د. عمرو حمزاوي: غزة: عن ضرورة الإغاثة وإعادة الإعمار فوراً
 د. عمرو حمزاوي 4-11-2025: غزة: عن ضرورة الإغاثة وإعادة الإعمار فوراً
تتواصل في غزة واحدة من أكثر الكوارث الإنسانية فداحة في التاريخ الحديث، وسط دمار واسع للبنية التحتية، وانهيار كامل للخدمات الصحية والتعليمية، وتشريد مئات الآلاف من الأسر التي فقدت المأوى والأمان. يعيش الفلسطينيون في القطاع اليوم وضعًا بالغ القسوة، تتراجع فيه القدرة على الوصول إلى الغذاء والمياه الصالحة للشرب، وتختفي فيه مقومات الحياة الأساسية التي يفترض أن تكون مصونة بحكم القانون الإنساني الدولي.
وفي ظل هذه المأساة الممتدة، تبدو المساعدات الإنسانية المتدفقة إلى القطاع غير كافية ولا منتظمة، وتعاني من عراقيل إسرائيلية متكررة ومن تعقيدات لوجستية وأمنية تعطل وصولها إلى من يحتاجونها. لا يمكن للعالم أن يقف متفرجًا على معاناة ملايين البشر المحاصرين في مساحة ضيقة ومهددة باستمرار بالاجتياحات والقصف. المطلوب اليوم تحرك عاجل، إنساني وأخلاقي قبل أن يكون سياسيًا، يضمن تدفق المساعدات الإغاثية بصورة دائمة وكاملة إلى داخل القطاع، بعيدًا عن حسابات الضغط والمساومة.
إن الحديث عن ترتيبات سياسية لما بعد الحرب، أو عن مستقبل الحكم في غزة، لا يمكن أن يكون مبررًا لتأجيل الإغاثة أو ربطها بمسارات تفاوضية معقدة. فالإغاثة ليست منّة سياسية بل التزام إنساني، وهي واجب على المجتمع الدولي تجاه شعب يعيش منذ سنوات طويلة في حصار خانق، وتحت تهديد مستمر بالعنف والدمار. ينبغي للأمم المتحدة والدول العربية الفاعلة، وعلى رأسها مصر والأردن وقطر والسعودية والإمارات، أن تنسق جهودها على نحو عاجل لإطلاق جسر إغاثي دائم يضمن تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية للسكان دون توقف.
كما أن الحديث عن إعادة إعمار غزة يجب ألا يُؤجل إلى ما بعد استقرار الوضع السياسي أو التوصل إلى اتفاق شامل بين الأطراف. فإعادة الإعمار ليست مشروعًا سياسيًا مشروطًا، بل ضرورة فورية لبقاء الحياة. يجب البدء فورًا في إصلاح ما يمكن إصلاحه من البنية التحتية، من المستشفيات والمدارس إلى شبكات المياه والكهرباء والمساكن المهدمة. الانتظار حتى «تحسُّن الظروف» يعني ببساطة ترك الناس للموت البطيء تحت الأنقاض، وتعميق دوائر الغضب واليأس التي تهدد أي أفق مستقبلي للاستقرار أو التسوية.
لقد أثبتت التجارب السابقة أن التأخير في إطلاق مشاريع الإعمار بعد الحروب لا يؤدي إلا إلى مزيد من الانهيار الاجتماعي والاقتصادي. فالمجتمع الذي يعيش وسط الركام، من دون أمل في تحسين أوضاعه، يصبح أكثر هشاشة وأكثر عرضة للتطرف والانقسام. ومن هنا، فإن البدء الفوري بإعادة الإعمار هو أيضًا فعل سياسي إيجابي بحد ذاته، لأنه يعيد الثقة بالقدرة على التعافي، ويمنح الفلسطينيين إحساسًا بأن العالم لم يتخلّ عنهم.
على القوى الإقليمية أن تضطلع بمسؤولياتها الأخلاقية والسياسية في هذا الاتجاه. فمصر، التي لعبت دورًا محوريًا في وقف إطلاق النار وفي إدارة المفاوضات غير المباشرة، راغبة وقادرة بالتعاون مع الأمم المتحدة والجهات المانحة على إطلاق خطة عاجلة لإعادة الإعمار، مع ضمان ألا تقع هذه الجهود رهينة التنافس الإقليمي أو الشروط السياسية المسبقة. كما يمكن للأردن وقطر والسعودية والإمارات أن تسهم ماليًا ولوجستيًا في هذا الجهد، بما في ذلك إنشاء صناديق تمويل خاصة بإعادة بناء المساكن والمرافق العامة، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للمدنيين الذين فقدوا كل شيء.
أما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فعليهما مسؤولية مضاعفة. فمن جهة، يمتلكان أدوات ضغط حقيقية على إسرائيل يمكن توظيفها لضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عراقيل ووقف القصف الذي يستهدف البنية التحتية المدنية. ومن جهة أخرى، فإن التزامهما الأخلاقي تجاه القانون الدولي وحقوق الإنسان يفرض عليهما المشاركة الجادة في تمويل وإدارة عملية إعادة الإعمار، لا الاكتفاء بالتصريحات أو الدعم الرمزي.
إن تحريك ملف الإغاثة والإعمار في غزة لا يمكن فصله عن ضرورة تغيير المقاربة الدولية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فاستمرار الحصار وتكرار الدمار كل بضع سنوات يؤكد أن إدارة الأزمة لم تعد كافية، وأن غياب الحل العادل يكرس دوامة العنف. لكن الانتظار حتى تحل المعضلة السياسية الكبرى قبل الشروع في إنقاذ الناس هو تخلٍّ عن المسؤولية الإنسانية. المطلوب اليوم هو الفصل بين المسارين: البدء الفوري بالإغاثة والإعمار كاستحقاق إنساني عاجل، مع مواصلة العمل على تسوية سياسية عادلة تضمن الحقوق الفلسطينية وتنهي الاحتلال.
غزة اليوم ليست مجرد عنوان للألم، بل اختبار صارخ لقدرة العالم على أن يكون إنسانيًا قبل أن يكون سياسيًا. من يقف عند حدود التردد أو يستخدم المساعدات كأداة نفوذ، يشارك في استمرار المأساة. ومن يمدّ يده الآن لإعادة الحياة إلى هذا المكان المنكوب، يسهم في بناء أمل جديد للفلسطينيين وللمنطقة بأسرها.
إن الإغاثة الفورية وإعادة الإعمار ليستا خيارًا مؤجلًا، بل ضرورة ملحّة تمليها الكارثة. وكل يوم يمر من دون تحرك فعلي هو يوم آخر من المعاناة، ومن موت المدنيين بصمت، ومن عجز العالم عن الوفاء بأبسط مبادئه الإنسانية.
 
 


