أقلام وأراء

خالد عكاشة: المصير الغائم لمعادلة الأمن الإقليمى «2»

خالد عكاشة 14-12-2024: المصير الغائم لمعادلة الأمن الإقليمى «2»

خالد عكاشة: المصير الغائم لمعادلة الأمن الإقليمى «1»

كتبت الحلقة الأولى من هذه السلسلة، ونشرت الأسبوع الماضى قبل يوم واحد من رحيل النظام السورى بالصورة المفاجئة التى أثارت عاصفة من التساؤلات، عما جرى وكيف وقع بمثل تلك السرعة، على عكس ما واجه به النظام الحراك الشعبى فى 2011. حينها بدا أنه يمتلك من الأدوات والأوراق التى سمحت له بمواجهة الموقف، حتى وهو يتطور من حراك شعبى ليصير نزاعا مسلحا هدد مصير الدولة السورية برمتها، وبالمناسبة لا يمكن بأى حال فصل ما جرى فى الأسبوع الأول من ديسمبر 2024، عن مقدماته التى اندلعت فى مارس 2011 واستطالت زمنيا لتعبر عديدا من المراحل حتى وصلت إلى محطتها الأخيرة، لتمثل أطول عملية تغيير شهدتها المنطقة حتى استقرت بسقوط نظام البعث، وفتح الأبواب أمام مخاوف وهواجس عدة لها من الشواهد ما يبررها، فضلا عن تأكيدها أن معادلة الأمن والاستقرار الإقليمى باتت على موعد مع مزيد من الغيوم وسحب القلق الكثيفة.

عشية فتح الملف السورى، كانت مكونات المشهد الإقليمى تقف عند منحنى خطير محمل بنتائج ثقيلة ومركبة، بعد أربعة عشر شهرا من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. والثابت أنها عدت جولة عدوان استثنائية فشلت فيها الحلول الدبلوماسية وجهود الوساطة الإقليمية والدولية، من كبح جماح انزلاقها تجاه اتساع دائرتها خارج حدود جغرافيتها الفلسطينية الإسرائيلية، وتمدد أهدافها السياسية من كسر إرادة المقاومة الفلسطينية وتكريس واقع الاحتلال الإسرائيلى، إلى الخروج والاشتباك مع الملفات العالقة فى الإقليم من وجهة نظر معادلة الأمن الإسرائيلية. مثل الملف الإيرانى أولوية لم تخفها تل أبيب لا قبل الحرب على غزة، ولا خلال شهورها الممتدة التى شهدت لأول مرة سجالا بالنار بين الطرفين لكن بقى الأخطر، أن الخروج الإسرائيلى شهد حربا قصيرة المدة شنت على الدولة اللبنانية، من أجل إعادة ترتيب موازين القوة مع «حزب الله» أقوى الكيانات الإيرانية. وبحسب الخطوات التكتيكية الإسرائيلية التى انتهجتها إسرائيل من خلال توسيع الأهداف السياسية للحرب على غزة، بدا واضحا أنها خططت وأعلنت عن جاهزيتها لتحقيق هدف إستراتيجى يتمثل فى الإضرار البالغ بالمشروع الإيرانى فى المنطقة.

التداخل الأمريكى فى هذا التحول والتطوير الإسرائيلى لمسار الحرب على غزة، لعب دورا محدودا فى الترشيد لا أكثر، فهو فى جانب كبير منه يحقق أهدافا أمريكية وقد لا يزعجها كثيرا إجراء بعض الترتيبات الإقليمية، غير المؤثرة على الصورة الكلية من وجهة نظر الولايات المتحدة. لكن اللافت والأهم هو مدى السماح الأمريكى الذى منحته لإسرائيل وحجم مساعدتها لها لتحقيق هذا الهدف، فى غياب تقدير مخاطر التوغل فى جغرافيا تمدد المشروع الإيرانى، فهى بالنهاية مسارات لدول ومناطق مثقلة بتعقيدات مركبة تتجاوز بكثير عملية تقليص الأذرع الإيرانية. على الجانب المقابل ارتكبت إيران خطأ استراتيجيا، فحساباتها لم تكن دقيقة فى أى من مراحل التصعيد الإسرائيلى، أهم تلك الحسابات أنها لم تخلق التوازن الفعال بين تحقيق المكاسب من انخراطها الافتراضى فى الحرب على غزة، وبين قدرات وحجم التأثير لأذرعها فى معادلة ردع لم تكن فى مصلحتها، رغم تنوع الجبهات التى كان يمكنها أن تمثل تهديدا حقيقيا، لم يعبر عن نفسه بالقدرة الكافية.

أبرز ملامح الخلل والارتباك الاستراتيجى الذى شاب المشروع الإيرانى، وجعله يدفع هذه الكلفة الباهظة التى لم تتكشف أبعادها بعد، جرى على أراضى الدولة السورية وداخل دوائر صنع القرار السورى، فخيار النأى بالنفس والصمت الكامل للنظام لم يعكس سوى حالة رمادية لم تنتج آثارها، أو بالأدق غاب عنها الموقف المتكامل الذى يمكن البناء عليه فى إطار المصالح العليا للدولة السورية. استغلت طهران الأراضى السورية كخطوط إمداد لحزب الله فى الجنوب اللبنانى، فضلا عن اعتبارها ساحة خلفية للعمل الاستخباراتى الذى يخدم إدارة طهران لأذرعها فى مختلف بلدان المنطقة. هذا النشاط وبوقائع ولقاءات مثبتة ومراقبة من الاستخبارات الإسرائيلية، أو بمعلومات حقيقية متكاملة جرى تمريرها من الجانب الأمريكى الذى لم يكن بعيدا، عرض الداخل السورى لعديد من الضربات الإسرائيلية المؤثرة واستباح الأمن السورى بصورة لافتة، فى الوقت الذى حرم الرئيس بشار الأسد من حصد مكاسب موقفه المتباعد عن الحرب فى غزة، أو حتى بعد التطور الذى طال لبنان وحليفه الوثيق حزب الله.

مؤخرا نشرت صحيفة وول ستريت جورنال أن فريق إدارة الرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب يدرس الخيارات المتاحة أمام إدارته، لمنع إيران من القدرة على صنع سلاح نووى، ومن ذلك إمكانية شن ضربات جوية وقائية. وهذه بالتأكيد تعد خطوة من شأنها بدء التحول الإستراتيجى عن السياسة القائمة منذ فترة طويلة المتمثلة فى احتواء طهران بالدبلوماسية والعقوبات، وتؤكد الصحيفة أن خيار الضربة العسكرية للمنشآت النووية الآن يخضع لمراجعة أكثر جدية من قبل بعض أعضاء فريقه الانتقالي. حيث يعتقد المسئولون الانتقاليون وفق التقارير التى يبحثونها، أن موقف إيران الإقليمى الضعيف، والكشف الأخير عن الأنشطة النووية المزدهرة لطهران بما فيها التطور الكبير الذى أحرزته فى عملية التخصيب، حيث تمتلك إيران من اليورانيوم العالى التخصيب ما يكفى لصنع 4 قنابل نووية، ذلك يجعلها الدولة الوحيدة غير النووية التى تنتج مواد انشطارية تقترب من تصنيع الأسلحة بنسبة تتجاوز 60%، بحيث لن يستغرق الأمر سوى بضعة أيام لتحويل هذا المخزون إلى وقود نووى صالح للاستخدام فى صنع الأسلحة، هذا أدى إلى تحفيز المناقشات الأمريكية الداخلية الحساسة. الأكثر حساسية هو أن الرئيس الأمريكى القادم يبحث هذا الأمر، مع رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو، فهناك تأكيد من مصادر أمريكية أن مكالمة هاتفية جمعتهما مؤخرا أعرب فيها الرئيس ترامب عن أنه يشعر بالقلق بشأن إمكانية الاختراق النووى الإيرانى أثناء ولايته القادمة، مما يشير إلى أنه يبحث بجدية عن مقترحات لمنع هذه النتيجة.

الإقليم بلا شك، تنتظره تفاعلات لم تستقر بعد، وما جرى فى سوريا خلال فترة وجيزة للغاية هو الآخر لم يستقر، وإن ظل المشهد حتى بعيدا عن سوريا فيه ما بعده أيضا.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى