل في التموضع: حسابات القبول، والتمويل، والمنصات، والخشية من العزل، دفعت كثيرين إلى تليين اللغة وإعادة إنتاج خطاب “المقبول دوليًا”، حتى إزاء الإبادة. هكذا تشكّلت نخبة امتثال: لا تملك القرار، لكنها تُكيّف الخطاب على سقفه.
جيل z الفلسطيني
تتسع الفجوة هنا مع جيل Z الفلسطيني. فالمفارقة أن هذا الجيل هو الأكثر جرأة وتأثيرا خارج فلسطين: نشط رقميا، صريح في التسمية، قادر على كسر السرديات السائدة والتأثير في الرأي العام العالمي. لكنه داخل فلسطين مكبل: بالاحتلال، وبالأطر السياسية المغلقة، وببنية نخبوية لا تفتح مسار تمثيل يحوّل طاقته إلى مشروع.
النتيجة: جيل بلا خوف لكن بلا أفق سياسي، ونخبة بلا سلطة، متمسكة بسقف الامتثال، وسلطة تُدير الواقع بدل تغييره.
في هذا السياق، يتضح لماذا بات تأثير الإعلام والمثقفين العضويين ونشطاء المجال العام يفوق، في حالات كثيرة، التأثير الدبلوماسي التقليدي نفسه.
نماذج فلسطينية وعربية وعالمية مثل: رشيدة طليب، القس منذر إسحق، نورا عريقات، رشيد الخالدي، رباب عبد الهادي، باسم يوسف، مهدي حسن، إلهان عمر، تاكر كارلسون، الأم أغابيا ستيفانوبولوس، زهران ممداني، نورمان فِنكلشتاين، نعوم تشومسكي، إيلان بابيه، ميكو بيليد، وعشرات غيرهم، تكشف تحولا بنيويا في إنتاج الشرعية والسردية. فهؤلاء، كلٌّ من موقعه، فرضوا فلسطين على أجندة النقاش العالمي، وفضحوا عنصرية نظام الحداثة الغربي المادي وزيف شعاراته المتصلة بالديموقراطية وحقوق الإنسان والعدالة القانونية واستقلال القضاء والإعلام، والتي مكنته من تسيد العالم على مدى قرون. في لحظة تواطأت فيها القنوات الرسمية لتغييب الحقائق.
الأهمية ليست في الاتفاق أو الاختلاف مع كل اسم، بل في الوظيفة السياسية الجديدة التي يؤدّونها: لم تعد الدولة تحتكر الخطاب الخارجي، ولم تعد السفارات القناة الحصرية للتأثير.
لقد نشأت دبلوماسية موازية للمجال العام، لا تنتظر إذنا ولا تخضع لبروتوكول الامتثال، وغالبا ما تكون أقدر على الوصول وبناء الضغط من بعثات رسمية مقيّدة بسقف الاعتراف والتمويل والاصطفاف.
الدبلوماسية البديلة تتقدّم عالميا ودبلوماسية الحكم الذاتي تتأخر
المفارقة الفلسطينية أن هذه الدبلوماسية البديلة تتقدّم عالميا، بينما تتعامل معها الدبلوماسية الرسمية الفلسطينية والعربية بوصفها رافدا ثانويا أو أداة ظرفية، وليس تحولا استراتيجيا في بنية العلاقات الدولية. أي أن دبلوماسية النشطاء تتقدّم، ودبلوماسية الحكم الذاتي تتأخر- أو تراقب بحذر خشية الخروج عن النص.
من هنا، يكتسب تشخيص معنى الدبلوماسية بعد الإبادة، عمقا إضافيا: ففقدان المعنى ليس مجرد خجل لغوي أو سوء تقدير، بل نتاج نموذج حكم ذاتي بلغ مداه التاريخي. نموذج لا يستطيع حماية ذاكرة الإبادة، ولا تحويل الدم إلى شهادة إدانة عالمية، لأن وظيفته الأساسية صارت إدارة الواقع لا تغييره.
يبقى السؤال الجذري الذي يفتحه مقال بركات ويتعين علينا مواجهته: هل يمكن لدبلوماسية وُلدت داخل نموذج امتثال أن تحمي معنى الإبادة؟
أم أن استعادة المعنى تفترض، أولا، كسرالامتثال في المنظمة والسلطة، وفي النخبة، وفي تعريف الدبلوماسية نفسها بوصفها تنسيقا واعيا مع المجال العام العالمي، لا إدارة خافتة لممكن استُنفد؟
ذلك هو التحدي الحقيقي لما بعد الإبادة: ليس فقط كيف نتكلم، بل من أين نتكلم، ولأي أفق تاريخي نوجّه كلماتنا. فالدبلوماسية التي تُطالَب بالامتثال لا يمكنها، بحكم تعريفها، أن تكون صوت الضحية.
والتحرر من دبلوماسية الامتثال يظل مستحيلاً ما لم يُفتح السؤال الأكبر: التحرر من النموذج الذي جعل الامتثال شرطًا للوجود السياسي أصلًا.
دعوة مفتوحة لحوار وطني ونخبوي حول الدبلوماسية بعد الإبادة
لا يهدف هذا المقال، ولا مقال بركات، إلى تقديم وصفة جاهزة لأزمة بحجم ما تواجهه فلسطين بعد الإبادة. فهذه لحظة تتجاوز قدرة الأفراد والمقالات والقطاعات المنفردة على الإحاطة بها. لكنها لحظة تفرض، بإلحاح غير مسبوق، فتح حوار وطني صريح حول وظيفة الدبلوماسية الفلسطينية، وحدودها، وموقعها من مشروع التحرر ذاته.
إن السؤال الذي بات مطروحا لم يعد تقنيا: كيف نحسّن أداء الدبلوماسية؟ بل سؤالا سياسيا تأسيسيا: أي دبلوماسية نريد، ومن يمثل عبرها، وتحت أي سقف أخلاقي وتاريخي تعمل؟
من هنا، تأتي هذه الدعوة موجّهة إلى:
• الدبلوماسيين الفلسطينيين الحاليين والسابقين،
• النخب السياسية والفكرية والثقافية،
• الأكاديميين والباحثين في العلاقات الدولية والقانون،
• الفاعلين في المجال العام والإعلامي،
• وممثلي الأجيال الشابة، داخل فلسطين وفي الشتات،
للانخراط في حوار مفتوح حول قضايا لم يعد تأجيلها ممكنا، من بينها:
• حدود نموذج الحكم الذاتي ودوره في إنتاج دبلوماسية الامتثال:
هل بلغ هذا النموذج مداه التاريخي، كما يرى بعض الكتّاب، ومن بينهم كاتبا هذين المقالين؟
• الكلفة السياسية والمؤسساتية لكسر الامتثال: ما الذي نخسره، وما الذي لا يمكن الاستمرار في خسارته؟
• العلاقة بين الدبلوماسية الرسمية والدبلوماسية الموازية التي ينتجها المجال العام العالمي: كيف ننتقل من التوازي إلى التكامل دون إخضاع؟
• دور النخبة الفلسطينية بين التمثيل والامتثال: كيف نعيد تعريف المسؤولية الأخلاقية والسياسية في زمن الإبادة؟
• موقع جيل فلسطيني جديد، جريء في التسمية والتأثير، لكنه محروم من أفق تمثيلي: كيف يتحول حضوره من قوة خطابية إلى قوة سياسية؟
إن فتح هذا الحوار لا يعني الاتفاق المسبق على الإجابات، ولا يفترض وحدة في الرؤى أو البرامج، بل يفترض أولا كسر الصمت المنظّم الذي حوّل الامتثال إلى قاعدة غير مُعلنة، وأغلق النقاش حول البدائل باسم الواقعية أو الخوف من العزلة.
فالدبلوماسية التي تُطالَب بأن تكون أداة استقرار لنظام يسمح بالإبادة، لا يمكنها أن تكون صوت الضحية في آن واحد. واستعادة معنى الإبادة – بوصفها جريمة استعمارية لا حدثا إنسانيا مجردا – تفترض استعادة السياسة نفسها، لا تجميل خطابها.
هذه الدعوة ليست بيانا ولا برنامجا، بل دعوة لتحمّل المسؤولية الجماعية: مسؤولية التفكير، والمساءلة، وإعادة طرح الأسئلة الكبرى التي جرى تعطيلها طويلًا. فبعد الإبادة، لا يكفي أن نتحدث باسم فلسطين؛ المطلوب أن نعيد، معًا، تعريف الموقع الذي نتحدث منه، والأفق الذي نريد أن نصل إليه.
مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook



