أحمد دخيل: صخر حبش: جبل الفكر وضمير الوطن
أحمد دخيل 2-11-2025: صخر حبش: جبل الفكر وضمير الوطن
بسم الذكرى التي تعلو كالسنبلة في حقل الآلام، نستدعي اليوم رجلاً صار جبلًا.. صخرٌ اسمه، وفتحٌ انتماؤه، وفلسطين روحه.
في البدء كانت يافا — صلاة مفتوحة على البحر. هناك، في طفولته، حمل في جيبه حجرًا من بيت دجن وعهدًا لا يُنقض. حيث تُهجّر الأطفال من فراش النهر، تعلّم أن الوطن يُستعاد بنداء العقل وصرخة اليدين.
في المخيمات، التي تعلّمت فيها لغات الصبر قبل الحروف، تشكّل وعيه المبكر: أن المقاومة فعل معرفة قبل أن تكون رصاصة، وأن الثقافة الوجه الأكثر نقاءً للبندقية.
تعلّم الجيولوجيا، فقرأ طبقات الأرض كما يقرأ العاشق أسرار محبوبته. وحين عاد من منافيه الأكاديمية، حمل في يديه خريطة التربة وفي قلبه خريطة الحرية. لم يكن زعيمًا بالمظهر، كان فيضًا من العقل الهادئ، يرى في العمل الوطني رسالة أخلاقية قبل أن يكون وظيفة نضالية.
انضم إلى كوكبة مؤسسي حركة “فتح”، كشجرة تعرف كيف تحمل ظلها معها أينما رحلت. كان يؤمن أن الكلمة شظيّة وعي، وأن الوطن فكرة قبل أن يكون حدودًا. ظلّ في كل العواصف صوتًا للعقل، يوازن بين لهيب الثورة وهدوء الحكماء، ويرى في الشباب مرايا المستقبل، وفي الثقافة درعًا يحمي المشروع الوطني من التكلس.
في حياته البسيطة، لم يطلب جاهاً ولا ألقابًا، واكتفى بأن يكون ضميرًا يمشي على قدمين. لم يتكلم من فراغ، وكأن الكلام ينبع من جرح حيّ، ولم يثور بدافع الغضب، ولكن بدافع الإيمان. فلسطين عنده أنثى لا تُغتصب باليأس، بل تُستعاد بالحب والعمل الدؤوب.
عندما رحل في الأول من نوفمبر 2009، احتضن تراب البيرة جسده كما تحتضن الأم طفلها العائد من المنافي. لكن الرجال الذين يشبهونه لا يموتون، جذورهم أعمق من أن تُجتث، وظلالهم أطول من أن تُختصر في صفحات التاريخ.
بعد ست عشرة سنة، يظل صخر حبش قيمة أخلاقية نادرة. حضوره يتسلل إلى ضمير كل من يبحث عن معنى الانتماء في زمن صارت الوطنية فيه شعارًا يُباع ويُشترى. كان يردد دائمًا: “احموا الفكرة قبل الراية، فإن سقطت الفكرة سقطت الأوطان ولو بقيت الرايات عالية.”
سلامٌ عليك أيها الجبل الذي لا ينكسر، على الحبر الذي سال من يدك ولم يجف، على الفكرة التي ظلت تتوهج في صمتك، وعلى الإنسان الذي أثبت أن القائد يمكن أن يكون مثقفًا، وأن المثقف يمكن أن يكون مقاتلاً من أجل الجمال والعدالة معًا.
سلامٌ على صخر حبش – أبي نزار، الذي جعل من اسمه نبوءة تتحقق: كان صخرًا في الموقف، فتحاويًا في الإيمان، فلسطينياً في جوهر الوجود.



