منوعات

بشار مرشد: الانتحار الحضاري البطيء.. عندما يصبح التحذلق بديلًا عن الإنتاج

بشار مرشد 25-12-2025: الانتحار الحضاري البطيء.. عندما يصبح التحذلق بديلًا عن الإنتاج

يعيش عالمنا العربي اليوم حالةً يمكن توصيفها بـ الانتحار الحضاري البطيء؛ حيث لا تموت الأمة بزلزال مفاجئ، بل بتآكلٍ ذاتيٍّ ناعم، تُستبدل فيه الإرادة بالاتكال، والفعل بالقول، والمختبر بالخرافة.

ولسنا – كُتّابًا ومثقفين – خارج هذا المشهد. فنحن أيضًا شاركنا، بوعي أو بدونه، في تحويل النقد إلى بديل مريح عن الفعل، والكتابة إلى مساحة تفريغ لا إلى أداة تغيير. كثيرًا ما اكتفينا بتشخيص العطب من مقاعد المتفرجين، ورضينا بدور الشاهد الذكي بدل العامل المتورط. هذه ليست تبرئة للذات، بل إدانة صريحة لها بوصفها جزءًا من الخلل لا استثناءً منه.

أولًا: وهم القوة وانفصال النخبة:

تبدأ الحكاية من القمة؛ حيث تُقاس القوة لديهم بعدد الأسلحة التي تُشترى لا التي تُصنع. إن الضعف الذي تعانيه الجيوش ليس نقصًا في الشجاعة، بل هو نتيجة حتمية لغياب البيئة المنتِجة. فالمقاتل بلا عالم فيزياء، وبلا فني ميكانيك، وبلا مزارع يؤمّن غذاءه، هو مقاتل يرتدي درعًا مستعارًا، سيسقط بمجرد أن يقرر “الصانع الحقيقي” قطع الإمداد عن أجهزته.

ثانيًا: نكبة البيان… بلاغة الكلام في عصر الفعل:

لقد ارتدّ العقل العربي إلى عصور تقديس الكلام على حساب الفعل، حتى أصبحت البلاغة الجوفاء هي المعيار الوحيد للتميّز. نحن أمة تتقن توصيف الأزمات ولا تتقن حلها، وتبرع في التحذلق اللفظي بينما يبرع العالم في الإنجاز المادي. لقد اعتبرنا القدرة على صياغة الجمل المنمقة والسخرية اللاذعة نوعًا من الذكاء، بينما هي في الحقيقة آلية دفاعية للهروب من استحقاقات العمل الشاق. في مجتمعنا، يُرفع شأن المتحدث ويُهمّش الصانع، مما جعلنا ظاهرة صوتية ضخمة في عالم لا يحترم إلا من يملك القدرة على التنفيذ.

ثالثًا: الطفولة المستلبة… بين التفكيك والإدمان:

إن جذور هذا الانتحار تبدأ من أطفالنا؛ وهنا تظهر الفجوة المرعبة بيننا وبين الدول المنتجة. ففي المجتمعات التي تبني القوة، يتم تحريض الطفل على تفكيك الأجهزة ومحاكمتها علميًا وفهم خوارزمياتها ليكون سيدًا للآلة. أما عندنا، فقد تحوّل الطفل إلى عبدٍ للآلة ومستهلكٍ مدمن على واجهاتها البراقة. نحن نربي مستخدمين مدمنين يبرعون في المحاكاة الافتراضية والابتزاز الرقمي، بينما يربي العالم منتجين يبرعون في تحويل المادة الخام إلى تكنولوجيا سيادية.

رابعًا: شماعة المؤامرة… من الإبرة إلى “التساوق” مع الهزيمة:

لقد استمرأ العقل الجمعي العربي تعليق فشله على شماعة المؤامرة الدولية، حتى وصل الأمر إلى أبسط مقومات العيش. نتحدث عن القوى التي تمنعنا من التصنيع الثقيل، بينما نعجز عن تحقيق الاكتفاء الذاتي في زراعتنا وصناعاتنا التقليدية.

والحقيقة المرّة هي أننا لا نقع ضحية للمؤامرة فحسب، بل نتساوق معها بوعي أو بدونه؛ فالمؤامرة قد تضع “القفل” على الباب، لكننا نحن من “نلقي بالمفتاح في البحر” حين نستسلم للعجز المكتسب. نحن نحقق أهداف الخصم بالضبط عندما نُعمم المنع الخارجي ليصبح شللاً داخلياً، فنمتنع عن فعل “الممكن” (كصناعة الإبرة) بحجة أن “المستحيل” محظور علينا. إن المؤامرة الحقيقية ليست في منعنا من الصعود، بل في إقناعنا بأن الجلوس في القاع هو قدرٌ لا رادّ له، وبأن كل جهد إنتاجي صغير هو عبثٌ لا قيمة له أمام جبروت “الآخر”. بهذا السلوك، نتحول من ضحايا للمؤامرة إلى حراسٍ لها، نُسفهُ المبادرة، ونكرّس التبعية، وننتظر من الخارج أن يطعمنا ويكسونا ونشكره في وجهه بينما نلعنه في حواراتنا ومقالاتنا.

خامسًا: خدر المعجزة وتزييف فلسفة الإعمار:

ولكي تكتمل حلقة الانتحار، يتم تخدير المجتمع بخطاب يكرّس الخرافة كبديل عن الأخذ بالأسباب. والمفارقة أن هذا الخطاب خان جوهر الدين الذي بدأ بـ “اقرأ”، وجعل عمارة الأرض غاية الوجود الإنساني. لقد استُبدلت فريضة التدبير وبحث السنن الكونية بخدر الانتظار القدري، متناسين أن السماء لا تُمطر تكنولوجيا. إن زيف هذه القداسة ينكشف حين نرى كيف عُطلت العقول عن العمل، وحُوّل الدعاء من وسيلة للاستعانة إلى حجة للاستكانة.

سادسًا: الفئة المغيَّبة… صمود يتآكل تحت وطأة الترند:

أما الكفاءات الحقيقية التي كان يُرجى منها الإصلاح، فهي تتعرض اليوم لعملية هرس اجتماعي ممنهجة. إن ضغط الحاجة الأساسية، وسطوة الترند، والتوجه الجمعي نحو الربح السهل، قد أجبر العالِم والفني والمعلم على الانزواء أو الانتحار مهنيًا للالتحاق بقطيع الاستهلاك. يكفي أن ننظر إلى مصير آلاف خريجي كليات الهندسة والعلوم، الذين انتهى بهم المطاف إلى الهجرة او هجر تخصصاتهم لا لضعفهم، بل لغياب أي بيئة تحترم مهاراتهم. و تتحول الجامعات إلى مطابع للشهادات ويتحول المهندس إلى مسوّق، والعالِم إلى صانع محتوى، والمعلم إلى بائع خدمات رقمية، لا لأنهم لا يؤمنون بالإنتاج، بل لأن المجتمع لم يترك للمنتِج مكانًا يعيش فيه دون أن يُسحق اقتصاديًا. وهكذا، ينجح المجتمع في تجريف تربته الصالحة، ليُصبح المغيَّبون بفعل الحاجة شهودًا صامتين على نهاية الحلم بالإنتاج.

الخاتمة:

إن هذا التشخيص ليس مجرد نقد للواقع، بل ناقوس الخطر الأخير الذي يُقرَع قبل توقف القلب عن النبض؛ وقلب الأمة هو إرادتها. فإذا ماتت إرادة الفعل والإنتاج في روح المجتمع، أصبح الجسد مجرد هيكل استهلاكي ينتظر الفناء.

والسؤال الحقيقي ليس: هل ما زال هناك وقت؟

بل: كم عقلًا منتجًا يمكن إنقاذه قبل أن يصبح الانتحار الحضاري فعلًا مكتمل الأركان لا مجرد مسار بطيء؟

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى