أقلام وأراء

إميل أمين: أميركا مَسِيرات مليونيّة ومخاوف ديمقراطيّة

إميل أمين 21-10-2025: أميركا مَسِيرات مليونيّة ومخاوف ديمقراطيّة

لم يكنْ السبتُ المنصرم نهارًا عاديًّا في الولايات المتحدة الأميركية، بل يومًا ذَكَّرَ الأميركيين والعالم بما جَرَتْ به المقادير في زمن حرب فيتنام، حين خرجت الملايين إلى الشوارع مطالبةً برجوع خيرة شباب البلاد من ساحات الموت البعيدة في عمق آسيا الشرقية.

عبر أكثر من 2700 موقع وموضع، من نيويورك على الساحل الأطلسي، إلى كاليفورنيا على الجهة المقابلة من الهادئ، ومن مدن تكساس جنوبًا إلى سياتل شمالًا، خرجتْ الملايين في انتفاضةٍ سلميّة معبّرةً عن رفضها لمسارات ومساقات الأوضاع السياسية في الداخل الأميركي، خلال الشهور الثمانية من إدارة الرئيس دونالد ترمب.
لم تكن هذه هي المسيرات الأولى من نوعها في الأشهر القليلة الماضية، فقد شهدت عدة مدن أميركية في يونيو/حزيران الماضي، تظاهرات مشابهة، رفضًا للعرض العسكري الذي جرى في توقيتٍ مواكب لعيد ميلاد سَيّد البيت الأبيض، وقد بلغ عدد المتظاهرين في ذلك التوقيت نحو خمسة ملايين مواطن أميركي، فيما قُدِّرَتْ أرقامُ السبت الماضي بنحو سبعة ملايين أميركي، ما يعني أن هناك حالةً من تصاعد الغضب، وإن جاء بشكل سلميٍّ منزوع العنف.

لماذا تلك التظاهرات المليونية وما ورائيّات المشهد؟

“أميركا تنزلق في طريق الاستبداد”، هذا هو جوهر القصة، من بابها إلى محرابها.

الملايين التي خرجت، ترى أن هناك تهديدًا لروح الحياة الديمقراطية التي كفلها الدستور الأميركي، والقوانين والقواعد المنظِّمة للحياة السياسية، وأن إدارة الرئيس ترمب هي السبب الرئيس.

وبتفكيك صيغة الاتهام، إن جاز التعبير، فإن حَمَلَةَ اللافتات، يرون أن هناك حالة من حالات القمع غير المبرَّر أو المقبول تمضي بها وفيها الإدارة الحالية ، بدءًا بإرسال قوات فيدراليّة إلى كبريات المدن الأميركية مثل لوس أنجلوس وشيكاغو، مرورًا بزيادة عدد موظفي الهجرة وملاحقة المهاجرين غير الشرعيين، حتى وإن كانت هناك حاجة في بعض الولايات للأيدي العاملة، وصولًا إلى الطامة الكبرى والمتمثلة في وصم أي معارض سياسي، لا سيما من جهة اليسار، بأنه إرهابي، داعم للعنف السياسي، وصولًا إلى حد الإيذاء البدني، وما جرى للناشط اليميني تشارلي كيرك، بدا وكأنه مُسَوِّغ لإجراءاتٍ لا تَتَّسِقُ ومسارات الديمقراطية أو مسارات الليبرالية.

هل اليوم في الداخل الأميركي شبيه بالأمس بالمعنى المجازي وليس الحصري أو الحرفي؟

المقصود من التساؤل هو المقاربة التاريخية بين الاتهامات الموجَّهة اليوم لليسار الأميركي، أو أي حركة معارضة بين صفوف الديمقراطيين، وبين ما حدث في خمسينات القرن المنصرم، حيث قاد السيناتور جوزيف مكارثي، حملةً شعواء على كل رموز اليسار الأميركيّ، بتهم الانتماء إلى الشيوعية، الأمر الذي طال رموزا للفن والصحافة والكتابة والسياسة دفعةً واحدة.

الذين خرجوا إلى الشوارع يقولون إنَّ الرئاسة الأميركية الحالِيَّة تستخدم أموال دافعي الضرائب من أجل تيسير الاستيلاء على السلطة، وتهديد الحريات العامة في ربوع أميركا.

بل إلى أبعد من ذلك؛ إذ يرون أنّ هناك نوايا مخيفة تمضي بالولايات المتحدة الأميركية، لتحويل دفَّةِ مسارها من وضع سياسي استقر عليه الأمر منذ بدايات التكوين إلى أوان الخروج الحالي .. ماذا نقصد بهذه العبارة؟

من بين أهم القصص المرتبطة بمولد الدستور الأميركي، أنه غداة الانتهاء من الأمر، سألت واحدة من سيدات الطبقة الأرستقراطية الأميركية، بنجامين فرانكلين، السياسي والفيلسوف والمفكر الأميركي، الذي شارك في صياغة دستور البلاد: “ما الذي خلصتم إليه يا سيد فرانكلين جمهورية أم ملكية؟ فأجاب: جمهورية لو عرفتم كيف تحافظون عليها.

اليوم يتساءل نفرٌ كبير من الأميركيين: هل رغبة ترمب في الولاية الثالثة، على الضّدّ من بنود الدستور الأميركي تعكس نوايا التحول من وضع الجمهورية إلى وضع الملكية؟

هنا ليست الإشكالية في شكل من أشكال الحكم، ذلك أن الملكية لا تزال تحظى بتقدير فائق الوصف في الكثير من دول العالم، ولو خُيِّرَ أصحابُها في التحول إلى النظام الجمهوري، لرفضوا ذلك قطعًا.

الإشكالية هنا تتجلى في المخاوف الناجمة عن عقلية الرأي الواحد والصوت الواحد، والذي يقود إلى فاشِيّة عصرانية، أطلق عليها الرئيس الأميركي السابق جو بايدن في خطاب الوداع “التكنوفاشيزم” أو الفاشية التقنية.

صَوَّرَ حلفاءُ ترمب تظاهرات السبت الماضي، على أنها تيار مُعَادٍ للولايات المتحدة الأميركية، وأن حركات ثورية مثل “أنتيفا” هي من يقف وراءها، وأنها تحمل أجندات معادية للديمقراطية الأميركية.

لكنَّ الواقع يأبى قبول مثل تلك الافكار، فقد كان على رأس المتظاهرين عددٌ من كبار السياسيين الأميركيين مثل تشاك شومر وكريس مورفي، وهما من أعضاء مجلس الشيوخ عن الحزب الديمقراطي، بجانب العضو المستقل البارز بيرني ساندرز.

بدت هوليوود بفَنَّانيها حاضرة في تلك المسيرات، وعلى راس الحضور رجل بوزن “روبرت دي نيرو” النجم السينمائي اللامع، وغيره مِمَّن ظهرت صُوَرُهم على الشاشات التلفزيونية.

لم تستقم الاتهامات التي أطلقها رئيس مجلس النواب “مايك جونسون”، والتي اعتبر فيها أنّ ما يحدث هو دلالة على كراهية أميركا، وأن وراءها عناصر تؤيد التطرف والارهاب، بل حشر اسم تنظيم حماس الفلسطيني في القلب من المشهد.

هل هناك مخاوف حقيقية تكاد تحلق فوق سماوات الديمقراطية الأميركية؟

ربَّما نجد الجواب عند البروفيسور “بنيامين جولدسميث” من كلية السياسة والعلاقات الدولية في واشنطن، والذي كتب في إبريل/ نيسان المنصرم متساءلًا: “هل الديمقراطية في أميركا محكوم عليها بالزوال؟”

بحسب نص تصريحاته يقول، أشعر بشكل حدسي أن النظام محكوم عليه بالزوال.

بل أكثر من ذلك، فإن الرجل يعتقد أنه لديه أكثر من سبب وجيه يدعو للاعتقاد بأن ترمب سوف يرمي النظام القديم من النافذة ويَتَبَنَّى نظامًا جديدًا غير ليبراليّ.

هل لنا أن نختلف قليلًا مع البروفيسور جولد سميث؟

يمكننا القطع بأن هناك صمامات أمان أرْسَى الآباءُ المؤسّسون مثل فرانكلين وجيفرسون وآدمز ركائزَها في قلب الحياة والنظام السياسي الأميركي، تقطع الطريق على مثل هذه المخاوف، وفي القلب منها مسألة مراقبة السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية لبعضها البعض، وحتى لا يتجاوز أحدهما الآخر.

غير أن هناك مخاوف محدثة بدأت تطفو على سطح الأحداث مؤخرًا، وإن ظلَّ الصوت صامتًا، والغضبُ مكبوتًا حتى الساعة.

حين جمع وزير الدفاع، الذي تحول إلى وزير حرب، بيت هيغسيث قرابة 800 جنرال، حاول الرجل الذي لم يتجاوز رتبة رائد سابق في الحرس الوطني، فرض سلطته على القيادة العسكرية الأميركية الاحترافية، واختزل الاحتراف في معايير المظهر واللياقة البدنية مزيّفًا إيّاها بـ”روح المحارب” و”القوة القاتلة”.

أما ترمب فقد كان ازدراؤه للأميرالات والجنرالات واضحًا منذ البداية؛ “إذا لم يعجبكم ما أقوله، فغادروا الغرفة، وبالطبع ستُفقَد رتبتكم وسيُفقَد مستقبلكم”.

هل يعني ذلك أن المؤسسة العسكرية الأميركية ومن ورائها بقية أضلاع المجمع الصناعي الوثيق واللصيق الصلة بجنرالات وأميرالات البنتاغون، باتوا يستشعرون مولد دولة استبدادية تغيب عنها روح الديمقراطية؟

يخشى المرء أن يكون سيناريو كرة الثلج يطارد الإمبراطورية المنفلتة .. دعونا ننظر ونراقب.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى