إبراهيم نوار: نتنياهو ودرس شارون: تكرار الأخطاء ونكران الواقع

إبراهيم نوار 26-3-2025: نتنياهو ودرس شارون: تكرار الأخطاء ونكران الواقع
هو خارج السلطة يدير المؤامرات للعودة إليها، وهو داخلها يدير المؤامرات للانفراد بها. وعندما يشتد عليه الخناق فإن الحرب تكون ملاذه الأخير. لم يتعلم درس شارون. إنه التلميذ النجيب لنبيّه زئيف جابوتنسكي. هذه المرة، هل تكون الحرب هي نهايته؟ إنه بنيامين نتنياهو رئيس أكثر الحكومات تطرفا منذ نشأة إسرائيل. في الوقت الحالي، تطارده العدالة الدولية، كما تطارده السلطات القضائية داخل إسرائيل. إنه لا يفهم حدود استخدام القوة في الحرب، ولا في الاستحواذ على النفوذ. لا عهد له، يوقع الاتفاق وهو ينوي انتهاكه، وينتهكه، كما فعل أخيرا في اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، وفي اتفاق جنوب لبنان. وهو لا يفهم معنى الالتزام بالقانون، ولن يفهم إلا إذا أصيب بضربة سياسية قاسية تجعله يسقط مغشيا عليه.
لم يتعلم درس شارون
نتنياهو يعيد تقديم نسخة جديدة من أرييل شارون، الذي كان أيضا تلميذا نجيبا في مدرسة جابوتنسكي للإرهاب الدموي. بدأ الملازم شارون حياته العسكرية بمذبحة قرية «قبية» في الضفة الغربية عام 1953، حيث أمر بتفجير 45 منزلا بالديناميت بمن فيها من الأطفال والنساء. وراح ضحية هذه المذبحة 67 فلسطينيا، قتلوا في يوم أسود، بعضهم لم تخرج جثته من تحت الأنقاض. وقد حملت تلك المذبحة سمات بصمة وحشية صبغت كل أعماله العسكرية فيما بعد. وأمضى حياته في مطاردة الفلسطينيين وقتلهم وطردهم أو حرق بيوتهم بمن فيها، معتقدا أن ذلك هو الطريق إلى محو وجودهم. في بداية سبعينيات القرن الماضي دخلت عملياته الوحشية في الضفة الغربية وغزة مرحلة جديدة، وبدأ حملة اغتيالات لقيادات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، من بيت إلى بيت عبر المخيمات. وبعد ثلاثين عاما، عندما أصبح رئيسا للوزراء، نشر طائرات إف- 16 وصواريخ هيلفاير فوق المخيمات نفسها، لكنه هذه المرة كان يستهدف جيلا جديدا من المقاتلين، الذين لم يكتفوا بتنظيم صفوفهم لمقاومة الاحتلال، وإنما اكتشفوا طريقا لنقل الحرب التي كان الاحتلال يشنها عليهم داخل المخيمات إلى حرب في شوارع تل أبيب يشنونها هم عليه.
وفي ثمانينيات القرن الماضي قاد شارون حرب إسرائيل ضد المقاومة في لبنان، ولم يكتف باحتلال الجنوب حتى نهر الليطاني، وإنما عبَر النهر وواصل عملياته إلى العاصمة بيروت، وحاصرها لمدة تقرب من ثلاثة أشهر، حتى قَبِل أبو عمار سحب قواته من لبنان لإنقاذ العاصمة العربية. وقد ارتكب جنود شارون بالمشاركة مع قوات حزب الكتائب اللبناني مذبحة صبرا وشاتيلا الوحشية المروعة، التي راح فيها ما يقرب من 300 من الشهداء الفلسطينيين. وظل شارون محافظا على ملامح بصمة سياساته الوحشية ضد الفلسطينيين؛ فأقام المستوطنات لتطويق القدس الشرقية، وتطويق الضفة الغربية وتفتيتها، ثم أقام الجدار العازل. لكن شارون الذي قاد حصار بيروت في عام 1982 بهدف تصفية منظمة التحرير الفلسطينية تماما، فشل في تحقيق هذا الهدف، بل إن عرفات بعد خروجه من بيروت عاد إلى رام الله في قلب الضفة الغربية وليس إلى لبنان. كما أنه فشل في حصار غزة أكثر من مرة حتى وصل به الحال، إلى أنه تمنى لو كان يستطيع قطع غزة وإلقاء أهلها في البحر. ولأنه لم يقدر على ذلك، وأدرك أنه لن يستطيع؛ وافق على الحد من الاستيطان في الضفة الغربية، وقَبِل فكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة، وبادر إلى الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من قطاع غزة. يقول ديفيد بولوك رئيس منتدى «فكرة» في معهد واشنطن، إن هذا التحول في رؤية شارون للمستقبل بعد تجاربه الوحشية الدموية ضد الفلسطينيين كان «مجرد تناقض سطحي؛ إذ لا يمكن إلا لرجل يتمتع بسمعة شارون في الصلابة أن يُحدث مثل هذه التغييرات بنجاح كبير». وقال هنري كيسنجر في مقال يرثي فيه شارون بعد موته (2014) إن «الرجل الذي ربط الأمن بالاستحواذ على الأراضي، أصبح على استعداد للتنازل عن الأراضي مقابل نتيجة تحقق آمال السلام». ومن وجهة نظر كيسنجر فإن تحقيق سلام دائم لن يكون بنفي طرف للطرف الآخر، ولا باحتلال المزيد من الأراضي، ولكن باتخاذ خطوات ملموسة لتعزيز فرص إحلال السلام. كذلك فإن حصار بيروت عام 1982 كان بمثابة أقوى المحركات التي أدت إلى ظهور حزب الله، بديلا عن «حركة أمل» في التعبير عن هوية شيعة لبنان سياسيا وعسكريا. وكما خلقت حروب لبنان والضفة وغزة جيلا جديدا من المقاومة، فإن استمرار الحرب يعني إعادة ولادة المقاومة، ربما في أطر أكثر تشدد من قبل. إن درس شارون الذي لم يستوعبه نتنياهو، يثبت أن فكرة استئصال المقاومة وتحقيق السلام بالقوة هي وهم يعيش فيه نتنياهو، وأن المقاومة لن تموت، وأن السلام لن يتحقق، طالما بقى هناك احتلال للأرض، وطالما عاش الفلسطيني محروما من وطنه القومي.
حرب بلا مخرج
الحرب التي يخوضها نتنياهو، كما يقول، على 7 جبهات، امتدت خلال الأسبوع الماضي إلى جبهة ثامنة، هي الجبهة الداخلية، حيث اشتعلت المعركة بينه وبين رئيس جهاز الأمن الداخلي رونين بار، وبينه وبين المستشارة القضائية للحكومة غالي بهاراف- ميارا، على خلفية رغبته في التخلص من كل منهما. وتهدف حروبه الخارجية إلى فرض ما يسميه نتنياهو «سلام القوة» بينما تهدف الحرب الداخلية إلى فرض نظام الفرد الواحد، وإنهاء سلطة القانون والمؤسسات، بإخضاعها جميعا لسلطة حكومته. ويواجه نتنياهو معسكرا قويا في الداخل، حيث تجري محاكمته في قضايا فساد، و تحقيقات قضائية بشأن تورط موظفين تابعين له، فيما أصبح يعرف بفضيحة «قطر غيت» التي تتضمن شبهات مالية. كما يخضع لقيود إدارية أصدرها مكتب المستشار القضائي ضد قرار الحكومة بإقالة رونين بار. هذا المعسكر المضاد لنتنياهو يضم أيضا مئات الآلاف من الرافضين لحرب غزة، ومنهم آلاف من جنود الاحتياط، الذين أعلنوا أنهم لن يستجيبوا لأوامر الاستدعاء للخدمة العسكرية. وعلى العكس من الوضع الداخلي يتمتع نتنياهو بمزايا، رغم رفض الرأي العام العالمي وعدد كبير من الدول والقوى الديمقراطية في العالم. هذه المزايا تتمثل في انقسام البيت الفلسطيني، والعجز العربي، وتأييد الولايات المتحدة.
ومن أجل إضعاف وإزالة تداعيات هذه المزايا من الضروري استخدام ثلاثة مداخل. الأول هو تحقيق وحدة البيت الفلسطيني، ولا يبدو أن جدول الأولويات الفلسطينية مرتب على الوجه الصحيح. إسرائيل تعرف أولوياتها وتعلنها بوضوح: استعادة المحتجزين، القضاء على حماس، احتلال قطاع غزة، تهجير أكثر من نصف سكانه أو كلهم، وإقامة نظام جديد يعيد البناء على مقاس المصالح الإسرائيلية والأمريكية. أي باستخدام مصطلحات الحروب الجاهلية أن يكون قطاع غزة «غنيمة حرب» تحصل عليها إسرائيل وأمريكا. أما جدول الأولويات الفلسطينية فإنه يبدأ موضوعيا من الإصرار على فتح طرق الإمدادات الإنسانية كافة بلا قيد ولا شرط، وإنهاء الاحتلال والحصار، وترك أمور إدارة القطاع لأهله يقررون فيها ما يرتضون. هذا يعني عمليا أن طريق الأولويات يبدأ من العودة إلى الاتفاق الأصلي الأخير (يناير 2025) لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والمحتجزين. هذا الاتفاق توقف بعد مرحلته الأولى، وانسحبت إسرائيل من المرحلة الثانية، وعادت إلى القتال واحتلال قطاع غزة. في هذا الوضع فإن جدول أولويات الشعب الفلسطيني لا يبدأ من إخلاء غزة من السلاح، وإنما بالتأكيد على الالتزام بشروط الاتفاق، وإجبار إسرائيل على الانسحاب وإنهاء الحصار تماما. ومن الضروري في هذا السياق أن تهتم أطراف البيت الفلسطيني بصياغة وتوجيه رسالة سياسية واضحة للرأي العام الإسرائيلي والأحزاب السياسية المعتدلة وحركات السلام المؤيدة للفلسطينيين، تؤكد أن المقاومة الفلسطينية تسعى للتعايش وليس للحرب، لكنها، في الوقت نفسه، قادرة على الدفاع عن نفسها.
المدخل الثاني هو الحاجة إلى فعل عربي، ليس بيانات ورقية أو تصريحات صوتية، يكون في حد ذاته ضغطا حقيقيا على حكومة نتنياهو وعلى الولايات المتحدة لإنهاء الحرب. يجب إعلان وقف التنسيق مع نظام الدفاع الجوي الصاروخي للشرق الأوسط، المعمول به في إطار القيادة العسكرية الوسطى للولايات المتحدة. ويجب حرمان الطائرات الإسرائيلية من العبور في الأجواء العربية، وإعلان تجميد اتفاقيات التعاون مع إسرائيل، حتى وقف القتال وإنهاء الاحتلال والحصار. وفوق كل ذلك يجب التمسك بكل قواعد العزيمة والانضباط الصارم بين مقاتلي المقاومة، للمحافظة على حياة المحتجزين، ورد اعتداءات الجيش الاسرائيلي، والحذر من الفوضى التي يحاول نشرها في قطاع غزة. الحرب النفسية التي تلعبها حماس بعبقرية واضحة تمثل سلاحا مهما في تحريك الشارع الإسرائيلي. نتنياهو وحكومته في مأزق من الضروري تعميقه.