د. عبد المنعم سعيد: محاكمة السيد «بعض»!

د. عبد المنعم سعيد 2022-08-18
كان الأسبوع الماضي مزدحماً للغاية نتيجة ظروف حالية (الأزمة الاقتصادية)، وانفجارات تأتي وتذهب (حرب غزة الخامسة)، وأمور باتت معتادة (الجائحة وما يلمّ بها من تطورات بالزيادة والنقصان)، وأخرى باتت معتادة أيضاً، ولكنها تقضّ المضاجع نظراً لآثارها بالغة الألم (الحرب الأوكرانية)، وحوادث قتل مفجعة قام بها شاب بذبح شابة في الطريق العام لأنها رفضت الزواج منه. ولمَن كانت مهنته الكتابة المنتظمة، والتعليق المتواتر عبر وسائل إعلامية مختلفة ومتنوعة، (ولدينا منها الكثير الآن)، فإن الأسئلة وطلب التعليق تنهال بالصوت والصورة والسطور.
أكثر ما يُحيِّر في كل ما جرى ليس البحث عن إجابات لأسئلة مفيدة للرأي العام، وإنما ظهور شخصية عجيبة وغامضة، هي السيد «بعض»، الذي تُسند إليه أمور وآراء يُطلب التعليق عليها في التو واللحظة؛ لأن عطش الجمهور للإجابة يتناسب طرديّاً مع غرابة السؤال. قبل سنوات كان ينتابني غضب من السائل الذي رأيت أن عليه أن يبذل جهداً في تعريف الطارئ الجديد إلى ساحة التساؤل، وهل هو حزب سياسي أصدر بياناً بما قيل، أو أنه شخصية عامة كتبت مقالاً أو أبدت رأياً في وسيلة معروفة للنشر، أو أن الرأي جاء استنتاجاً من حجج ومعلومات جاءت في صفحات كتب، أو نُشرت عن طريق أجهزة مسؤولة محليّاً أو عالميّاً، وهكذا أمور. ولما كان البحث عن هوية للسيد «بعض» هذا بات أمراً يبعث على اليأس؛ لأنه ليس شخصية أو مصدراً يمكن تحديد أوله وآخره والرجوع إلى أصله وفصله، والظروف التي قال فيها ما قال أو حدث فيها ما حدث، فهو مثل «السديم» الذي جاءت به كتب الطبيعة، والذي هو في الأصل حالة غازية يمكنها عبر أزمان أن تتحول إلى أوضاع صلبة، أو أن تتفتت إلى «سُدم» أصغر، على الأرجح أنها تضيع في الذاكرة وتذهب إلى فناء الزمن.
حتى وقت ليس ببعيد كان السيد «بعض» يعني جزءاً من أمر أكبر، أو جناحاً في جماعة أو حزب، أو مجموعة من البشر، هو أداة من أدوات تقسيم تركيبة من الآراء أو المواقف أو أمور معدودة في الزمن، فيُقال بعضها هكذا، وبعضها الآخر كذلك، وهلمجرا.
ولكن ما يحدث الآن هو أن «البعض» هذا قد بات اتجاهاً أو «ترند Trend» له مقياس من الأهمية تُعزى إلى عدد المشاهدات أو المستخدمين له في المشاركة مع آخرين اجتمعوا على الاهتمام بأمر ما، أو لم يكن لديهم عمل يقومون به فجذبتهم غرابة الموقف أو غموضه أو ما يقدمه من حالة فاقعة، أو ظهرت فيه فرصة لمعارضة جمع من البشر أو الذوبان فيما يسيرون فيه. هي أدوات التواصل الاجتماعي إذاً التي دخلت إلى حياتنا خلال السنوات العشر الأخيرة، وربما قبل ذلك، لأنها في البداية تسللت إلى حياتنا كوسيلة للتعارف والارتباط، وإبداء الآراء، ولكنها اقتحمت حياتنا بثورات قلبت نظماً وأطاحت حكاماً، والآن فإنها تشن حرباً من حروب الجيل الرابع، على حد توصيف الصديق الطبيب والمفكر والسياسي د. حسام بدراوي، في حديث له مع الأستاذ نشأت الديهي. وبصرف النظر عمّا إذا كان ظهور السيد «بعض» على هذه الطريقة هو الجانب الآخر السلبي من تطور تكنولوجي بعينه، كما حدث منذ اختراع النار؛ أو أنه وسيلة عمدية لتفتيت الأمم، فإن العقل يستدعي بعض الحكمة والحرص في التعامل معه.
علينا أن نسجل في البداية أن وسائل التواصل الاجتماعي يمكنها أن تكون سبباً في المعرفة وانتشارها، بقدر ما تكون سبباً في خلق روابط حميدة بين الناس. ولكن على الجانب الآخر، فإن أمراضها مفزعة، فالسيد «بعض» مدمن للتبسيط والسخف، ويزعجه كثيراً، أو هكذا يأتي عند طرح أسئلة مشتقة منه، أي من مستويات التركيب والتعقيد في الظواهر؛ هو لديه موقف بالغ السلبية من المرأة في عمومها، ولا يراها إلا مركباً للفتنة والغواية والغدر في النهاية، ومن الآخر خاصة في بلادنا مع المختلف دينيّاً أو مذهبيّاً، ومن الغرباء. هو مستودع لنظريات المؤامرة وما تحتويه من ذيوع للخوف وفقدان الثقة بالنفس، وتقديره الدائم هو أننا يجري التلاعب بنا في كل الأوقات التي تقودنا شئنا أم أبينا إلى هوة سحيقة. ما يأتي معه على الأغلب يميل إلى الماضي، وبقدر ما كان الحاضر تعيساً، فإن المستقبل ظلام بلا بصيص ضوء. الخارطة الذهنية للسيد «بعض» تكاد تتطابق مع الكثير ممّا تدلي به تيارات «الإخوان» و»القاعدة» و»داعش» وتابعوهم الذين ينتشرون في دوائر إعلامية قريبة. الإجابة عمّا يأتي على لسان السيد «بعض» هي كثير من العلم.