أقلام وأراء

د. عمرو حمزاوي: ما الذي يضمن الالتزام باتفاق غزة؟

د. عمرو حمزاوي 28-10-2025: ما الذي يضمن الالتزام باتفاق غزة؟

مع توقيع اتفاق غزة في شرم الشيخ مطلع أكتوبر 2025، دخلت المنطقة مرحلة جديدة من اختبار الإرادات. فالاتفاق الذي أوقف حرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع وفتح مسارًا تدريجيًا لإعادة الإعمار وتوحيد الإدارة الفلسطينية، يواجه اليوم تحدي الالتزام من الطرفين الرئيسيين – إسرائيل وحماس – وهما طرفان لم يُعرفا يومًا بسهولة الرضوخ لشروط السلام أو الانضباط لمتطلبات التهدئة طويلة الأمد. ومن ثم، فإن الضمان الفعلي لاستمرار الاتفاق وتنفيذه يتوقف على بناء منظومة معقدة من الضغوط الدولية، والمحفزات الاقتصادية، والضمانات الأمنية والسياسية التي تربط بين مصالح الأطراف المتصارعة واحتياجات الاستقرار الإقليمي.

أولا- اختبار الإرادة الإسرائيلية: إسرائيل، بقيادة حكومة يمينية متطرفة، لم تُظهر حتى الآن التزامًا حقيقيًا بوقف الاستيطان أو بتغيير سياساتها تجاه الضفة الغربية. بل إن بعض الأصوات داخل الائتلاف الحاكم ما زالت تلوّح بخطط للسيطرة الأمنية الدائمة على غزة أو إنشاء «مناطق عازلة» داخلها، بما يقوّض جوهر الاتفاق. ولضمان التزام إسرائيل، لا بد من تحرك أمريكي وأوروبي منسق يربط بين استمرار الدعم السياسي والعسكري لتل أبيب وبين التزامها العملي بشروط الاتفاق.

تملك واشنطن، أكثر من أي طرف آخر، أدوات ضغط حقيقية: المساعدات العسكرية السنوية، الدعم الدبلوماسي في المحافل الدولية، والتعاون الاستخباراتي والأمني. استخدام هذه الأدوات بصورة تدريجية ومدروسة، كما حدث في تجارب سابقة مع اتفاقيات السلام في الشرق الأوسط، هو السبيل الوحيد لضبط السلوك الإسرائيلي. وعلى الاتحاد الأوروبي أن يلعب دوره من خلال ربط العلاقات الاقتصادية والتجارية مع إسرائيل بالتزاماتها تجاه إعادة الإعمار وحرية الحركة في غزة، والوقف الكامل للاستيطان في الضفة الغربية.

إن الإشارات التي ترسلها العواصم الغربية مهمة بقدر الإجراءات نفسها. فكل مرة تُمنح فيها الحكومة الإسرائيلية مساحة للمناورة دون محاسبة، تُفهم الرسالة في تل أبيب على أنها ضوء أخضر للمماطلة. المطلوب اليوم ليس فقط بيانات دعم للاتفاق، بل آلية مراقبة دولية رسمية تُصدر تقارير دورية عن مدى الالتزام الإسرائيلي، وتوصي بخطوات تصحيحية واضحة في حال الإخلال.

ثانيًا ـ مسؤولية حماس والتحول نحو الحوكمة: أما في غزة، فالتحدي الأكبر يكمن في قدرة حماس على التحول من حركة مقاومة مسلحة إلى فاعل سياسي مسؤول في إطار إدارة فلسطينية موحدة. التزام الحركة بوقف إطلاق النار وبآليات إعادة الإعمار يجب أن يُقاس ليس بالتصريحات، بل بمدى استعدادها لتقاسم السلطة والإدارة مع الحكومة الفلسطينية التوافقية، والانخراط في مسار إصلاح أمني تدريجي يدمج الفصائل في جهاز أمني موحّد خاضع لرقابة مدنية.

في هذا السياق، يمكن للدور المصري والقطري أن يكون حاسمًا. فالقاهرة، بما تملكه من ثقة أمنية مع إسرائيل وعلاقات تنسيقية مع حماس والسلطة الفلسطينية، قادرة على ضمان التنفيذ الميداني للاتفاق على الحدود والمعابر. أما الدوحة، فتستطيع أن تواصل تمويلها الإنساني والإنمائي المشروط بالتزام حماس بالتهدئة وبإجراءات الشفافية في إدارة موارد الإعمار.

كما ينبغي للمجتمع الدولي أن يدعم جهود الأمم المتحدة والبنك الدولي في تأسيس آلية شفافة لإدارة أموال الإعمار، بحيث تُصرف الموارد عبر قنوات رسمية وتحت رقابة دولية ومحلية، لمنع أي توظيف سياسي أو فصائلي للمساعدات. فكلما تزايدت الشفافية، قلّت فرص انهيار الاتفاق بفعل الفساد أو سوء الإدارة.

ثالثًا ـ البعد العربي والإقليمي: لن يتحقق استقرار دائم في غزة دون مظلة عربية جماعية تشارك فيها مصر والأردن والسعودية وقطر والإمارات. فهذه الدول قادرة على توفير مزيج من الضمانات السياسية والاستثمارات الاقتصادية التي تجعل الالتزام بالاتفاق مصلحة مشتركة لا عبئًا. المبادرة المصرية لإنشاء لجنة إقليمية لمتابعة تنفيذ الاتفاق تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح، شرط أن تُمنح صلاحيات واضحة لمراقبة، والتدخل في حال تصاعد التوترات.

وفي الضفة الغربية، على الأردن ومصر أن يواصلا التنسيق مع السلطة الفلسطينية ومع الدول المانحة لتثبيت الهدوء ومنع الاستيطان، لأن أي انفجار في الضفة سيقوّض فرص النجاح في غزة. فالقضية الفلسطينية وحدة واحدة لا يمكن تجزئتها إلى مسارين متوازيين.

رابعًا ـ من الضغوط إلى الحوافز: لا تكفي الضغوط وحدها لضمان الالتزام. فالأطراف كافة تحتاج إلى حوافز ملموسة تجعل من استمرار الاتفاق خيارًا رابحًا. بالنسبة لإسرائيل، يمكن أن تكون الحوافز في صورة تطبيع تدريجي مع بعض الدول العربية واستئناف التعاون الاقتصادي الإقليمي في مجالات الطاقة والنقل والتكنولوجيا، شرط الالتزام الكامل ببنود الاتفاق. وبالنسبة للفلسطينيين، لا بد من حوافز اقتصادية واضحة: فتح المعابر، تشغيل العمالة، استعادة الخدمات الأساسية، وتدفق الاستثمارات في إعادة الإعمار.

هذه الحوافز يجب أن ترتبط بجدول زمني واضح ومتدرج، بحيث يصبح كل إنجاز سياسي أو أمني مقدمة لإنجاز اقتصادي، والعكس صحيح. فالمسار المتوازن وحده يمنع العودة إلى منطق الصراع الصفري ويخلق مصالح مشتركة في الاستقرار.

من الضروري إنشاء آلية رقابة دولية متعددة الأطراف تشرف عليها الأمم المتحدة بمشاركة الاتحاد الأوروبي، ومصر، وقطر. هذه الآلية لا ينبغي أن تكون رمزية، بل فاعلة ميدانيًا، تتابع الالتزام ببنود الاتفاق، وتصدر تقارير دورية علنية. فوجود جهة محايدة وذات صدقية هو الضمان الأهم ضد التلاعب أو المراوغة من أي طرف.

ويُستحسن أن تُربط هذه الآلية بمجلس الأمن الدولي من خلال قرار يضفي شرعية قانونية على الاتفاق وعلى آليات تطبيقه. مثل هذا القرار سيجعل خرق الاتفاق مسألة ذات تبعات سياسية واضحة، ويمنح الأطراف العربية الداعمة له قوة تفاوضية إضافية في مواجهة الضغوط.

الالتزام باتفاق غزة لن يتحقق بالشعارات ولا بالنوايا الحسنة. إنه مسار طويل ومعقد يتطلب من الأطراف كافة شجاعة سياسية وإرادة مستمرة في التهدئة والتسوية. إسرائيل مطالَبة بإنهاء الاحتلال عمليًا وبوقف الاستيطان وإزالة الحصار. حماس مطالَبة بالانتقال من منطق المقاومة المسلحة إلى منطق المشاركة السياسية. والمجتمع الدولي مطالَب بأن يتخلى عن سياسة الكيل بمكيالين وأن يتعامل مع الطرفين بمعايير واحدة.

أما العرب، فمسؤوليتهم تتجاوز الوساطة إلى صناعة بيئة إقليمية جديدة تجعل من الاستقرار مصلحة استراتيجية مشتركة، لا مجرد هدنة مؤقتة. فبدون إعادة إعمار غزة ووقف الاستيطان والعنف في الضفة، سيبقى السلام هشًا والتهدئة عرضة للانهيار.

إن ضمان الالتزام باتفاق غزة ليس مهمة فنية أو إجرائية فحسب، بل اختبار لإرادة العالم في إنهاء عقود من العنف والاحتلال، ولقدرة العرب على استعادة دورهم كقوة توازن وحكمة في نظام إقليمي مأزوم.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى