منوعات

أحمد دخيل: من مخيم جرمانا إلى الأقصى: معادلة الحلم والحقيقة

أحمد دخيل 28-12-2025: من مخيم جرمانا إلى الأقصى: معادلة الحلم والحقيقة

في مخيم جرمانا، حيث تتحول الأزقة لسجادة طينية في الشتاءات، ما زالت جدرانه تهمس لي: “احفظ فلسطين في قلبك، كي لا يسرقها النسيان”. كنت أظنها همساً من وحي الحنين، حتى وقفت تحت قبّة الصخرة ذات يوم. لا أحسب أنها كانت صلاةً فحسب، لقد كانت عودةٌ لجسدٍ افتقده روحي طوال سنوات اللجوء. شعرت بأن حجارة الأقصى تعرفني، فتحدثت إليّ بلغة أقدم من التاريخ. لكن النظر من شرفات المسجد إلى الأفق كان درساً آخر. هناك، على تلال القدس، تتمدّد المستوطنات كأنسجة غريبة عن جلد الأرض، خطوطها المستقيمة تقطع التلال بوقاحة، كأنها تعلن أن الجغرافيا نفسها قابلة للاختطاف. سألت نفسي: كيف لهذا الحق العميق الذي أشعله الآن تحت القبّة، أن يُحاصَر بهذا الجدار الإسمنتي البارد؟.

في تلك اللحظة، عند حافة المقدس حيث يتلاقى الحلم مع الجرافة، فهمت أن معركتنا ليست بين حق وباطل فحسب، بل هي بين ذاكرتين: ذاكرة نحميها بالدم، وذاكرة يفرضونها بالأسمنت. الحق هو هذا الحضور الذي لا ينقطع، هو أن تحمل فلسطين فيك كإيقاع للقلب، حتى وإن ولدت تحت خيمة. هو أن تعرف أن اسمك الأول “عائد”، حتى وإن سجّلت في الأوراق الرسمية “لاجئ”. هو ما جعل من أزقة مخيم جرمانا، بكل ضيقها، متحفاً حياً للرواية. رأيته في عيون امراة من جيل النكبة وهي تحكي عن شجرة التين في الحولة، وكأنها تصف إبنةً فقدتها. هذا الحق نعجز عن قياسه بمساحة الأرض التي تسيطر عليها الجرافات، إنما بعمق الجذور التي تبقى حية و إن كانت تحت الأنقاض.

لكن الأقصى علمني أن الجذور تحتاج إلى أغصان تلامس السماء. هنا تبدأ الجدوى. لقد رأيت بعيني كيف يحوّل المحتل الجغرافيا إلى سجن، والزمن إلى سلاح. فهمت أن الجدوى هي أن نسرق الزمن من جديد. أن نحول الحنين من دمع على الماضي إلى بذرة للمستقبل. أن نكون أذكياء في حبنا، عنيدين في إبداعنا. الجدوى هي أن يتحول المخيم من مكان ينتظر العودة إلى ورشة تبنيها. أن لا نكتب قصائدنا على الدفاتر فحسب، سنكتبها على جدران المدارس، وننشدها في الأماسي والسهرات، وفي كل زيارة للأقصى نخترق فيها حواجز الخوف.

لقد سألت نفسي: ما قيمة قصيدة أكتبها في غرفة وحيدة هي كل منزلي، أمام آلة استيطان تجرف الجبال؟ ثم أدركت أن المستوطنات لا تبني بيوتاً، إنها تعلن “نهاية” مزعومة للقصة. والجدوى هي أن نثبت أن القصة لا تزال تُكتب، بكلمتنا، بصمودنا، بذاكرتنا الحية. هي أن نجعل من كل بيت يقام في المخيم فصلاً جديداً، ومن كل طفل يتعلم اسم قريته خريطة مقاومة. هي المعركة ضد اليأس، هذا العدو الخفي الذي قد يكون أخطر من الجرافة.

لا يمكن للشاعر أن يقف عند حدود الحلم. عليه أن يحوّل الوجع إلى خطة، والنار في الصدر إلى نور يضيء الدرب. زيارتي للأقصى ليست ختاماً للرحلة، إنها البداية الحقيقية. بداية فهم أن الحق الذي لمسته هناك يحتاج إلى ذراع تطبقه على أرض الواقع. جدوى الشاعر أن يحوّل الكلمات إلى جسور، وأن يجعل من قصيدته سلاحاً لا يقتل، بل يحيي.

في العودة إلى مخيم جرمانا، حملت معي أكثر من ذكريات. حملت يقيناً بأن فلسطين لن تبقى حبيسة الذكرى. فالذاكرة التي تتحول إلى مشروع لا تقهر. والأحقية التي تلبس ثوب الإرادة تصبح قدراً. الطريق من المخيم إلى الأقصى هو رحلة الوعي التي نصنعها كل يوم: أن نحلم بأقصى الحلم، ونعمل بأقصى الجد، حتى يلتقيا على أرض الواقع، فيقدّم كل منهما شهادة للآخر. حينها فقط، نقول أننا لا نحمل فلسطين في القلب فحسب، إنما نراها تمشي على القدمين، وتُمسي وتُصبح.

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى