إميل أمين: عن الإدارة الأميركيّة والمغامرة الفنزويليّة
إميل أمين 4-11-2025: عن الإدارة الأميركيّة والمغامرة الفنزويليّة
هل الولايات المتّحدة الأميركيّة على شفا مغامرةٍ عسكريّةٍ جديدة في فنزويلا؟
مؤخَّرًا، أعلن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، أنّ بلاده أكملتْ خطَّتَها الدفاعِيّة، واستعداداتها الرسميّة والشعبويّة، انتظارًا للتحرّكات السرّيّة والعلنيّة من جانب إدارة الرئيس ترمب، والذي يَتَّهم مادورو بالضلوع المباشر في عمليّات تهريب المخدرات.
تتسارع الأحداث في الأيام الأخيرة، لا سِيَّما بعدما أعلن سيد البيت الأبيض أنه أعطى الضوء الأخضر لوكالة الاستخبارات الأميركيّة CIA للقيام بعمليات استخبارية سرّيّة ضد كركاس، عطفًا على القيام بتوجيه ضربات في العمق الفنزويلي، بعدما قصفت البحرية الأميركية عشوائيًّا العديد من القوارب والقطع البحريّة الفنزويلية من جَرَّاء التهمة عينها.
والشاهد أن السؤال الرئيس الذي لم يَعُدْ يُهْمَس به في المَخادع الأميركيّة، بل يُنَادَى به من فوق السطوح: “هل حان أوان تغيير النظام الفنزويلي بالقوة، في مغامرة قد تدخل الولايات المتحدة الأميركية في أزمة عميقة مع بقية دول القارة اللاتينية؟
قبل الجواب المباشر، ربما يَعِنُّ لنا تذكير القارئ بأن الجزء الغربي من العالم، وبحسب مبدأ مونرو 1823، يُعَدّ فضاءً استراتيجيًّا جغرافيًّا للولايات المتحدة الأميركية، ولا يمكن السماح في أي وقتٍ من الأوقات بوجود حضور سياسي مُهَدِّد للنفوذ الأميركي على أيٍّ من تلك البقعة الجغرافيّة من الكرة الأرضيّة.
من هنا، يمكن القطع بأنّ إشكاليّة فنزويلا في واقع الحال، لها دوافع تتجاوز قضيّة تهريب المخدّرات، الأمر الذي تقوم به كولومبيا والمكسيك وبنما بحسب الاتهامات الرسميّة الأميركيّة.
رصدت إدارة الرئيس ترمب مبلغ خمسين مليون دولار للقبض على مادورو، مُسْقِطَةً بذلك فكرة الحصانة الدولية التي يتمتّع بها رؤساء الدول.
موسم الصيد الأميركي في أميركا اللاتينية، قد يبدأ قولًا وفعلًا بمادورو، الرجل الذي من سوء طالعه، وجود روبيو الصغير القادم من ميامي، وزيرًا للخارجية الأميركيّة، حيث يقول إنّه تَعَرَّض لمحاولة اغتيال من تدبير مادورو وأعوانه.
يبدو الحشد المُهَدِّد للأصول البحرية والجوية في محيط فنزويلا يوحي بلمحة من السعي “لتغيير النظام” الحاكم.
حين وجهت مذيعة فوكس نيوز تساؤلًا لروبيو في هذا الشأن، طرح روبيو حجّةً جديدة، غالبًا ستثير حسدًا لدى متقاعدي بوش الابن: “ليس هناك تغيير للنظام إذا كان رئيس الدولة غير شرعيّ فعليًّا”.
على أنّ نظرةً محقّقة ومدققة لمُجرَيات الأحداث في الأسابيع الأخيرة، ربّما تدفعنا للقطع بأنّ هناك سيناريو ما يتمّ ترتيبه بالفعل لتغيير الأوضاع وتبديل الطباع في الدولة النفطية الأهم في القارة المرتهنة للإدارة السامية الأميركية.
يمكن قراءة فوز “ماريا ماتشادو”، زعيمةِ المعارضة الفنزويليّة، على أنّه تسلسلٌ منطقيٌّ للأحداث، وبخاصّة في ظلّ علاقتها الواضحة وربّما الفاضحة بالرئيس ترمب، ذاك الذي أَهْدَتْه جائزتَها تقديرًا منها لما أسمَتْه جهوده الدائمة للمعارضة الفنزويلية من أجل تحقيق الديمقراطيّة، ضدَّ نظام لم يجلب سوى الفقر والفساد وسوء الإدارة للوطن على حدِّ تعبيرها.
يبدو هنا أنّ واشنطن حزمتْ أمرها، وعقدتْ عزمَها على إثارة موجة جديدة من التغييرات الهيكليّة في بنية الأنظمة اللاتينيّة، لكن في الأفق بُعْدًا مغايرًا عن قصة المخدرات.
باختصار غير مُخِلٍّ، واشنطن ترى أنّ هناك تحولات سياسيّة مثيرة إلى مخيفة تجري بها المقادير في دول الجوار، والتي باتت تتبنى مواقف سياسية رافضة لمُحَدّدات وثوابت واشنطن من الدول القطبيّة الصاعدة، لا سِيَّما الصين.
عطفًا على ذلك، فَقَدَ اللاتينيّون ثقتَهم في العَمّ سام جملةً وتفصيلًا، لا سِيَّما بعدما وقر لديهم أن الأنجلوساكسون داعمون لإسرائيل في مواجهة الفلسطينيين الباحثين عن الحرّيّة والعيش الآمن.
مِنْ على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، خاطب زعيم كولمبيا غوستاف بيترو دولَ العالم الحُرّ، عن عدالة القضية الفلسطينيّة، وطالب أحرار العالم بتشكيل جيش لتحرير فلسطين، مقدمًا أول عشرين ألف جندي من وطنه، ما دعا الخارجيّة الأميركية لإلغاء تأشيرته، وتاليًا تَوَعَّدَه ترمب بالويل والثبور.
لم يكن سيد فقراء البرازيل، أنياسو دا سيلفا، أقلَّ من بيترو الكولومبيّ، ما يعني أن إرث هوجو تشافيز لم يمت، ما يدفعنا لفهم ماورائيات جمع هيغسيث سيد المحاربين المحدثين جنرالات وأدميرالات أميركا مؤخَّرًا، مُبْدِيًا الاهتمام الأكبر بنصف الكرة الآخر.
يتساءل “جود روسو” رئيس تحرير مجلة “ذا أميركان كونسيرڤاتيڤ”: هل العالم مستعد لتحَمُّلِ تكاليف فشل جديد للسياسات الأميركية في دولةٍ تنتج مليون برميل من النفط يوميًّا، لا سِيَّما في أوقات يَتَوَقَّع فيها العالمُ أزمةً اقتصادية خانقة؟
من الواضح أنَّ هناك شيئًا ما يجري التخطيط له لجهة فنزويلا، وبدتْ تصريحاتُ البيت الأبيض شبهَ متناقضة حول نِيَّة الرئيس ترمب التدخل عسكريًّا، أو التراجع عن هذا القصد.
لكن في كلّ الأحوال، ينبغي لنا أن نأخذ في عين الاعتبار تصريحَيْن لعضوَيْن بارزَيْن في مجلس الشيوخ الأميركي، رُبَّما يُمِيطان اللثام عن حقيقة الأمر هناك.
التصريح الأول جاء على لسان السيناتور ريك سكوت الجمهوريّ عن ولاية فلوريدا، والذي أشار إلى أن أيام مادورو في الحكم قد باتتْ معدودةً، وأن عليه أن يبحث له عن ملجأ آمن في روسيا أو الصين.
التصريح الثاني، فاهَ به عضوُ الكونجرس صاحب النفوذ الكبير ورئيس لجنة القوات المسلحة السابق في مجلس الشيوخ ليندسي غراهام، والذي قطع بأنَّ عملياتٍ عسكريّةً برّيّةً قادمةً في فنزويلا لا محالةَ.
هذان التصريحان حال وضعهما جنبًا إلى جنب مع ما يترَدَّد عن طلب الرئيس مادورو لدعم عسكري صيني وروسي، بشكل عاجل، يمكن للمرء أن يسترجع قصة الكاتب الروسي الكبير أنطوان تشيكوف، والتي جاءت في إحدى رواياته، حين قال: “إذا حكى أحدهم في الفصل الأول من رواية ما أن هناك بندقية معلقة على الحائط، فإنها حكمًا لا بد أن تنطلق على الأرجح في الفصل الثالث من الرواية عينها”.
غير أنَّ قضية الدخول في مواجهة عسكرية مع فنزويلا ليست من السهولة على البنتاغون، وهناك شكوك كثيرة حول قبول قيادات العسكرية الأميركية، من الجنرالات ذوي الأربعة نجوم لما يحدث. هل من إشارةٍ مُؤَكِّدة لهذا الرفض؟
في منتصف أكتوبر/ تشرين أول المنصرم، استقال القائد العسكري المشرف على عمليات قصف الرئيس ترمب للقوارب في البحر الكاريبي فجأةً. ولم يقدِّمْ الأدميرال ألفين هولسي، قائد القيادة الجنوبية الأميركية، أيَّ تفسير لهذه الخطوة، وكذلك وزارة الدفاع، والغريب في المشهد أنَّ الرجلَ لم يَمْضِ على تَوَلِّيه المنصب سوى أقلّ من عام، ممَّا زاد من غموض رحيله، وفتح الباب لتأويل المشهد، وما إذا كانت الاستقالةُ نوعًا من “أجراس الإنذار”.
كان أهمُّ مَنْ أطلق تلك الأجراس، وزير الدفاع السابق ليون بانيتا، والذي شَغَلَ كذلك لفترة زمنيّة منصب مدير الاستخبارات المركزيّة، فقد صَرَّح في حوار لقناة فوكس نيوز، بأنه لا بُدَّ أن يكون هناك دليلُ اتِّهامٍ واضح على من تقوم إدارة ترمب بقصفهم، أو أسمائهم على الأقل، أمّا القتل العشوائيّ فربّما يكون خارج القانون.
الأمر الآخر الذي أثاره بانيتا، هو ضرورة أن يصارح ترمب الشعب الأميركي بنواياه الحقيقيّة، وهل يريد مطاردةَ مُهَرِّبي المخدرات، أم إسقاط مادورو.
هل من خلاصة؟
غالب الظن أن العم سام لا يَتَعَلّم من أخطاء أفغانستان والعراق… لا دالة له على التاريخ… مدفوعٌ بالقوة الخشنة، ومجبولٌ على تكرار الخطايا الأصليّة لا العَرَضِيّة.



