منوعات

د. سليمان إسماعيل الديك: في الذكرى ال 61 لانطلاقة حركة فتح: لماذا تبقى فتح عنوان المشروع الوطني الفلسطيني؟ وكيف صمدت السلطة في أصعب لحظات التاريخ؟

د. سليمان إسماعيل الديك 27-12-2025: في الذكرى ال 61 لانطلاقة حركة فتح: لماذا تبقى فتح عنوان المشروع الوطني الفلسطيني؟ وكيف صمدت السلطة في أصعب لحظات التاريخ؟ 

مع اقتراب الذكرى الواحدة والستين لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وانطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح، التي انطلقت في الفاتح من كانون الثاني/يناير عام 1965، تعود الذاكرة الفلسطينية إلى تلك اللحظة المفصلية التي غيّرت مسار القضية الفلسطينية، وأعادت للشعب الفلسطيني ثقته بنفسه وبقدرته على الفعل والمواجهة.

نشأت حركة فتح فعليًا في أواخر خمسينيات القرن الماضي على يد مجموعة من الشباب الفلسطيني الثائر، المؤمن بحقه ووطنه، ممن خاضوا تجارب العمل الفدائي في قطاع غزة، وشاركوا في مواجهة العدوان الثلاثي على جمهورية مصر العربية عام 1956. ومن بينهم ياسر عرفات، وخليل الوزير “أبو جهاد”، وعادل عبد الكريم، وعبد الله الدنان، ويوسف عميرة، وتوفيق شديد، وغيرهم، ممن التقوا في الكويت وعواصم عربية أخرى، ليؤسسوا لحركة أعادت الاعتبار للفعل الفلسطيني المستقل والقرار الوطني الحر.

وبرز الدور التاريخي الكبير لحركة فتح بعد هزيمة حزيران عام 1967، حين جاءت معركة الكرامة عام 1968 لتشكّل علامة فارقة في مسيرة الثورة الفلسطينية، إذ انتصرت إرادة الفدائي الفلسطيني إلى جانب الجيش الأردني، ولقّنت الاحتلال درسًا لا يزال حاضرًا في الذاكرة السياسية والعسكرية حتى اليوم.

قادت حركة فتح العمل الوطني في الانتفاضة الأولى عام 1987 من خلال القيادة الوطنية الموحدة، وأسهمت في انتفاضة الأقصى عبر انخراط كوادرها الميدانية، ومن بينهم عناصر من الأجهزة الأمنية الفلسطينية، في الاشتباكات مع قوات الاحتلال، إلى جانب دورها في فضح ممارسات الاحتلال في المحافل الدولية، وتوسيع شبكة العلاقات الدولية للقضية الفلسطينية، استنادًا إلى القانون الدولي وحق الشعوب في تقرير مصيرها.

وعلى مدار عقود، لعبت حركة فتح دورًا محوريًا في الحفاظ على الهوية والكينونة الفلسطينية، في وقت سعت فيه قوى عديدة إلى تذويب هذه الهوية. فدعمت صمود اللاجئين الفلسطينيين في الشتات، وجمعت الفلسطينيين حول راية وهوية واحدة، وثبّتت اسم فلسطين في الوعي العربي والدولي، وقادت النضال السياسي والعسكري، وأسهمت في بناء النظام السياسي الفلسطيني وتعزيز المؤسسات الوطنية، وصولًا إلى قيام السلطة الوطنية الفلسطينية كإنجاز وطني متقدّم على طريق الدولة.

وهنا أستأذن قرّائي الكرام أن أتحدّث بضمير المتكلم. فقبل شهرين ونيّف، وأثناء مناقشتي لأطروحة الدكتوراه، طرح عليّ أحد أعضاء لجنة المناقشة سؤالًا مباشرًا وعميقًا:

من وجهة نظرك، “ما الفصيل الفلسطيني الأكثر قدرة على تجاوز هذه اللحظة التاريخية الصعبة التي تمر بها القضية الفلسطينية، ولماذا؟”

كان جوابي دون تردّد: “حركة فتح”.

ولم يكن هذا الجواب تعصّبًا، بل قراءة سياسية واقعية. فقد أكّدت أن فتح، بخبرتها الطويلة في الصراع، وبتراكم تجربتها السياسية والكفاحية، وبقدرتها على الجمع بين العمل الميداني والمؤسساتي والدبلوماسي، هي الأقدر على التعامل مع المراحل المعقّدة، وامتصاص الصدمات، وإعادة التوازن للمشروع الوطني الفلسطيني في أحلك الظروف والأزمات.

ومن هنا، نقولها بوضوح ومسؤولية: إن تجربة فتح، بكل ما حملته من تضحيات وإنجازات، شكّلت العمود الفقري للمشروع الوطني الفلسطيني، وكانت عاملًا حاسمًا في إبقاء القضية الفلسطينية حيّة وحاضرة في الوعي السياسي العالمي.

تحلّ هذه الذكرى هذا العام في ظل ظروف استثنائية وقاسية، يواصل فيها الاحتلال ارتكاب جرائمه بحق شعبنا الفلسطيني، ويصعّد عدوانه الوحشي على كل ما هو حي، مخلفًا مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين، ومدمّرًا بشكل ممنهج مقوّمات الحياة في قطاع غزة، في مشهد لم يعرف له التاريخ الحديث مثيلًا. وبالتوازي، لا يتوقف الاحتلال عن جرائمه في الضفة الغربية والقدس المحتلة، من إعدامات ميدانية وحملات اعتقال جائرة، إلى تهويد المقدسات، وتوسيع الاستيطان، وفرض وقائع تهدف إلى اقتلاع شعبنا من أرضه وكسر إرادته.

ورغم هذا العدوان الممنهج، ورغم الضغوط السياسية والاقتصادية الهائلة، واصلت وتواصل السلطة الوطنية الفلسطينية دورها في تثبيت صمود شعبنا، والحفاظ على مؤسساته، والدفاع عن حقوقه في المحافل الدولية، مؤكدة أن الفلسطيني ليس مجرد ضحية، بل صاحب حق ومشروع دولة.

وفي ختام هذا المقال، لا يسعنا إلا أن نتقدّم بكل مشاعر الاعتزاز والتقدير لأرواح شهدائنا الأبرار، ولأسرانا الأبطال، ولجرحانا البواسل الذين قدّموا من أعمارهم وصحتهم دفاعًا عن فلسطين. ويبقى الأمل بالحرية والاستقلال والكرامة حيًّا في وعينا الوطني، لا ينطفئ مهما اشتدّ الظلام.

وهنا نستحضر ما يردّده الرئيس الفلسطيني محمود عباس دومًا “لن يضيع حقٌّ وراءه مُطالب”. ونحن أصحاب حق، وما دمنا نطالب به ونحمله إيمانًا ونضالًا وصبرًا، فإن فجر التحرّر آتٍ لا محالة.

التحية لشعبنا الفلسطيني الصامد في الوطن، وفي الشتات، وفي مخيمات اللجوء، حيث بقيت فلسطين حيّة في القلوب رغم البعد والمعاناة.

ولا بدّ لليل الاحتلال أن ينجلي، ولا بدّ لفجر الحرية أن يشرق يومًا، ولنا لمّ شملٍ قريب نراه ونؤمن به، على أرض فلسطين حرّة، سيّدة، كما تستحق، بإذن الله.

*باحث في الشأن الفلسطيني، حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من جامعة قازان الفيدرالية في روسيا.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى