بشار مرشد: مستقبل الصحافة… بين الحياد والإيحاء الموجَّه

بشار مرشد 30-9-2025: مستقبل الصحافة… بين الحياد والإيحاء الموجَّه
المقدمة:
يتساءل الجميع اليوم عن مستقبل الصحافة في عالم تتسارع فيه المعلومات وتتشابك فيه الأجندات الإعلامية والسياسية. الصحافة، التي كانت دائمًا مهنة البحث عن الحقيقة، تواجه تحديًا جوهريًا: هل ستبقى ملتزمة بالحياد والمصداقية، أم ستستسلم للإيحاء الموجَّه لإرباك الضيف، وإثارة المشاهد، وإرضاء المؤسسة الإعلامية؟ المعضلة ليست مجرد تكتيك في صياغة السؤال، بل اختبار أخلاقي وفلسفي يضع الصحفي على مفترق طرق بين دوره كبـاحث عن الحقيقة ودوره كمحاور يستخدم الإيحاء كسلاح.
أنواع الأسئلة الصحفية:
أولًا: الأسئلة المهنية
1. الأسئلة المفتوحة: تسمح للضيف بالتفصيل والتوضيح.
2. الأسئلة الاستفهامية المباشرة: (من، ماذا، متى، أين، لماذا، كيف) للحصول على أساسيات الخبر.
3. الأسئلة التوضيحية والمتابعة: تعمّق في الإجابات الغامضة.
4. الأسئلة الاستدراجية المهنية: تكشف تفاصيل خفية دون اتهام.
5. الأسئلة الإنسانية: تعطي القصة بعدًا شخصيًا وبشريًا.
ثانيًا: الأسئلة الموجَّهة (الإيحائية):
هذا النوع يهدف إلى إحراج الضيف وتشكيل رأي الجمهور، ويمكن تفصيله كالتالي:
1. الأسئلة الإيحائية: تحمل الإجابة ضمنيًا وتضغط على الضيف للإقرار بموقف معين.
مثال عام: “أليس صحيحًا أن قراركم أدى بشكل واضح إلى تدهور الوضع الاقتصادي؟” (بدلاً من السؤال عن نتائج القرار بشكل محايد).
2. الأسئلة الاستنكارية: تضع الضيف أمام تناقضات أو انتقادات صريحة.
مثال عام: “كيف تبرر هذا الإجراء الذي وصفه النقاد بأنه خطوة للوراء، وتنتظر منا أن نصدق نواياكم؟” (يحتوي على حكم مسبق).
3. الأسئلة الافتراضية المحاصِرة: تصنع سيناريوهات تجبر الضيف على الدفاع.
مثال عام: “إذا ثبتت صحة الشائعات بأن الفريق الآخر كان يخطط لخطوة مضادة، فما هو الخيار الكارثي الذي ستلجأون إليه حينها؟” (يبني الحوار على فرضيات سلبية وغير مؤكدة).
4. الأسئلة المصمَّمة للإيقاع: تهدف إلى إظهار براعة الصحفي وإحداث لحظة مثيرة، لا كشف الحقيقة.
مثال عام: “بما أنك اعترفت في عام (كذا) بأنك غير قادر، فما الذي تغير اليوم لتجعلنا نثق بقدرتك على هذا التحدي؟” (تركيز على نقطة ضعف قديمة لإحداث دراما).
5. المقاطعة التعجيزية: تتم عبر طرح سؤال جديد وحاسم أثناء إجابة الضيف (دون استيفاء إجابته)، بهدف إرباكه وتعجيزه ومنع تقديم حجة مقنعة للمشاهد.
دوافع وأهداف كل نوع من الأسئلة:
الأسئلة المهنية تهدف أساسًا إلى البحث عن الحقيقة وخدمة الجمهور وتوضيح الواقع، كما تسعى لتوثيق الأحداث وتحمل المسؤولية الإعلامية، وتعزز مصداقية الصحفي والمؤسسة التي يمثلها.
في المقابل، الأسئلة الموجَّهة تسعى لإحراج وإرباك الضيف، وصناعة الإثارة لجذب الجمهور، وفي بعض الأحيان إبراز مهارة الصحفي أمام الكاميرا أو المؤسسة، وأيضًا خدمة أجندة المؤسسة أو أهداف سياسية محددة.
الخطورة الاجتماعية والفلسفية:
التحول من الأسئلة المهنية المحايدة إلى الأسئلة الموجَّهة له آثار عميقة. على الجمهور، يؤدي إلى تشويه الحقيقة وتشكيل وعي منحاز وفقدان الثقة بالمعلومات.
أما على المؤسسة الإعلامية، فيتسبب في تراجع المصداقية وتحولها إلى مصنع إثارة بدل منصة معرفة.
وعلى الصحفي نفسه، يؤدي الانزلاق إلى فقدان الضمير المهني وتدهور دوره الاجتماعي والفلسفي بوصفه ميسِّراً للوعي.
وعلى صعيد أوسع، يهدد هذا التوجه وظيفة الصحافة كـ السلطة الرابعة، وقد يتحول الإعلام إلى أداة لـ الاحتلال الفكري واستعمار الرأي، حيث يُوجَّه الجمهور لتصديق الحقائق كما يريد الصحفي أو المؤسسة، لا كما هي.
إن المعضلة ليست مجرد تكتيك في صياغة السؤال، بل مسألة أخلاقية وفلسفية تؤثر على المجتمع بأسره.
الحلول والمعايير الأخلاقية:
لمواجهة هذا الانزلاق، يجب تفعيل أدوات الضبط الأخلاقي والمهني. يبرز هنا دور النقابات المهنية في صياغة مواثيق شرف ملزمة أدبيًا، والتأكيد على ضرورة التزام المؤسسات الإعلامية بالمعايير الأخلاقية الدولية.
يمكن تعزيز هذا الالتزام أيضًا عبر معاهدات واتفاقيات دولية تكفل الاستقلالية التحريرية للصحفي، وتوفر حماية من الضغوط والأجندات السياسية أو الاقتصادية.
تفعيل هذه المعايير يشكل خط الدفاع الأول لضمان بقاء الصحافة مهنة تبحث عن الحقيقة، لا أداة لتوجيه الرأي العام.
الخاتمة:
في النهاية، سيبقى مستقبل الصحافة مرتبطًا بالقدرة على الحفاظ على الحياد والمصداقية، رغم الإغراءات المتزايدة للإيحاء الموجَّه.
الصحفي الذي يلتزم بالمهنية يظل باحثًا عن الحقيقة، جسرًا بين الوقائع والجمهور، وراعيًا للثقة التي وضعها المجتمع في يده.
أما من يتحوّل إلى محاور يستخدم الإيحاء كأسلوب لإرباك الضيف أو لإرضاء المؤسسة، فإنه لا يضرّ نفسه فحسب، بل يهدد وظيفة الصحافة كالسلطة الرابعة، ويخاطر بتحويل الإعلام إلى أداة لاحتلال فكري واستعمار معرفي.
المسألة تتجاوز المصلحة المادية أو الأجندات السياسية؛ إنها مسألة مصداقية ووعي اجتماعي واستقلال فكر.
الصحفي الذي يفقد حياده لا يُفرِّط بالحقائق فحسب، بل بثقة المجتمع أيضًا، ويترك القارئ مع سؤال صريح: هل سيبقى الإعلام وسيلة تمكين للوعي، أم يتحوّل إلى آلة لتشكيل الواقع حسب رغبة القوي؟
في عالم تتسارع فيه الأخبار وتتضخم فيه المعلومات المضللة، سيبقى البحث عن الحقيقة واجبًا مقدسًا، ومسؤولية الصحفي أكثر من أي وقت مضى أن يحافظ على هذا التوازن، بين الإحاطة بالوقائع وبين حماية عقلية وحرية الجمهور.