منوعات

د. غانية ملحيس: محمد بكري، حين يصبح الفن شاهدا، والرحيل ولادة جديدة

د. غانية ملحيس 26-12-2025: محمد بكري، حين يصبح الفن شاهدا، والرحيل ولادة جديدة

في زمن يتواطأ فيه الموت على الفلسطينيين، كأنّ الأرض لا تكتفي ولا تشبع من دم يُسكب بلا حساب، ولا من أسماء تُنتزع من الحياة قبل أوانها، ولا من حكايات يُراد لها أن تُمحى، ما يفاقم صعوبة رثاء الأفراد.

غير أنّ محمد بكري لم يكن فردا، بل كان معنى قائما بذاته.

فقدانه في هذا الزمن الصعب خسارة لشعبنا الفلسطيني، وللثقافة العربية والإنسانية، الفنان والمخرج والمثقف الفلسطيني الكبير، الذي برحيله نفقد شاهدا أخلاقيا في زمن تتراجع فيه الشهادة، ويُطلب من الفن أن يكون محايدا، أي متواطئا.

لم تتقاطع دروبنا في الحياة، ولم أحظ بشرف لقائه، لكني عرفت محمد بكري مؤسسة أخلاقية قبل أن يكون اسما فنيا.

اختزالا لجيل أدرك باكرا أن الفن، في سياق الاستعمار والإبادة، إما أن يكون موقفا منحازا للحياة، أو يتحوّل إلى زينة في مشهد القتل.

من الخشبة، حيث الجسد الفلسطيني لا يطلب الإذن، ولا يساوم على المعنى، إلى السينما، حيث الصورة ليست تقنية، بل ضميرا، شكّل محمد بكري أحد الأعمدة المؤسسة للثقافة والسينما الفلسطينية المعاصرة.

في حضوره الفني، لم تكن القضية شعارا، ولا خطابا مباشرا، بل ملامح، ونبضا، واختيارات أخلاقية واضحة داخل كل دور. لم يكن شاهدا محايدا، بل شاهدا أخلاقيا. دفع ثمن انحيازه، وحوصر، ولاحقته المحاكم، ليس لأنه أساء للفن، بل لأنه قال الحقيقة كما هي: عارية، ومؤلمة، ولا تقبل التزييف.

في فيلمه الوثائقي «جنين جنين»، لم يصنع عملا سينمائيا فحسب، بل فتح جرحا في السردية الرسمية، وكسر احتكار الرواية، وسحب الكاميرا من يد الجلاد، وأعادها إلى وجه الإنسان الفلسطيني. وقال له: صوتك صالح لأن يُسمع،

وقال للعالم: الضحية ليست رقما، ولا تفصيلا جانبيا في نشرة أخبار.

وحين امتدّ إرثه إلى أبنائه، لم يكن ذلك توريث اسم، بل تأسيس مسار. كأنّه كان يعرف أن الأجساد ترحل، لكن المعنى، إن لم يُستكمل، يموت.

هكذا تحوّل البيت إلى امتداد للفكرة، والسينما إلى سلالة أخلاقية،

لا إلى لقب عائلي.

رحيل محمد بكري لا يمكن فصله عن الزمن الذي نعيشه. غيابه خسارة كبيرة في لحظة يُستباح فيها الفلسطيني كجسد، وكمعنى، وكحكاية، وفي زمن الإبادة، حيث لا يُقتل الناس فقط، بل تُستهدف الذاكرة، وتُحاصر اللغة، ويُطلب من الفن أن يصمت أو يتزيّن.

وقد كان محمد بكري نقيض هذا الطلب، كان يذكّر، بفنه وحياته، بأن السياسة، قبل أن تكون إدارة، هي سؤال أخلاقي: من يحق له أن يعيش؟ ومن يُسمح له أن يُمحى بصمت؟ فلم يحتمل قلبه.

برحيله، لا نخسر فنانا فحسب، بل نفقد شاهدا في لحظة تحتاج إلى الشهود، وصوتا هادئا لم يصرخ إلا حين صار الصمت خيانة.

نفقد مثالا نادرا على أن السينما يمكن أن تكون بيتا للكرامة، وأن الالتزام ليس شعارا، بل سيرة حياة.

ويأتي رحيله في ذكرى ميلاد السيد المسيح، كأنّ الزمن الفلسطيني المثقَل بالأحزان، يُعيد تذكير العالم بأن الميلاد والرحيل ليسا نقيضين على هذه الأرض.

أن يرحل محمد بكري في يوم الميلاد، إشارة رمزية إلى أن الفلسطيني، حتى في لحظة الفقد، يعيد إنتاج المعنى.

كما وُلد المسيح تحت القهر، وعاش مطاردا، وحمل رسالة خلاص للإنسان، يرحل محمد بكري اليوم وهو يحمل وصية الحياة، كأنّ الرحيل ذاته يتحوّل إلى ميلاد جديد، ليس للفرد، بل لفكرة ترفض الموت.

بهذا المعنى، لا يكون رحيله نهاية، بل عبورا رمزيا في سردية فلسطينية تعرف أن القيامة ليست حدثا دينيا فقط، بل فعلا تاريخيا

يتكرّر كلّما ظنّ العالم أن المعنى قد مات.

لروحه الطاهرة الرحمة والسكينة، ولقلبه المتعب الراحة بعد طول عناء ولأسرته الصغيرة وعائلة البكري وللأسرة الفنية والثقافية الفلسطينية والعربية والانسانية العزاء

فما دافع عنه لم ولن يُهزم. والمعنى الذي أمسك به في زمن الإبادة سيظل حيا، ما دام في هذا العالم من يرفض الصمت.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى